لا يملك المرء السيطرة على جماح عواطفه وهو يرى حشود عراقيي المنافي يقترعون لأول مرة في تاريخهم لعشرات الحركات السياسية والآف الاسماء. نساء ورجال، شيب وشباب، يحملون بفخر استمارات التصويت ويلقونها في الصناديق بكل حرية.. في هذه اللحظة، ينسى المرء معتقداته، وانتماءاته، وميوله ليستمتع بهذه اللحظة التاريخية، ولسان حاله يقول، فلينتخبوا ما يشاؤا ما داموا احرارا، وليجربوا ان يشعروا بكيانهم المسلوب منذ عقود كأصحاب رأي وموقف واختيار.

لا يهم كثيرا اليوم ان تكون الاجراءات غير مكتملة، والبرامج موضوعة على عجل، والتسجيل فيه ما فيه وغير ذلك من النواقص فلهذا يوم آخر بل أيام.. المهم اليوم أن يذهب اباؤنا وامهاتنا واخواننا واخواتنا وابناؤنا وبناتنا في العراق ليفعلوا ما فعل اشقاؤهم في المنافي ليقولوا للوجوه العابسة والأكف الملوثة بالدماء والألسن التي ما تزال تهددهم جميعا بالقتل، بأنهم ليسوا خائفين، ولن يستسلموا لمنطق السيارة المفخخة وجز الرقاب ورسائل التهديد الليلية الجبانة، وبأن العهد الذي مضى غير مأسوف عليه لن يعود وإن كره من كره.

قد لا تأتي الانتخابات بالنتائج التي يريد كل منا، وليست هي بالتأكيد منتهى الديموقراطية، ولكن نجاحها اليوم نجاح لنا جميعا، بعد ان راهنت قوى واجهزة مخابرات ودول صغرى ( بل وكبرى ايضا) بكل امكانياتها بأنها لن تحدث، وبأن العودة الى الماضي والتحالف معه قدر عراقي لا بديل له.. فلا نتوقع من بقايا البعث الملوثة والمتهمة بدماء العراقيين عبر العقود ان تؤمن بصندوق الاقتراع، ولا من دول تسحق شعوبها يوميا ان تصفق لهذا التقليد وقد رأت عروشها وقد بدأت تهتز.. فالحرية وباء ما أن ينتشر فلا يبقى ولا يذر.

جل ما اتمناه اليوم هوان يقترع شعبنا بلا خوف ولا وجل، ولينتخب من ينتخب ما دام اختياره حرا، وان يتأسس التقليد الانتخابي فللجميع جولات اخرى من التنافس السلمي، وسيتدرج الناس في مدرسة الديموقراطية والوعي الانتخابي، وسيتعلمون يوما بعد يوم كيف ينتزعون حقوقهم. وجل ما اخشاه أن يأتي من يأتي الى سدة الحكم فيقول بأن الانتخابات بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار كما حدث مع الاشقاء في الجزائر، فاشتعلت النار ولم تنطفئ.

أقول للمرشحين اليوم بانهم قد اختاروا صندوق الاقتراع ثقافة للمستقبل، وهو اختيار تأريخي.. ولا توجد انتخابات ترضي الجميع، ولن تجد خاسرا راضيا عن الاجراءات والنتائج في جميع انحاء العالم، ولكن تأسيس التقليد الانتخابي نجاح للجميع، حتى لمن حصد صوتا واحدا أو بضعة اصوات، فقد ساهم في صناعة عراق المستقبل. وأقول للناخبين بأنكم بايديكم تؤسسون لغد جديد للعراق والمنطقة وإن لم تشعروا. اما لقتلة الليل، ملثمي الوجوه والقلوب، الذين يستمرئون الدم العراقي يوميا، فأقول بأن ليلهم قد شارف على الانتهاء، فليخرجوا الى ضوء الشمس ويبنوا مع الاخرين من العراقيين ما قد تهدم عبر عقود طويلة من الظلمة فلا خيار آخر لهم، فالبعث لن يعود الى السلطة، وعهد القادة-الآلهة قد خرج ولم يعد.. وأقول للوافدين الذين يريدون الجهاد على ارض العراق، ان الجهاد جهاد القلب والعقل، واحرى بشباب العشرينات هؤلاء ان يلتفتوا الى العلم والعمل ليبنوا بلدانهم، فأرض العراق لا ترحب بهم، ولا بجهادهم، ولن تمنحهم الطريق الى الجنة المزعومة..

انقطع الاتصال اليوم مع الاهل والاحباب في بغداد، ولكنني اراهم يتوجهون الى الصناديق متحدين الموت والدم والعقول السوداء.. ليتني كنت معكم، فأنا اليوم مسلم ومسيحي وصابئي ويزيدي وملحد، سني وشيعي، شيوعي وليبرالي، عربي وكردي وتركماني وأرمني واشوري وكلداني، وكل عنوان عراقي..