لا احد يفهم العلاقة "السرية" بين استحالة تطبيق الديمقراطية في العالم العربي ووجود دولة أسرائيل "اللعينة"، سوى القوميين العرب.... ولا اقصد "القوميين العرب" كتنظيم سياسي، لكن أقصد الحركات والاحزاب القومية العربية على اختلاف اتجاهاتها وبلدانها وتجاربها. وبحكم علاقتنا الخاصة بأصدقائنا الفلسطينيين ومشاركاتنا لهم في الكثير من الهموم والمسائل، تلمسنا هذه الفكرة مبكرا في جدل ونقاشات الفصائل الفلسطينية في العراق منذ منتصف السبعينات؛ اليساريون ينادون بالديمقراطية والقوميون يؤجلونها الى ما بعد تحرير فلسطين او اقامة دولة الوحدة العربية، وكأن الديمقراطية في ذلك الوقت هي نوع من الترف الفكري قد يعيق تحقيق الأهداف الكبرى. عدد من الانقسامات والانشقاقات الفلسطينية كانت بسبب "الديمقراطية"، وتبنّت اسم الديمقراطية أيضا.
الدول العربية التي وصل القوميون فيها الى السلطة، سواء في مصر او العراق او سوريا او ليبيا او غيرها، كرست هذا العداء للديمقراطية على مدى عشرات السنين من الممارسة، وبالأخص ضد الشيوعيين والإسلاميين، وضد القوميات الاخرى التي وضعها "الفكر القومي العربي" تحت خانة الأقليات!والغاية واضحة، على الصعيد الشكلي او الخارجي هي توحيد كافة قطاعات المجتمع في بؤرة واحدة ولاجل هدف واحد او لاجل شعار واحد ... على الصعيد العملي، الغاية احتكار مطلق للسلطة وتركيزها بيد أوليغارشيا او نخبة صغيرة – عسكرية او حزبية او طائفية او مناطقية – بحجة محاربة اسرائيل. لن ننسى أبدا أغنية الشيخ إمام الساخرة في – ومن - تلك الاوقات ... "كل شيء من أجل المعركة" ... لا صوت يعلو فوق صوت المعركة ... هي فين المعركة! وفي أحد اجتماعات القيادة العراقية السابقة نهاية الثمانينات، اتهم أحد "القياديين" طارق عزيز بانه ليبرالي او ديمقراطي ... لكن صدام حسين دافع عن عزيز بشدة نافياً عنه هذه التهم او "الشتائم" الظالمة. الغريب، ان غاية الاجتماع الرئيسية كانت إدخال نوع من الاصلاح السياسي في أعقاب الحرب مع ايران، وبدء الزلزال السياسي في اوروبا الشرقية .... لكن الاصلاح الوحيد الذي حصلنا عليه في تلك المرحلة الحساسة من تاريخ العالم ... كان غزو الكويت والدخول في دوّامة الحصار والعقوبات الاقتصادية.
تراث طويل وعريق في هذه الدول القومية – وكذلك في الحركات السياسية القومية ايضا – من العداء للديمقراطية باعتبارها بدعة غربية امبريالية ... يقابله تراث طويل من الممارسة المنهجية والشاملة للبديل الستاليني او ما يعرف بـ "الديمقراطية المركزية"... تراث تربّت عليه الجماهيروالاجيال في كل بقعة عربية؛ القائد "التاريخي" لا وقت لديه لمناقشة القرارات الحاسمة والخطوات الثورية والتاريخية حتى مع رفاقه المقرّبين، انه ينفرد بها او يفاجىء بها الاصدقاء قبل الاعداء؛ يعلن الحرب على دولة مجاورة او يجتاح دولة شقيقة او "يطهّر" القيادة فجأة او اي شيء مما يخطر على البال او لا يخطر، وعلى الاخرين ان يؤيدوا او يبرروا كل الاشياء وكل نقائضها ايضا... وفي سبيل "تحرير فلسطين"، كل شيء مبرّر!
الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم وحليفه عبد السلام عارف فاجآ تنظيم الضباط الاحرار العراقي باعلانهما الثورة في 14 تموز عام 1958، متبعين تكتيك "الكتمان والمباغتة" حتى مع أقرب الحلفاء والرفاق ... ليغرق العراق لاحقا في الاحتراب والتناحر السياسي الذي امتد الى هذا الوقت، وطبع المجتمع العراقي بطابعه الدموي.
