ممارسة الشعب العراقي ارادته اليوم في الدخول في أول انتخابات حرة منذ خمسين عاما تعبير عن قدرته على تجاوز الأزمات وتحدي الصعوبات، وهزيمة الارهاب. لقد اثبت الشعب العراقي بأن صوت الكلمة الحرة أقوى من أصوات قنابل الارهابيين والمأجورين في دور الزبالة، وهم يختفون، وعندما يظهرون يجعلون من أنفسهم قنابل موقوتة لقتل أبناء الشعب العراقي العظيم. فالذين صوتوا في الانتخابات العراقية هذا اليوم، الثلاثين من يناير 2005، هم الرعيل الأول لبناء الديمقراطية في العراق، إنه يوم ولادة العراق من جديد. أما الذين قاطعوا الانتخابات بشكل مخطط ومبرمج، فهم فئة معينة لاتريد أن يولد العراق حرا، ولاتريد أن يكون هناك عراق ديمقراطي، لأن الديمقراطية تفقدهم مراكزهم، وتزيح الستار عنهم حين يصبح الحكم بيد الشعب.

عمر العراق المعاصر لايتجاوز 84 عاما منذ أن تأسس العراق، وانضمت كردستان الجنوبية اليه. واليوم يشهد العراق تحولا نوعيا وشعبيا وسياسيا واجتماعيا، حيث يقرر الشعب أنه قادر أن يبدأ مسيرته الطويلة بقرار منه في صنع الكلمة الحرة، معبرا عن ارادته التي لا تُقهر، ليؤكد ان العراق سيكون مركز الاشعاع الحضاري، وبؤرة الديمقراطية التي لابد أن تسود المنطقة، بدءا بتشكيل حكومة وطنية تعترف بحقوق العرب والكرد والتركمان والكلدوآشور وغيرهم، ومرورا بالقضاء على الارهاب، ونشر الديمقراطية في المنطقة. هذا هو السبب الاساس لخوف المارقين من العراق ودور العراق المتمدن في المستقبل.

الانتخابات العراقية في ظل الاحتلال ستنهي الاحتلال حين ينبثق برلمان وطني، وتأتي حكومة وطنية، وحينذاك يقرر الشعب فيما إذا كان لابد من رحيل قوات متعددة الجنسيات في العراق أو بقاءها ضمن معاهدة صداقة لمساعدة العراق في مواجهة الارهاب الدولي، ولكي يتمكن من مواصلة المشوار الديمقراطي، حيث يكون القرار قرار الشعب بازالة الاحتلال. وهذا ما نراه في بعض الدول الديمقراطية كقطر والكويت وألمانيا واليابان وايطاليا مثلا.

أبواق أعداء الديمقراطية في العراق وبعض دول الجوار تقول أن الانتخابات غير شرعية لأنها جرت في ظل الاحتلال، أبواق يرفضها العقل السليم، لأن مثل هذه الانتخابات جرت في الضفة الغربية وقطاع غزة في أواخر العام الماضي في ظل الاحتلال الاسرائلي. فحالة العراق ليست فريدة لأنه جرت عبر التاريخ مثل هذه الانتخابات في الدول الديمقراطية العريقة في ظل الاحتلال مثل أمانيا وايطاليا واليابان ودول عديدة أخرى. فليست هناك عملية انتخابية نموذجية متكاملة في العالم، ولاسيما في بلد شرق اوسطي كالعراق، يريد ان يتحول من مرحلة النظام البعثي الدكتاتوري الاستبدادي الى نظام ديمقراطي تعددي فدرالي برلماني. فالعراق يتكون من فسيفساء خاص، حيث هناك توجهات عشائرية ومذهبية ودينية وقومية وعلمانية، لذلك لايمكن مقارنة العراق بدولة ديمقراطية عريقة كالسويد وبريطانيا مثلا.

نسبة الذين ساهموا في الانتخابات فاقت التصورات، فقد تجاوزت 70% حسب مانقلته رويتر عن اللجنة المشرفة على الانتخابات. وهذه النسبة أكثر من نسبة الذين يشاركون في انتخابات بعض الدول الديمقراطية العريقة. أما نسبة المشاركين في الخارج فقد كانت أقل بذلك، والسبب ليس الاستياء من اجراء الانتخابات في الظروف الراهنة إنما كان صعوبة الوصول الى مراكز الانتخابات لطول المسافة وللتكاليف العالية، ناهيك عن اهمال المشاركة كحالة عادية بالنسبة للفرد الذي يعيش في الدول الاوربية ولا سيما الغربية. فإذا أخذنا السويد مثلا نجد أن نسبة المشاركين كانت 31 ألف عراقي من مجموع 50 ألف عراقي. وكان التصويت في مدينتين سويديتين هما استكهولم ويوتنبرغ لجميع العراقيين القاطنين في عموم أوربا الشمالية التي تضم السويد وفنلندا والنرويج وايسلندا مستثنيا منها الدانمارك. فقدوم العراقيين من هذه البلدان الى السويد او الدانمارك مرتين، مرة للتسجيل ومرة للتصويت يكلف مبالغ مالية كبيرة، مما يجعله يتخلف عن التصويت. وربما كانت الحالة أسوأ في بريطانيا.

