نخطئ كثيراً حين نخلط على هذا النحو المريع بين الوظائف الاجتماعية لمختلف الفئات والفعاليات الاجتماعية العاملة، وأجزم أن لا شئ أضر وأشر من هذا الخلط، لأنه يخلط كما تقول العرب بين الحابل والنابل، لعلمهم الفطري بأن لكل واحد منهما وظيفة محددة ومهاماً معينة، ولذا حين تختلط الوظائف والمهام تعم الفوضى ويصبح الجميع في حيرة من أمرهم.

قمة الوظائف في الأرض
ولكن دعنا نقرر منذ البدء أن لا فضل لمهنة على أخرى، فكل المهن تشكل في مجموعها وظائف اجتماعية لا تغني أحداهما عن الأخرى. ومن هذا المنطلق فإن للإعلامي، مثلما للمفكر، والمزارع والراعي، وصائد الأسماك والإسكافي، والمعقب، والمعلم والأستاذ الجامعي، والإختصاصي في مجال معين، وباختصار فلكل صاحب مهنة وظيفة اجتماعية لا يمكن الاستغناء عنها. فالكل خادم لمجتمعه ويؤدي وظيفة في إطار اختصاصه ولعل أبلغ تعبير عملي عن هذا الفهم، أن الملك فهد بن عبدالعزيز سمى نفسه خادم الحرمين الشريفين، وكما لا يخفى فإنها قمة الوظائف في الأرض، ولكنه أطلق على وظيفته " خادم ".
ألم نسأل أنفسنا لمِ اختارها هذه الصفة. حسناً إذا كنا لا زلنا نجهل بأن لكل إنسان يعمل في هذه الدنيا وظيفة محددة.. فإننا سنظل نركض في المتاهة من انعدام الرؤية أو اختلاطها، في أحسن الأحوال.

ما الخلط بين الوظائف ؟
حسناً.
قد يُلح عليك ما الداعي لكل هذا الكلام ؟
أتعرف ؟.
حين يختلط الحابل بالنابل على النحو الذي شرحته لك، تعمُّ الفوضى، ويفقد المجتمع بوصلته ليتخبط في كل الاتجاهات بلا دليل، ولا يعرف أحداً حدوده، ولا أخيه في المجتمع، وبالتالي تتداخل الأمور، وتضيع المعالم بين الحقوق والواجبات، وفي النهاية تذهب مصالح المجتمع في أدراج الرياح. وكل هذا بسبب الخلط بين الوظائف الاجتماعية لمختلف المهن. ومن هذا المنطلق يمكنك أن تسأل ما هي الوظيفة الاجتماعية لوسائط الإعلام ؟.
إن وظيفة الوسـائط الإعلامية الاجتماعية تتلخص في أنها من ناحية " مرآة عاكسة "، ومن ناحية أخرى فإنها تعمل كـ " وسيط ".
فماذا يعني هذا ؟.
من الناحية الوظيفية فإنه يعني التالي :
1.كمرآة عاكسة، فإنها تطرح الرأي العام قضايا نوعية ما، قد تكون ظواهر سياسية أو ثقافية، أو اجتماعية أو اقتصادية، أو أزماناً، أو مشاكل، أو إشكالات.
علماً بأن واحدة من هذه القضايا يحتاج إلى تعريف وتفصيل ؟، ليس هذا هو مقامه ومكانه المناسب.
2.أما وظيفتها كوسيط، فإنها تقوم بعمل جسروي بين الرأي العام وذوي الاختصاصات والمفكرين وغيرهم من النُخب التي تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر في تشكيل الرؤية الاجتماعية في أي مجتمع كان في العالم.

أي خطاب نتبنى ؟
ومن هما اكتسبت أجهزة ووسائط الإعلام في عالمنا المعاصر أهميتها.
وقد إستبان خطورة دورها في تشكيل وتكييف الرأي العام من خلال تجربة الإعلام الأمريكي الذي استطاعت القوى الصيهونية من السيطرة عليه، وان تقوم من خلاله بعملية تكييف للرأي العام الأمريكي، بما يخدم مصالح إسرائيل والقوى الصيهونية. إلا أننا وظفنا هذه القوة الإعلامية توظيفاً غريباً حين جعلناها مجرد " صدى " وصوت ببغاوي يردد ما يقوله أو يريد أن يسمعه المسؤول الحكومي. فأصبح الإعلام عندنا صوت ببغاوي. دون ان ننبه إلى خصوصية كل تجربة عربية. رغم القاسم المشترك بين هذه التجارب، والتي تتلخص في أن العالم أصبح ما يشبه غرفة واحدة وليس كما كان يقول قرية واحدة. فوسائط الاتصال جعلت أي صبي أو فتاة في أي مكان من العالم يتصل بالعالم كله بخيره وشره.
في ظل هذا الواقع هل يحتاج ولاة الأمر والناس إلى خطاب تطبيلي ومصفق يهتف موافقاً في كل الأحوال ؟!. هذه قضية يجب أن ننتبه لها جيداً.

