تبرز مسألة التغير في الثقافة السياسية عند المجال العربي، واضحة للعيان ، لاسيما في أعقاب الطفرة الاتصالية التي يشهدها العالم، حيث الفضائيات والإنترنت والإنفتاح الواسع الذي فرضته إتفاقيات الجات، والتفاعل الهائل بين المجتمعات والثقافات، والتي أفسحت المجال الواسع نحو الحديث عن قضايا، كانت تعد ولغاية الأمس القريب من المحرمات والمحظورات والممنوعات.إنها الشفافية التي تقمصتها الشعوب والمجتمعات، حتى راح الخطاب المتداول والسائد يتخذ لبوسا مغايرا ومختلفا بطريقة تثير المزيد من الأسئلة الحيرى، حول هذا الإرتباك والتداخل الذي يمس صلب المسلمات والبديهيات التي نشأ عليها المواطن العربي.

الحاجة والضرورة
لعل السؤال الأشد مباشرة يتعلق بطبيعة الوعي بمعنى التغير، ذلك الذي يظهر على حين غرة في هذه الأنحاء أو تلك، حتى ليتبدى في مضمون متنوع قوامه الاختلاط والتداخل.فما بين(( التغير والتحول والتقدم والنمو والتطور والتحديث))، يبقى المواطن العربي، يعيش سعار المقولات والكلمات، من دون أن يقف على المعطى الراسخ، الذي يمكن أن يقوده إلى شيء من الثبات في المعاني، تلك التي راحت تتسلل إلى صلب حياته ، عبر المزيد من التنافح والتنافس، الذي يغطي على القسمات والمفاصل الرئيسة لما يجول في خواطر النخب، تلك الفئة التي تحددت مبررات حضورها وأسباب وجودها بالعامل السياسي، فيما انحسرت العوامل الأخرى وغدت مقصية من مساحة الفعل والتأثير.
في العالم النامي الذي يعاني نقصا فاضحا في النمو، يستبد التناقض ليبرز ملقيا بظلاله الثقيلة على المجمل من الفعاليات العامة ، حيث الإنكفاء الذي يعترض مجمل الأنشطة والإتجاهات الإجتماعية والثقافية والإقتصادية، هذا بحساب الهيمنة التي تفرضها سطوة الحقل السياسي، على الباقي من الحقول التي راحت تعاني من التهميش والإقصاء.ومن هذا الواقع الذي يعاني من الإجتزاء، طفت على السطح المزيد من العوالق والإشكاليات والتي راحت تتنامى بإفراط ، حتى ظهر مصطلح (( تنمية التخلف)) والذي راح بفصح عن الأزمة التي تعيشها البلدان منخفضة النمو ، بإزاء حالة التحول والتغير التي راحت تتبدى في العديد من النماذج التابعة لبلدان العالم النامي، ومابين الإعجاب والإندهاش، والذهول والعجز ، بقي المجال العربي يعيش حالة التلقي السلبي، والتي راحت معطياتها وافرازاتها تظهر في المزيد من الحضور لمعالم الإستبداد وتنامي الأنظمة الشمولية، والتي حرصت على الإمساك بالمقاليد وأدوات التحريك ووسائط الفعل، لتكون المحصلة وقد أفضت إلى حالة من التغييب المقيت والمفجع، لإمكانية وجود نخبة بديلة قادرة على التفاعل مع المعطيات التي تفرضها سنن التطور والتحول التي يمكن لها أن تطرأ على الواقع.بل أن الخنق والكبت والغلق الدائم على منافذ التعبير كان له الأثر المباشر في تغييب إرادة الوعي، والذي راح بديله السلبي يتبدى في الخروقات الذهنية والثقافية ، حيث تنامت اللاأبالية في ظل التضييق والخنق على مناشط التفاعل الذي تفرضه مقومات الحياة العامة ، ومن هذا انحسر دور الوجهاء والسراة وغيبت أهمية التجار والحرفيين والرأسمال الوطني، بعد أن صار المقدمة والأهمية الإستثنائية للرجل الأوحد الذي يفرض بحضوره الكاريزمي على كل شيء وأي شيء.

العالم المغلق
الهيمنة المركزية التي راح نموذج النظام الشمولي يؤسس لها من خلال، التنادي بالشرعية الثورية والعمل على احتكار سلطة الفعل والقرار، وعلى مختلف الحقول والقطاعات والميادين ، كان له الإسهام المباشر في غلق باب التنافس أمام الطاقات والإمكانات المتاحة ، حتى كان الهدر على أشده في مسألة الفقد لعامل التنافس في الحقل الإجتماعي ، حتى كانت العوالق وقد برزت في تكريس حالة الإبعاد القهري لدور الفاعل الإجتماعي ، والذي راح الواقع يشير وبطريقة فاضحة إلى حالة النقص المرضي وانعكاساته المريرة على مستوى التفاعلات الإجتماعية.

الاجتزاء في المواقف والذي يقوم نموذج الدولة التسلطية في الوطن العربي، كان له الأثر المباشر في ترسيخ حالة التناقض بين نسق التغير ودلالة الموقف السياسي، بعبارة أخرى، كان للهيمنة المفرطة والسيطرة المركزية، التي تطلعت نحوها مؤسسة الحكم، أرها البارز في تشويه معالم التحول والتغير المنشود ، والذي ظل على مستوى الواقع مجر برقع ، يحاو ل النظام الرسمي التجمل به على مستوى الشكل ، فيما يكشف المضمون عن المزيد من حالات والإختلال والتي يتم التعبير عنها ، في حالات التنمية الشوهاء الت يتعتري العديد من تجارب التنمية العربية ، والتي بقيت تدور في فلك الشعار على حساب التفاعل الحي مع الواقع ، ومن هذا الإبتسار والتقطيع الذي ينم عن قصور في الرؤية ، راح التعامل يتوزع مع المعطيات والوسائل التي تقدمها المكتشفات والمخترعات العلمية الحديثة، من أجل تصفية الحسابات الشخية والثارات القديمة ، فالثورة الرقمية والمعلوماتية التي يعيش العالم تفصيلاتها، غدت لدى العرب تعيش تمثلا شديد الخصوصية ، حيث تحولت الشفافية التي تفرضها وسائل الإتصال الجديد، من أقمار صناعية وقنوات فضائية وشبكات إنترنت، إلى مجرد وسائل للتنابز وبث السموم والأحقاد بين هذا الطرف أو ذاك ، بل أن الصراعات المنبرية التي برع بها العرب في الماضي السحيق، باتت اليوم تعيش زهوها ، واستردت أمجادها في ظل الثورة التكنولوجية، التي يقدمها هذا الغرب المادي المتآمر، بحسب تعبير الأدبيات الثورية.