الضجة والمخاوف المرتبطة بالانتخابات، والتي تبرز في تصريحات ساسة وكتاب ورجال دين عراقيين سنة، وفي تصريحات مسؤولين ومعلقين عرب، وحتى غربيين، تتحدث عما يوصف ب"تهميش" العرب السنة من العراقيين بسبب مقاطعة الانتخابات. الحقيقة أن المقاطعين من الراغبين حقا في إجراء انتخابات عراقية وليس اعتراضهم إلا على الموعد، هم أقلية من السنة العرب. أما القوى "السنية" الأساسية والحاسمة للمقاطعة، فهم البعثيون الصداميون، وحلفاؤهم القاعديون من الزرقاويين، وهؤلاء يحاربون الانتخابات ليس بسبب الموعد بل لكونهم لا يريدون أية انتخابات حرة لأنهم ضد الديمقراطية أصلا. وهذا ما أعلنه فرعهم "الزرقاوي" صراحة. إلا أن المؤلم أن هذه القوى الدموية المسلحة وحسنة التمويل، قد نشرت جوا من الرعب والابتزاز والتخويف بين أوساط من المواطنين السنة الأبرياء من العنف، وذلك في العديد من المناطق، مما يجعلهم يخشون المشاركة في التصويت. ومما راج أيضا أنه حتى زعماء الحزب الإسلامي الإخواني، الذي وافق في البداية على المشاركة، قد تلقى زعماؤه تهديدات بالقتل لو شاركوا، فانسحبوا تحت التهديد.
أما على صعيد آخر، فإن هناك عددا كبيرا من السنة العرب في أحزاب وتجمعات سياسية من المشاركين في الانتخابات، ولبعضهم اليوم مناصب رفيعة في الدولة؛ هذا ناهيكم عن أن أكراد كردستان والتركمان هم بغالبيتهم الساحقة من المذهب السني.
صحيح، أن هناك بعدا مذهبيا قويا وراء بعض الصراعات السياسية والانتخابية، ولكن المعركة الكبرى، التي يجب أن تخاض، هي بين الحريصين حقا على قيام نظام ديمقراطي في العراق، وبين أعداء الديمقراطية، حتى إن رفعوا للتمويه شعارات مبهمة أحيانا لستر أهدافهم الحقيقية. وقد برهنت تجارب دولية وكثيرة أن بعض القوى الاستبدادية لا ترفض الانتخابات بل قد تشجع عليها بأمل الوصول لمركز التسيد والاستحواذ في السلطة. ويعمل بعض رؤساء الدول على إجراء الانتخابات ليضمنوا تمديد ولايتهم، بصورة "شرعية".
إن قبول المشاركة في الانتخابات العراقية لا يعني بحد ذاته، وفي كل الحالات، عزما حقيقيا على بناء الديمقراطية وإيمانا بها، بل قد يكون الأمر على العكس تماما!
إن ما نشاهده اليوم في الوضع السياسي العراقي لعام هو تفاقم الجرائم الإرهابية وحرب استماتة يقودها بعث صدام لتدمير العملية الانتخابية، واستخدام سلاح التخويف والترويع لشل إرادة المشاركة.
بالأمسقالت سيدة مسيحية وهي تسجل اسمها للتصويت خارج العراق: "لا يزال شبح صدام يلاحقنا." الحقيقة أن هذا الشبح صار يلاحق فئات واسعة من العراقيين داخل العراق وخارجه. وأسباب القلق من خطر عودة الصدامية، بصيغة أخرى، ناجمة أساسا عن تساهل الحكومة والقضاء العراقيين في التعامل مع القتلة الإرهابيين بعد اعتقالهم، وإطلاق سراح المئات منهم دون محاكمات، وعدم تنفيذ بعض أحكام إعدام صدرت بالفعل. كذلك، هذه المماطلات في محاكمة أقطاب النظام السابق برغم وعد بعد وعد، وتدفق المئات الجديدة من البعثيين، الذين كانوا مع صدام حتى النهاية، لمراكز حكومية هامة، وحتى بين أجهزة الداخلية والأمن دون أن نسمع ولا مرة أن أحدهم نشر مثلا رأيا أو تصريحا يدين ممارسات صدام ونظامه، ويعتذر للشعب إن كان له دور فعال عهد ذاك لا يرقى لمستوى الجرائم.
إن هذه الحالة، وإن استهداف المزيد والمزيد من أبناء الطائفة الشيعية للقتل والتفجير، من شخصيات سياسية وموظفين، ومن مواطنين عاديين، وتدمير المساجد الشيعية، والإعلان في بعض البيانات باسم الزرقاوي والبعث عن تخوين الشيعة، والدعوة لقتلهم، وشتم مرجعهم الديني الأعلى، لا بد وأن تخلق ردود فعل من الغضب الشديد، قد تكون أحيانا انفعالية، وقد تشجع عند بعض الناس نزعة مذهبية مضادة؛ ولكنها أيضا راحت تؤثر حتى على بعض المثقفين العلمانيين، الذين يحصرون الخطر الوحيد الذي يتهدد العراق ومستقبل العراق في خطر عودة النظام السابق بوجه وصيغ وتكتيكات جديدة، وبمباركة من معظم الدول العربية.