وحتى بعد زوال الاتحاد السوفيتي والمجموعة الاشتراكية وزوال عقيدة الديمقراطية المركزية، والأصح المركزية الديمقراطية، لايزال القادة والسياسيين والمفكرين العرب على عدائهم العميق للديمقراطية ... لكنهم اكتسبوا حجة جديدة هذه المرة في حربهم على الديمقراطية؛ تمثّلت في المشروع الامريكي للاصلاح السياسي بالضغط والإكراه او ما يسمى "الشرق الاوسط الكبير". لقد لبسوا أردية المقاومة للامبريالية لكي يبقوا في كراسي الحكم او ليحتكروها او يتوارثوها الى ما شاء الله ... انهم يصورون للجماهير "الغائبة"، ان الدكتاتورية هي الخيار الوطني الوحيد، اما الاصلاح السياسي فهو الخيار العميل او الاستسلامي. في نفس الوقت، يبعث اعداء الديمقراطية رسالة اخرى الى العالم الواسع الضاغط على أنظمتهم المتخلفة؛ يبعثون رسالة ارهابية رديئة بتشجيع ثقافة العنف والقتل المجاني وتوفير الفرص الاعلامية والاستعراضية لها، كي تظهر كثقافة وحيدة سائدة في العالم العربي ... وبهذا يظهر أعداء الديمقراطية أنفسهم كحماة للاعتدال والوسطية في العالم العربي.
ان معظم ما يشهده العراق من عنف وارهاب أعمى تجاه الابرياء والبنى التحتية والكنائس ودور العبادة والمؤسسات الوطنية والمراكز الانتخابية ... غايته الوحيدة هي البرهنة على ان الانظمة الشمولية هي الاصلح لقيادة وتأمين حياة ومستقبل الشعوب العربية. هذه الامثولة ليست موجّهة للعراقيين فقط، لكن لبقية الشعوب العربية ايضا، ومؤداها : ان الديمقراطية حتى في ظل القوات الامريكية لا حظ لها من النجاح، لا بد من وجود حكومة قوية وقاسية توحّد مختلف القوى والتيارات حول مركز قوي. هذا أحد اسباب تدخل العديد من الدول والقوى الخارجية في العراق، ليس فقط لإفشال المشروع الأمريكي فحسب، لكن لإعادة العراق أيضا الى أزمنة الدكتاتورية واحتكار السلطة، او لتجزئة العراق الى كيانات طائفية وقومية ضعيفة، تضطرّ للخضوع الى دول الجوار القوية بعد خروج قوات الاحتلال.
في المنتدى الاستراتيجي العربي في دبي، تعالت من جديد أصوات الخوف من الديمقراطية والاصلاح السياسي، بل تعالت الأصوات "القديمة" بأن اسرائيل لن تسمح بأقامة الديمقراطية في اي بلد عربي... لماذا... هل لأن اسرائيل تخاف من الديمقراطية، وهي التي تتغير فيها الحكومات بطريقة قياسية مقارنة بما يحدث في العالم العربي.... هل ننتظر زوال دولة اسرائيل، الى ان تتحقق الديمقراطية "العربية" - التي لن تختلف بالتأكيد عن "المسخ" الذي سموه سابقا "الاشتراكية العربية"، واذا كان الدكتاتوريون العرب هم الذين يعلنون الحرب "المقدسة"على اسرائيل، فلماذا لا تسمح اسرائيل باقامة الديمقراطيات.
ان شكل الديمقراطية الوحيد الذي سوّقته الحكومات القومية الى الآن؛ هو نظام الجبهة الوطنية وعلى رأسها "الحزب القائد" .... النظام الذي ابتكره الكومنترن في ثلاثينيات القرن الماضي، او نظام دمج الاحزاب قسرياً في "الاتحاد الاشتراكي" كما في التجربة الناصرية ومشتقاتها
اليوم، يرتدي القوميون مسوح الاسلام السياسي، ويتحالفون معه في مؤتمرات قومية اسلامية، للحصول على بعض الشعبية في الشارع العربي. المفارقة التاريخية المضحكة، ان معظم الاحزاب والحركات الاسلامية المعتدلة – اليوم - لاتتبنى وجهة نظر حلفائها القوميين في موضوع الديمقراطية او التعددية، على الاقل شكلياً، وما دامت خارج السلطة. اتذكر في السنوات الاخيرة من نظام البعث في العراق، ان الحكومة نظّمت مؤتمراً للتضامن مع العراق المحاصر والمهدد، وفي أحدى الندوات التي حضرها طارق عزيز، تجرأ احد المتضامنين الاسلاميين وطالب الحكومة العراقية علنا : بتطبيق الديمقراطية وحقوق الانسان والسماح بحرية الرأي الآخر وضرورة قيام برلمان حر ... لأن هذه الاشياء ستقوّي قضية العراق وموقف مناصريه أيضا. وبالحرف الواحد تهجّم عزيز على الديمقراطية البرلمانية : لأنها غربية المنشأ والتكوين، وليس لها ما يسندها في القرآن والسنة، وهي مطلب اعداء العراق و...و ....و......!