بورتريهات بألوان الشجن الحلقة 4

[ منذ سبع سنوات وفى شهر سبتمبر وفى الغربة بباريس رحل عنا بليغ حمدى، هذا الموسيقار العبقرى، ودعنا محروماً من دفء الصحبة وونس أهل المحروسة وحضن الوطن، مصر التى عشقها وإختزنها فى الوجدان والفؤاد فمنحته صولجان الموسيقى وعرشها، كانت الثورة وقتها مازالت تتلمس الطريق وكان الأبناء مازالوا يبحثون عن صيغة لتشكيل عقل ووجدان العصر الجديد، تفتحت الأزهار وإتجهت صوب الشمس تتنفس الضوء الوافد والريح التى كان من الممكن أن تعصف بكل شئ، ظهر أحمد بهاء الدين وصلاح حافظ وفتحى غانم ويوسف إدريس وصلاح جاهين وفؤاد حداد وشادى عبد السلام وعبد الهادى الجزار وجمال السجينى ومحمود رضا وكمال الطويل ومحمد الموجى وعبد الحليم حافظ، وظهر معهم شاب نحيل ذو صوت هامس كأنه يترقرق من نبع صافى، عيناه ذكيتان فى غير لؤم ووجهه مجهد شاحب ولكن المدهش أنه ينبض حياة ويشع حنواً وتسامح.
كان يحلم بموسيقى مختلفه، موسيقى من الناس وللناس، يرقصون على إيقاعها ومن الممكن أيضاً أن يحاربوا على نغماتها، أخذ يلملم مفردات إيقاع موسيقى الناس من زغاريد أفراح وعديد أحزان وحتى إيقاع الردح البلدى أخذ منه (راجع بعض مقاطع حب إيه اللى إنت جاى تقول عليه)، فعلها من قبله سيد درويش بنصف قرن عندما ردد أغانى العمال والفلاحين والصنايعيه وكل من هو على الهامش، وكما خطف الموت سيد درويش فى عز الشباب قبل أن يكمل مشروعه خطف المنفى بليغ حمدى قبل أن يصوغ أحلامه الموسيقيه .
ولد بليغ حمدى فى 7 أكتوبر 1931 ومصر تمر بمخاض تعيد فيه تشكيل كيانها السياسى الذى تمزق بين إحتلال أجنبى له أذناب داخل الوطن وحزب أغلبيه نادراً مايصل إلى الحكم وأحزاب أقليه كالدمى فى أيدى أسيادها وشباب جامعه حائر تجره تارة أمواج الإخوان المسلمين وتارة دوامات اليسار، فى خضم كل هذه الصراعات نشأ بليغ حمدى فى كنف أب كان رجلاً من رجال التعليم فى سوهاج، كان مستنيراً برغم التقاليد المحافظة والأعراف القاسية فإشترى لإبنه الصغير بليغ عوداً ليعزف عليه أو بالأصح ليلعب به، ولكن سرعان ماتحول اللعب إلى عشق والشقاوة إلى تعبد فى محراب الموسيقى، وإبتلعته الرمال المتحركه لهذه الهوايه حتى سحبته إلى داخلها وإمتلكت عليه عقله وقلبه، فقرر ترك كلية الحقوق وهو مازال فى السنة الثالثة فى كلية الحقوق وكانت البداية مع الغناء قبل التلحين عندما أجازه محمد حسن الشجاعى فى لجنة الإستماع بالإذاعه وكان وقتها رئيس اللجنه، ولكن موهبة بليغ فى التلحين جعلته يرفض إستكمال طريق الغناء الذى أحس أنه سيلتهم موهبته المتوقده، وكانت بداية التلحين مع زميلته فى كلية الحقوق فايده كامل ولنترك الأستاذ أحمد شفيق أبو عوف يحكى لنا عن هذا اللقاء الأول، يقول أبو عوف"كنت فى الإستوديو وطلبت من فايده كامل الإنتظار للإستماع للحن دينى جديد لشاب إسمه بليغ حمدى، إنتظرت وإستمعت إلى اللحن من غناء فايده كامل وتحركت مشاعرى مع السياق اللحنى الجميل الذى تضافرت فيه قوة وعمق الكلمات مع النسيج اللحنى، وكان أكثر عجبى من الأسلوب الذى لجأ إليه هذا الملحن الشاب لتصبح الأغنيه عميقة الأثر على نفس السامع، وأحسست بأن ثمة روحاً متعطشة للتجريب والإبتكار، وفى جمله الموسيقية أحسست بالبساطة والعمق وهما صفتان قلما يجتمعان فى عمل موسيقى، كما لمست قوة الحبكة الموسيقية فادركت وأنا أستمع فى ذهول أن ثمة فناناً مصرياً عربياً يولد، وقلت هنيئاً لأمة العرب بهذا الناشئ العبقرى الفذ الذى سوف يسعد هذه الأمة بألحانه الآسره التى تشع بإحساس عربى عريق " .
