هل يستطيع العالم العربي أن يخطو قليلاً إلى الأمام، أم أنّه سيبقى مقيّدًا أسيرًا في أوهام العصور الخوالي؟ وهل يمكن لسؤال من هذا النّوع أن يتجنّب الحديث حول المسكوت عنه، أو الخوض في المحرّمات؟ هذا هو السّؤال الّذي آن الأوان لطرحه على جدول أعمال أصحاب القرار العرب، من جميع مجالات الاهتمام، للعقود القادمة. فإمّا أن نضع كلّ شيء للنّقاش العلني والجادّ من أجل الوصول إلى سواء السّبيل، وإمّا فإنّنا سنبقى نراوح مكاننا، نكيل اللّوم على كلّ شيء سوى ذواتنا.
إنّ حالة الحنين إلى الماضي، أو النّوسطالجيا، إلى فترات زمنيّة يُنْظَر إليها وَهْمًا كفترات ذهبيّة، ليست سوى تعبير واضح عن حالة الإحباط الرّاهنة في كلّ مكان من بلاد العرب. قد يكون لعلماء الإجتماع والأطبّاء النّفسيين ما يقولونه في شأن هذه الحالة، غير أنّني لن أخوض في هذه الزّاوية، فليس الأمر من اختصاصي.
لكن، وعلى الرّغم من ذلك، يجب ألاّ نتهرّب من الولوج في قضايا جوهريّة ومسائل مستعصية هي جزء من هذا المبنى الاجتماعي والحضاري الّذي وجدنا أنفسنا فيه لا نستطيع منه حراكًا.
الشّعوب المتحضّرة، بخلافنا نحن العرب، لا تنظر إلى الماضي بوصفه غاية الغيات الّتي يجب الوصول إليها. إنّها تبني على هذا الماضي من ذاتها، فتضيف عليه لبنة تتراكم فوق أخرى على مرّ الأجيال فيعلو بنيانها. أمّا نحن، ولقرون طويلة، فلسنا نضع أيّ لبنة من عندنا على ماضينا، بل ننظر إلى هذا الماضي على أنّه شامل لكلّ شيء، أو على أنّه أنّه كامل البنيان لا يمكن أن ينضاف عليه حجر واحد من صنعنا نحن. قد يكون هذا هو السّبب في أننا وطوال هذه القرون وجدنا أنفسنا في حالة من الرّكود على جميع الأصعدة.
رغم أنّنا نعود ونكرّر المقولات المأثورة، من مثل »لا يبدّل اللّه ما بقوم حتّى يبدّلوا ما بأنفسهم«، فإنّنا في الحقيقة ولطبيعة هذه النّظرة المتأصّلة فينا لأسباب دينيّة لا نستطيع التّبديل، لأنّ الّذين يضعون الدّين على رأس الأولويّات الاجتماعيّة فهم يقرؤون الدّين على حقيقته، وفي حقيقته فإنّ هذا الدّين هو ضدّ التّبديل والتّغيير. ولذلك فإنّ المجتمعات العربيّة تبقى في حالة من الرّكود. وحين يوضع هذا الدّين في أساس الدّساتير العربيّة، فمعنى ذلك أنّ الدّولة ذاتها ستبقى في حالة من الرّكود، لا يمكن أن تتزحزح قيد أنملة إلى الأمام، إذ أنّ ما يكمن في جوهر هذه العقائد هو خلاف التّجديد على جميع الأصعدة. وما دامت هذه هي الحال في بلاد العرب والمجتمعات العربيّة في كلّ مكان، فلست أرى بصيصًا من أمل لأيّ تغيير.