أجل، إن هذا الخطر قائم حقا ولابد من العدة لمواجهته، وأجل إن للحكومة مسئوليتها في جعل هذا الخطر كابوسا بقلق العدد الأكبر من العراقيين؛ ومع ذلك فعلينا، في الوقت نفسه، أن نتذكر دوما خطرا آخر يقوى وينشط بكل السبل والأساليب، وأعني خطر النظام الإسلامي بهذه الصيغة أو بتلك، والذي برهنت تجاربه الإيرانية والأفغانية والسودانية وغيرها على كونه استبدادا وطغيانا سياسيين، يسخران الدين والمذهب لمآرب سياسية. فكم من الآلاف أبادتهم "ثورة" خميني؟ حتى الحركات والأحزاب التي ساندته جرى إغراقها بالدم، وفتحت لها أبواب السجون المظلمة. وأجهز نظام ولاية الفقيه على ما كان باقيا في المجتمع من مظاهر تحضر، واستعبدت المرأة وسحقت على حقوقها. وماذا في السودان غير الإبادة المستمرة للمسيحيين؟ وأما الطالبان فجرائمهم معروفة وقد نالوا العقاب العادل.
لقد رأينا نموذجا مصغرا من دويلة الفلوجة الطابانية السنية، وما اقترفته من جرائم وانتهاكات بمباركة فلول صدام نفسها. ولكن هناك نموذجا آخر تتكاثر التقارير عنه منذ سقوط صدام ولحد يومنا، وهو نموذج السيطرة الدينية المذهبية في البصرة، تلك المدينة العظيمة التي عرفت بالتسامح واختلاط اللغات والأعراق والأديان. هنا، في البصرة، ومنذ سقوط الفاشية الصدامية، تحولت المدينة إلى "ولاية إسلامية" على حد وصف تقرير ميداني للصحفيةشهرزاد فارمازي المنشور في 25 مارس 2004. فمنذ الأيام الأولى، وأمام أنظار القوات البريطانية، كان يجري إرغام الطالبات وحتى المسيحيات على لبس الحجاب، حتى وصل اليوم لحد تهديد السافرة بإطلاق الرصاص. وكما كان في الفلوجة، جرى منع بيع الكحول، وتعريض باعتها وباعة أشرطة الفيديو للقتل، وتم إغلاق النوادي والمطاعم لبثها الموسيقى، وتعرض المسيحيون والصابئة المندائيون للاضطهاد الحال كما في بعض مناطق بغداد وفي الموصل. وفرضت الأحزاب الإسلامية بسلاح التخويف على الناس الالتزام بقواعد "الشريعة". ومنذ سقوط النظام الفاشي، راح رجال الدين في البصرة يوجهون تعليمات للطلبة بإطلاق اللحى وللطابات بالسفور،[ انظر تقرير الشرق الأوسط ليوم 19 مايو 2003].

أليس هذا بعض ما يعنيهالدكتور حسين الشهرستاني، العضو البارز في القائمة "الائتلافية"، التي تبنتها المرجعية الشيعية العليا، حين يصرح في التلفزيون:"لا نريد إقامة ولاية الفقيه، لكننا نريد أن يكون الدستور إسلاميا"؟ هل تراد العودة لإلغاء القانون المدني للأحوال الشخصية، وإلغاء قانون الإدارة المؤقت؟؟!!
وأين حرية الضمير والعقيدة عندما يكون المسيحي العراقي مجرد "كافر ذمي"؟ لقد كتب الدكتور المصري خالد منتصر في إيلاف مرة إن المسيحي المصري هو أقرب للمصري المسلم من المسلمين غير المصريين. والمسيحي، والأيزيدي، والمندائي، والشبكي العراقيون هم في نظر قانون الإدارة ولائحة حقوق الإنسان، وكذلك حسب ما عاشه مجتمعنا، هم عراقيون أولا، ويجب أن يكونوا مع المسلمين العراقيين متساويين أمام الدستور والقانون. فأين نحن من عهود "الكتابي" أو "الذمي" أو "الكافر"!!
صحيح جدا أن الأحزاب الشيعية ولا سيما آية الله السيد السيستاني، لعبوا دورا إيجابيا هاما في التهدئة، ورفض العنف تجاه قوات التحالف، والقوات الحكومية، وتعاملوا بمرونة وواقعية. وهذه مواقف إيجابية تحسب لهم وخصوصا موقفهم عند مواجهة تمرد "جيش المهدي" في النجف الشريف. ولكن المواقف السياسية المعتدلة لا تبرر المشاريع والممارسات التي تنتهك الحقوق الأولية للمواطنة والمواطن، وكل ذلك باسم الشريعة والدين والمذهب.
إن إصرار الأحزاب الشيعية على إجراء الانتخابات في موعدها كان صائبا، ولكن زج المرجعية الدينية المذهبية في لائحتهم الانتخابية بادرة خطيرة تمس صلب المبادئ والمثل الديمقراطية.
إن ما نعتقده هو وجوب أن تجري بعد الانتخابات مباشرة جهود متواصلة وجادة ومخلصة لتجميع القوى والشخصيات العلمانية في المجلس الجديد، وقطع الطريق على كل احتكار للسلطة لطرف أو آخر، أو كل محاولة لزج المجتمع والبلد في كهوف الدولة الدينية، وأيا كانت المسميات والواجهات!، وطبعا العمل معا مع الشعب لمواجهة كل المحاولات والمناورات لعودة البعثيين الصداميين لمراكز الصدارة في المجلس والحكومة الانتقاليين القادمين. ونرى أن من الخطوات الأولى للحكومة القادمة الإسراع بمحاكمة أقطاب النظام القديم لتبديد القلق المشروع بين كثرة من العراقيين داخلا وخارجا.
ليس الخيار بين الصدامية الجديدة ونظام "حكم الشريعة"، بل هو العمل الجاد والجريء للسير نحو الديمقراطية، البرلمانية، العلمانية، الفيدرالية، ونحو دولة المواطنة وسيادة القانون التي تكفل حرية العقيدة والرأي على أساس دستور عصري، يضمن الحفاظ على مبادئ الدستور الموقت، ويستمد مبادءه من لائحة حقوق الإنسان.