وتحققت نبؤة أبو عوف وأسرنا وسحرنا بليغ حمدى منذ البدايه فى منتصف الخمسينات، وكما كان يحمل مفتاح النيل دوماً على صدره حمل مفتاح الموسيقى الشعبية فى وجدانه، وأخذ يبحث عبر ألف وخمسمائة وثمانيةو ستين لحناً هى كل عمره الفنى جال فيها وصال بين جميع القوالب الموسيقية الشرقية من أوبريت وأغنية خفيفة ونشيد دينى وأغنية وطنية ..الخ، وكانت عبقرية بليغ لاتنحصر فى هذا الكم الهائل الذى يتعجب الإنسان كيف أنجزه فى هذا العمر القصير، ولكن عبقريته تتجلى فى جمله الموسيقية التى تندهش كيف صاغها ومن أين أتى بها؟!، لدرجة أنه سحر أم كلثوم عندما سمعت منه "حب إيه" وكانت تلك المرة الأولى التى تنتبه فيها لهذا الشاب النحيف، وللقاء بليغ مع الست قصة طريفة تدل على عظمة الإثنين معاً، فقد كان بليغ يقوم بتحفيظ أغنيةللمطرب الشاب وقتها إبراهيم خالد إبن شقيقها والذى يقطن معها فى نفس الفيلا، وإسترقت أم كلثوم السمع فإنبهرت باللحن وكان لحن حب إيه، وفوجئ بليغ بأم كلثوم أمامه تصفق له :برافو يابليغ إنت لك مستقبل هايل، وأخذ بليغ يعيد ويجود وأم كلثوم تستمع وتصفق حتى أذن الفجر ومعه أذن بلبل الفن هاقد حان اللقاء وتم ضخ الدم الجديد فى شرايين فن "ثومه " ونجحت الأغنية نجاحاً باهراً فقد طرقت أم كلثوم أبواب الشباب بالإيقاع الراقص أحياناً الشجى أحياناً أخرى والذى يثير النشوة على الدوام، وبدأ الفيض البليغى يكسو أم كلثوم بياسمين العصر الجديد وبدأت ريشة بليغ المتمردة ترسم بورتريهاً ملوناً لسيدة الغناء تلمح فيه بعض الشقاوة والإنطلاق فكانت كمن قام بفك الجبس ليطير محلقاً بجناحين، وتوالت الأغنيات"أنساك ياسلام "لمأمون الشناوى وإسمع فيها " ده مستحيل قلبى يميل ويحب يوم غيرك أبداً أهو ده اللى مش ممكن أبدا"ً، و"كل ليلة وكل يوم" لنفس المؤلف وإستمع فيها إلى أكثر الأسئلة لوعة فى الغناء العربى "عامل إيه الشوق معاك عامل إيه فيك الحنين، وأغنية "فات الميعاد " لمرسى جميل عزيز وصرختها المدوية و"النار بقت دخان ورماد "، وأنا وإنت ظلمنا الحب" لعبد الوهاب محمد والصعود والهبوط فى" بردت نار وقادت نار "، وبعيد عنك " لمأمون الشناوى ودموع الكبرياء فى نسيت النوم وأحلامه، أما رائعته البسيطه المدهشة ألف ليلة وليلة والتى لفرط بساطتها تحس أن كل إنسان يستطيع تلحينها إلى أن تكتشف أنها البساطة العبقرية الآسره التى يختص بها الله فرداً بعينه، إنها الخيال الجامح الذى روضه بليغ.