هنالك ركنان يقوم عليهما بنيان العرب، وهما في الحقيقة لبّ المشكلة. ما دام هذان الرّكنان قائمين على ما هما عليه، فلن يتغيّر شيء، ولن تتقدّم المجتمعات العربيّة خطوة واحدة إلى الأمام. هذان الرّكنان هما: القبليّة العربيّة والإسلام المتحكّمان بالذهنيّة العربيّة في كلّ مكان. إنّ ما يحدث في العراق في هذه الأيّام هو أكبر دليل على أرمي إليه. ألا يثير ما يحدث في هذا البلد تساؤلات حول معنى أن نستخدم مصطلحات مثل »الشّعب العراقي«؟ وهل مصطلح من هذا النّوع يعني ما يعنيه؟ فإذا قرأنا أنّ ثمّة عددًا من الأحزاب فوق المائة تسجّلت للانتخابات العراقيّة، فماذا يعني هذا الرّقم؟ لا يوجد في العالم بأسره مجتمعًا هذا العدد من الأحزاب. الدّلالة الحقيقة لهذا الرّقم هي أنّ القبليّة متحكّمة، وليست هذه الأحزاب سوى تجمّعات قبليّة. وفوق كلّ ذلك، ثمّة خط فاصل يفصل بين العرب والأكراد من جهة، وبين الشّيعة والسنّة من جهة أخرى. ناهيك عن الفصل بين المسلمين والمسيحيّين والطّوائف الأخرى. ويجب أن نقول كلامنا صراحة: إنّ ما يحدث في العراق يسري على سائر المجتمعات العربيّة وفي كلّ الأقطار. والسؤال المطروح هو هل سنستمرّ في دسّ الرؤوس في الرّمال، ونلقي باللائمة على ما هو خارج ذواتنا.
لا يمكن للمسيحي العراقي، أو القبطي المصري أن يعيش في دولة المساواة التّامّة إلاّ خارج الإسلام الّذي يرى فيه ذمّيًّا. لهذا السّبب لن يصل غير المسلم إلى محطّة المساواة التّامّة إلا في الدّولة الّتي تعتمد دستورًا مدنيًّا خارج نطاق الدّين. كما أنّه لا يمكن للمرأة العربيّة أن تعيش في دولة المساواة التّامّة إلاّ خارج الدّين هذا، أي في دولة الدّستور المدني. :ما أنّه لا يمكن للمجتمعات العربيّة أن تتقدّم بدون أن تكون المرأة شريكًا كاملاً وعلى قدم المساواة التّامّة في المجتمع والدّولة.
إذن، ما العمل للخروج من هذا المأزق؟
العصرنة هي الحلّ للبلاد العربيّة. والعصرنة تعني فصلاً جذريًّا وحقيقيًّا بين الدّولة وبين الدّين. صحيح أنّ هذا التّوجُّه هو بمثابة انقلاب ذهنيّ، غير أنّه انقلاب لا بدّ منه من أجل الخروج من هذا المرض العضال. الدّيانات بأسرها، السماويّة وغير السّماويّة، مليئة بالخرافات والأضاليل نتيجة لظروف تاريخيّة واجتماعيّة وسياسيّة إلى آخره. كلّ هذه الخرافات لا تصمد أمام العلم وأمام حكم العقل. والعصرنة الّتي أعنيها، هي أن نضع العقل في أعلى سلّم أولويّاتنا. فالعقل لوحده هو ما يفصلنا عن سائر المخلوقات في الكون، ومن هذا المنطلق فإنّ الأخذ بالعقل هو ما يجمع البشر في كلّ حدب وصوب، على جميع مللهم ونحلهم في هذا الكون. الأخذ بالعقل يُلزمنا بالمساواة بين بني البشر على جميع أجناسهم ومعتقداتهم. بينما الدّيانات، والسّماويّة منها بخاصّة عندما يتمّ وضع مبادئها في دساتير الدّول، فإنّها تفرّق بين البشر، دينيًّا وجنسيًّا. ولهذا، فعندما يظهر تناقض بين ما يمليه علينا العقل البشري، أي الدّستور المدني الّذي يجب أن يوحّدنا كبشر ويميّزنا عن الحيوان، وبين ما ورد في المعتقدات والمأثورات الدّينيّة، فإنّ الكلمة العليا يجب أن تكون للعقل، أي للدّستور المدني الّذي يساوي بين البشر كافّة. هذه هي الثّورة الّتي يجب أن تحدث في مفاهيمنا، إذ أنّ هذه الثّورة هي الوحيدة الّتي قد توصلنا إلى هذا العصر المتقدّم. وهذا هو التّحدّي الكبير الّذي يواجهنا، فهل نضع أوراقنا مكشوفة على الطّاولة للنّقاش الجادّ والمفتوح؟
- آخر تحديث :
التعليقات