غياب الحرفية إلى أين؟
حسناً.
دعنا نعود إلى القضية الرئيسية.
لقد قلنا من قبل أن وظيفة الإعلام هي أن يطرح قضايا وأن وسيلته طريقتين : إحداهما استطلاع رأي المفكرين وذوي الاختصاص، والثانية أن يفعل ذلك بعكس الواقع كما هو معاش. ولكن الذي يحدث في أجهزتنا الإعلامية يؤكد أنهم لا يعبأهون بأي من هاتين الوسيلتين لكي تقوم بدورها بشكل فعال ومؤثر يحقق وظيفته. فهناك أسساً حرفية لكي يقوم المذيع أو مقدم البرامج، ولكن وبسبب الفوضى السائدة وغياب الوعي بدور كل أحد، تجد أن المذيع أو مقدم البرنامج يقوم بدور غير مُدرج ضمن مهامه فينصب من نفسه مفكراً مقابل المفكر الذي يستضيفه في البرنامج المعين. وبالتالي فإنه لا يحاول " حرفياً " استنطاقه ليعبر عن أفكاره، ولكنه يخلق مناظرة غير متكافئة بين طرفين ينتمي كل منهما إلى مجالٍ معرفي مختلف. ويؤدي وظيفة اجتماعية مختلفة.
وهنا تحدث الفوضى.
لأن المذيع أو مقدم البرنامج يحاول أن يقوم بدور هو غير مؤهل له حين ينصب نفسه مفكراً، وكذلك الحال إذا حاول المفكر أن يقوم بدور المذيع أو مقدم البرامج حتى وإن كان مؤهلاً للقيام بهذا الدور بحكم سعة أفقه، إلا أن الناحية الحرفية المهنية ستخذله لا شك.

وهنا تكمن الورطة
لقد شهدنا في قنواتنا العربية الكثير من مثل هذه المآزق لتي يقع فيها وفي أفخاخها الضيف المفكر أو الاختصاصي والمضيف المذيع أو مقدم البرنامج، ولكن يقع فيها أيضاً المشاهد والمتلقي حيث تختلط عليه الأمور فلا يعرف من هو المفكر ومن هو الإعلامي الذي تنحصر مهمته في إتاحة الفرصة للمفكر كي يعبر عن أفكاره ورؤاه، حيث يجد المذيع أو مقدم البرنامج يسمح لنفسه الحق بإطلاق أحكاماً قطعية عن رؤاه هو الشخصية، منطلقاً في ذلك من انطباعات فطيرة عن أفكار هذا المفكر أو ذاك الاختصاصي، دون أن يمتلك الأدوات والخلفيات الأكاديمية والفكرية التي تؤهله لهذا الشكل من المناظرة.
مع أن غاية ما يجب، وما يمكنه القيام به هو استفزاز هذا المفكر أو الاختصاصي بهدف استنطاقه وإخراج ما في جعبته من أفكار ورؤى، وبطريقة لبقة تحفظ لهذا المفكر قدره ومكانته، لا أن يجعل من نفسه كفؤاً لهذا المفكر في مجاله. مثل هذا الكلام لا يقال تقليلاً من مكانة الإعلامي، ولكني أقوله من منطلق حرفي بحت، إذ يجب أن يعرف كل أحد حدود وظيفته الاجتماعية. وحتى يعرف كل أحد كيف يؤدي وظيفته على النحو الصحيح والكامل. ولعل هذه واحدة من آفات العقل العربي، فالكل يريد أن يقوم بكل الوظائف دون أي استعداد، في حين يتجه العالم إلى التخصص. فأنا، لا، ولن يمكن أن أصبح في الوقت ذاته مفكراً وإسكافياً وإعلامياً ومزارعاً وصائد أسماك بحرية، أي أن أصبح كل شئ.

البحث عن طريق ثالث
ولكن حين تختلط الأمور يمكن لمذيع أو مقدم برنامج ما أن يسمح لِنفسه، ولا تدرى كيف، لأن يقيَّم أفكار ورؤى مفكر يستضيفه في برنامجه، ومن ثم يناقشه باعتباره مفكراً مثله، سماوياً ما بين المقامين، وهذا لا يجوز.
فإلى أين يقودنا هذا النهج ؟.
ألن يقودنا إلى أحدى النهجين ؟.
إما أن نبحث عن خطاب إسلامي بديل..؟
وإما أن نبحث عن مسارب في هذا الخطاب الإسلامي القائم ليوصل الرؤية الإسلامية الصحيحة والسليمة ؟.
فهل من طريق ثالث ؟.
هذا ما أطرحه بإلحاح.

أكاديمي وكاتب سعودي

[email protected]