[ أما لقاء بليغ بعبد الحليم فكان لوناً آخر، كانا على نفس الموجه يمتلكان نفس الحلم ونفس الإنكسار ونفس الطموح الذى كان مغلفاً فى بعض الأحيان بالأنانية الفنية المشروعه، فكان اللقاء الأول" تخونوه" والذى كانت أنامل بليغ مازالت تتحسس فيه حنجرة حليم، إلى أن جاء الإنقلاب الكاسح حين تحمس حليم للفولكلور الذى طعم به بليغ ألحانه ورمى لحليم طوق النجاة من أغانى الهجر والضنا كى يدخل به شاطئ الإلتحام بالناس وغناء مايغنونه، وأفرزت تلك المرحلة الهوى هوايا وعلى حسب وداد جلبى وسواح وزى الهوى ....الخ، وخرج الغناء من الصالون إلى أودة المعيشة يقتسم مع الناس البتاو والمحشى ويخلع الكرافته والردنجوت ليرحرح بالبيجاما، إستطاع الفرد العادى بمجرد صفير بسيط أن يغنى لحبيبته ألحان بليغ ويرقص على أنغامها مع حبيبته ولايخجل من صوته وهو يأكل معها الترمس أو الذره، فالأغنية ليست معقده أو مكلكعه لاتمتلك القفله الصعبه أو العُرّب المستحيله فالغناء لايولدمع ألحان بليغ بعمليه قيصريه ولكنه يولد بنشوة وبدون ألم وبطريقة فىمنتهى الطبيعية. [وإستراح بليغ على شواطئ حناجر أخرى مثل نجاة الصغيرة وشاديه وورده وفايزه ومحمد رشدى ومحرم فؤاد ومحمد قنديل ومياده وسميره سعيد وعلى الحجار وعزيزه جلال وغيرهم من مطربى المنطقة العربية، وأنجز الأوبريت وكلنا لاننسى تمر حنه، وأبدع فى الموسيقى التصويرية ومازال فى الذاكرة فيلم شئ من الخوف، أما الأغنية الوطنية فعندما يذكر إنتصار أكتوبر لابد أن نتذكر على الفور على الربابة وبسم الله وعاش اللى قال وياحبيتى يامصر. عندما تحول عود بليغ حمدى إلى مدفع هادر إستقر فى ماسبيرو لينطلق مع حلم النصر وثأر الإنتقام، إنه موتسارت مصر الذى من فرط حبه لهذا الوطن وإنغماسه فيه كتب شهادة وفاته الفنية عندما خرج منه إلى باريس، فنضبت ألحانه وفقدت بريقها لأن برج إيفل لم يعوضه عن سيدنا الحسين، وشارع الشانزيليزيه لم يمح من ذاكرته الغورية والموسكى، وأغانى داليدا لم تطربه كطلعت يامحلا نورها، لأنه عندما نفى عن الوطن نفى عن الإبداع فى نفس الوقت، فالحبل السرى الذى كان يمده بأوكسيجين الإبداع قد إنقطع فتمت الولاده ولكنها الولاده المبتسره التى لاتجدى معها حضانات باريس، فكان أفضل منها الموت

[email protected]