المهم في الانتخابات هو ايصال الصوت العراقي، واثبات وجود قدرة الشعب على ممارسة ارادته في التعبير عن الرأي. لقد نجح الشعب نسبيا في أن يقرر مستقبله مرحليا على الأقل، ونجح أيضا أن يهزم جحافل الارهابيين والطغاة. فالارهابيون يعتقدون أن الحكومة العراقية المؤقتة قبل الانتخابات كانت غير شرعية، ولكن لماذا يقفون ضد الشعب في انتخاب حكومة عراقية شرعية؟ ولماذا يهددون الذين يشاركون في الانتخابات؟ فالانتخابات تؤدي الى تنحي الحكومة المؤقتة الغير شرعية، وتنتخب حكومة تريدها الشعب فلم العداء للانتخابات؟ أليس من حقنا أن نتساءل بأن الارهابيين ضد الديمقراطية والانسانية والكلمة الحرة؟ أليس من حقنا أن نتحد أتحادا راسخا للوقوف ضد الارهاب بكل أنواعه، وتحت كل المسميات؟

الشعب يختار ممثليه، وهذا ماحصل، فقد اعترف المراقبون الدوليون بما فيهم مراقبو الأمم المتحدة أنه لم تحدث تجاوزات خطيرة في الانتخابات. فانتخاب الشعب ممثليه، يعني أنه يجب أن يختفي الارهاب، ولكن الارهاب سيستمر بعض الوقت، لأنها قوة مأجورة وشريرة، وهذا ما يتطلب من الشعب العراقي الوعي الكامل بالذات وبالمستقبل، لمواجهة هذه القوة الشريرة.

يتصور البعض أن الظرف غير ملائم لاجراء الانتخابات. والسؤال الملح هو: متى يكون الظرف ملائما؟ مَن يضمن عدم حدوث الحوادث مستقبلا فيما إذا تأجلت الانتخابات؟ فتأجيل الانتخابات ربما يكون الى يوم الساعة، وهذا مايريده أعداء الديمقراطية.

مَن يحتل العراق؟ اعتقد أن الارهابيين يحتلون العراق، وانهم يساعدون الاجنبي في أن يتمركز في العراق، لأنه إذا قضينا على الارهاب لم يبق مبرر لوجود الاجنبي. أما اليوم فنقول بصراحة أن انسحاب القوات المتعددة الجنسيات من العراق يعني ضربا من المستحيل، بل من الحماقة أن نتطلب ذلك في ظل سيطرة الارهابيين على الشارع العراقي. فانسحاب القوات المتعددة الجنسيات تقود الى الحرب الأهلية أو الى جعل العراق محمية لبعض دول الجوار، أو منطقة نفوذ أجنبي. لكن الحقيقة هي أننا نريد للعراق الحرية والديمقراطية، وان العراق للعراقيين وحدهم، وسيكون كذلك بارادة الشعب العظيم.

عراق اليوم في مرحلة تحول نوعي فكريا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا ونفسيا. انها مرحلة التحول من العبودية الى الحرية، ومن الاستغلال والاضطهاد الى حكم الشعب، وهذه المرحلة تحتاج الى وقت وتكاتف وتعاون. العراق اليوم يدخل المرحلة الديمقراطية، وقد حقق نصرا عظيما باجراء الانتخابات، ومثل هذا التحول يستدعي حدوث حوادث قد تزداد لفترة زمنية معينة، وهذا ليس غريبا. فإذا أخذنا تجربة بعض الدول مثل زمبابوي روديسيا السابقة، بعد ازالة حكم الاقلية البيضاء، نجد بأنها دخلت في حرب اهلية أو شبه اهلية بين جناحي زابو وزانو وجورج موكابي وجورج أنكومو، قتل من جراءها الآلاف الى أن هدأت الأوضاع. وكذلك نموذج التحول من حكم الطاغية خمير الحمر في نيكاراغوا. وكذلك التحول النوعي في أمريكا، ودخولها في حرب أهلية بين الولايات الشمالية والولايات الجنوبية في ظل رئاسة الرئيس أبراهام لينكولن لازالة تجارة الرق واستعباد الرقيق.
إذا كانت الحكومة المنتخبة في الانتخابات العراقية حكومة وطنية ديمقراطية، فإنها تستمد قوتها من الشعب العراقي، وستكون لها القدرة في حل مشاكل العراق الديمقراطي الفدرالي التعددي البرلماني، بعيدا عن الطائفية والمذهبية والآيديولوجية المتشنجة والتطرف القومي. أما إذا كانت حكومة متقوقعة في المذهبية والتطرف القومي والطائفي، فإنها تعجز ايجاد حل لمشاكل العراق العرقية والدينية والسياسية والاجتماعية مهما تلونت بالألوان الديمقراطية. وحينذاك فإن تلك الحكومة ستسيء للشعب بكل فئاته وتوجهاته وقومياته واقلياته مهما تمتلك من قوة. وعندئذ سيتعرض العراق للتقسيم لأنه سيشعر الشعب بالاحباط والفشل، فيصبح لقمة زائغة للأجنبي. ونحن نأمل أن تعظ القادة ما أصاب العراق، وتتمتع بالوعي الكافي في حكم عراق ديمقراطي فدرالي تعددي برلماني يشعر الجميع عربا وكردا وتركمانا وكلدوآشور وغيرهم بممارسة حقوقهم على قدم المساواة وبشروط متساوية، ليكون العراق فعلا عراق الديمقراطية والحضارة والتقدم، وليشعر كل مواطن أنه ليس تُرسا في آلة، إنما عضو كامل النمو في المجتمع