بكيت اليوم ، الثلاثين من كانون الثاني، فرحا واعتزازا.. بكيت مرارا وأنا أشاهد من الشاشة الصغيرة جوع المواطنات والمواطنين تزحف نحو الصناديق، متحدية صنّاع الموت والشر. هذا الشاب المقطوعة رجلاه يأبى إلا وان يشارك برغم المتفجرات؛ هذه العجوز المحمولة على النقالة لتدلي بصوتها؛ هذه العائلات التي تحمل معها أطفالها تحديا لشبح الموت والجريمة؛ هؤلاء الذين يرفعون عاليا أصابعهم " المحبّرة" ليرى المجرمون أنهم أعجز من أن يقهروا الإرادة العراقية. يا لها من ساعات تحمل الأمل، وتظهر من جديد مدى صلابة شعبنا، الذي يعلن جهارا وبشجاعة نادرة، أنه مستعد لتحمل المخاطر والتضحيات وهو يخطو خطوة عملاقة في الطريق الطويل نحو الديمقراطية.

ليس الموضوع في هذا اليوم لمن صوت هؤلاء وهؤلاء، فهذه معضلة متروكة للتطورات القادمة، ومدى حرص القوى الوطنية على وضع المصالح العامة فوق المصالح والاعتبارات الفئوية والعرقية والمذهبية والدينية. المهم أن الانتخاب جرى برغم جميع التهديدات بالموت، وبرغم المئات من الشهداء الذين وقعوا فعلا ضحايا لإنجاح الانتخابات.
لقد باءت بالخزي جميع الأوساط والقوى التي راهنت على منع الانتخابات، سواء من داخل العراق أو خارجه. أية ضربة قوية لهذه القوى الشريرة! وأي تحد بطولي في وجه عصابات صدام والزرقاويين القتلة! إن كل مواطنة ومواطن صوتا اليوم داخل العراق هما من الأبطال، ومن سقطوا قتلى من العراقيين وجنود القوات الأجنبية في هذا اليوم العظيم شهداء بامتياز.

عندما خرجت من التصويت هنا في باريس قبل ثلاثة أيام، تلقفني صحفي تلفزيوني فرنسي ليوجه أسئلة عن أسباب تصويتي، فكان مما أجبته أنني، وقد بلغت من العمر عتيا، أشعر بأنني عدت لأول شبابي،وأعتبر يوم تصويتي من أسعد أيامي. وهذا بالضبط ما سمعته اليوم أكثر من مرة من نساء ورجال داخل العراق.تابعت بالصدفة نقاشا في قناة فرنسية حول الانتخابات، وكان مدير الندوة لا يستطيع أن يخفي انتماءه اليساري وتشبعه بوسواس كراهية أمريكا. صحفية بولونية قاطعت البعض، وقالت إنه يجب الإقرار بأهمية هذا الحدث الكبير الذي لم يكن أحدنا يتوقعه. كان أكثر المطالعات سماجة ووقاحة ما قاله صحفي عربي مستهزئا بالانتخابات العراقية، واصفا إياها بصناعة أمريكية، وممجدا الانتخابات الفلسطينية دون أن يقول إنها صناعة إسرائيلية! نموذج من هذه البذاءة الثقافية والصحفية، التي نعرفها لدى العدد الكبير من الصحفيين والمثقفين العرب. ولكن في هذا اليوم وأمس نشرت جريدة الشرق الأوسط عدة مقالات تبين أهمية الانتخابات ليس للعراق وحده بل لكل المنطقة، فشكرا وتحية للمثقفين العرب الذين وقفوا بشجاعة مع شعبنا في مواجهة المد القومجي والإسلاموي الغوغائي. أما إذاعة "الشرق" "الحريرية!!"، فقد أذاعت أول أمس بصوت مذيع متهدج منفعل مقالة عنوانها "عار الانتخابات العراقية"، مأخوذة عن صحيفة أمريكية. لماذا ترى اختاروا هذه المقالة التافهة مع أن في الجريدة نفسها مقالات مضادة ومنطقية عن الموضوع؟! فما أبلغ الدرس الذي تلقته اليوم طواقم "الجزيرة" في عدد من مراكز الانتخابات الأوربية! كان هذا الطرد هو ما تستحقه صناعة الكذب والتحريض على الإرهاب.

تحية لشعبنا في هذا اليوم السعيد، وتحية لشهدائه، وتحية للقوات المتعددة الجنسيات وضحاياها، الذين سقطوا من أجلنا على أرض الرافدين. بعد هذه الخطوة الكبرى، ثمة خطوات ومعضلات وتحديات، كبيرة هي الأخرى، خصوصا حول الدستور الدائم؛ فطريق الديمقراطية في العراق طويل!