ينتظر المتابعون للشأن السياسي التونسي هذا العام، تحول البرلمان التونسي إلى نظام الغرفتين، بإنشاء مجلس للمستشارين إلى جانب مجلس النواب القائم أصلا، وذلك تنفيذا لمضمون التنقيح الذي أدخل على الدستور التونسي سنة 2002. وسينتخب الجزء الأكبر من أعضاء المجلس الجديد بشكل غير مباشر، فيما منح حق تعيين الجزء الباقي من الأعضاء لرئيس الجمهورية. ولا يزال عدد كبير من المحللين والمهتمين بالحياة السياسية التونسية، يتساءلون عن المغزى الحقيقي لإقدام النظام التونسي على تحويل البرلمان التونسي إلى الطابع الثنائي، وعن الدور الذي سيناط بالغرفة البرلمانية الجديدة، خصوصا وأن الدور الذي كان مسندا أصلا للغرفة الأولى، ما يزال محل نقاش وتشكيك، في ظل غلبة غير منطقية وهيمنة مطلقة للسلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية.

لقد جسد "البرلمان التونسي" منذ مطلع القرن العشرين، وربما قبل ذلك، حلما وطنيا لدى شرائح واسعة من المجتمع التونسي، باعتبار البرلمان رمزا لسلطة الشعب وسيادته وقدرته على ممارسة الرقابة على مؤسسات الدولة المختلفة، وباعتبار تأسيسه لحظة تحول تاريخي من واقع مرفوض إلى مستقبل منشود، ووجوده صك أمان يضمن للمجتمع الوسيلة التي يواجه بها أي تغول لأجهزة الدولة أو تجبر لرؤسائها.

لقد انتفض التونسيون في 9 ابريل 1938 ضد الإدارة الاستعمارية الفرنسية، رافعين شعار "برلمان تونسي"، وسقط عدد كبير منهم شهداء برصاص المحتلين، وكانت هذه الانتفاضة مؤشرا ولحظة تحول معمدة بالدم في مسيرة الحركة الوطنية التونسية، ستتوالى بعدها أحداث جسام قدم خلالها الوطنيون التونسيون الكثير من التضحيات والتصميم على نيل الاستقلال، وكان لهم ما أرادوا من الحياة في 20 مارس 1956.

وعندما نال التونسيون استقلالهم عن فرنسا في التاريخ المشار إليه، كان "البرلمان التونسي" الذي أطلق عليه في حينها "المجلس القومي التأسيسي"، من أول مؤسسات الدولة المستقلة نشأة، وأبرز أجهزة السيادة الشعبية دورا، وأهم دليل على التحول الذي كان يفترض أن يعرفه نظام الحكم لاحقا، وهو أن يكون الشعب مصدر السلطات، وليس الحاكم المطلق أو المحتل الأجنبي الغاشم.
لقد بادر البرلمان التونسي أو المجلس القومي التأسيسي، بعد سنة ونيف فقط من قيام الدولة المستقلة، إلى إصدار أخطر قرار يمكن أن يتخذ بإسم الشعب، ألا وهو إعلان الجمهورية نظاما للبلاد بديلا عن الملكية، وذلك تقديرا أن النظام الجمهوري أكثر تجسيدا لمبدأ السيادة الشعبية من نظيره الملكي وأشد اتفاقا مع الفكرة البرلمانية. وقد جاء في مقدمة قرار المجلس التونسي الخاص بإعلان الجمهورية ما يلي: " نحن نواب الأمة التونسية أعضاء المجلس القومي التأسيسي بمقتضى ما لنا من نفوذ كامل مستمد من الشعب. وتدعيما لأركان استقلال الدولة وسيادة الشعب وسيرا في طريق النظام الديمقراطي(...) نعلن أن تونس دولة جمهورية..". وعندما أصدر نفس المجلس الدستور التونسي في 1 يونيو 1959، ورد في توطئة أو ديباجة هذا الدستور ما يلي:" نحن ممثلي الشعب التونسي المجتمعين في مجلس قومي تأسيسي، نعلن أن هذا الشعب الذي تخلص من السيطرة الأجنبية بفضل تكتله العتيد وكفاحه ضد الطغيان والاستعمار والتخلف، مصمم: (...) على إقامة ديمقراطية أساسها سيادة الشعب وقوامها نظام سياسي مستقر يرتكز على قاعدة التفريق بين السلط (السلطات)..".

و تماشيا مع هذا السياق، قدم المشرع التونسي باب السلطة التشريعية (الباب الثاني) على سائر الأبواب الخاصة ببقية السلطات والمؤسسات، وأورد في الفصل 18 منه ما يلي:" يمارس الشعب السلطة التشريعية بواسطة مجلس النواب أو عن طريق الاستفتاء، وينتخب أعضاء مجلس النواب انتخابا عاما، حرا، مباشرا، سريا، حسب الطريقة والشروط التي يحددها القانون الانتخابي".

وكما يلاحظ فإن المشرع التونسي قد عمل على تزويد المنظومة القانونية الوطنية، بعدد كبير من النصوص الأساسية التي تضع مبدأ السيادة الشعبية في أعلى سلم المبادئ السياسية للدولة التونسية المعاصرة، مثلما تمنح البرلمان باعتباره أكثر المؤسسات تجسيدا لهذا المبدأ المكانة السامية والمحورية. غير أن المتابع لتطور الحياة السياسية التونسية منذ الاستقلال إلى اليوم، سيخلص بما لا يدع مجالا للشك، إلى نتيجة مفادها أن فجوة عميقة قد فصلت باستمرار بين المبادئ الدستورية والقانونية التي تضمنتها وثائق الدولة التونسية الأساسية، والممارسة السياسية التي اتجهت على الدوام إلى تكريس معالم حكم فردي، ذبل فيه إشعاع البرلمان التونسي، في مقابل سطوع نجم رئيس الجمهورية، الذي هو رئيس السلطة التنفيذية، و بدا عمليا رئيس كافة السلطات والمؤسسات.

لقد عمدت السلطة التنفيذية في تونس طيلة ما يقارب الخمسة عقود، إلى إفراغ المبدأ البرلماني من معناه الحقيقي، وذلك عبر وسيلتين أساسيتين، إحداهما تشريعية، دستورية وقانونية، وثانيتهما عملية، سياسية وإدارية، وقد أضحى النظام السياسي التونسي على هذا النحو نظاما رئاسيا مطلقا، يضطلع فيه البرلمان بوظيفة شكلية "ديكورية"، حيث حضور نوابه في الشارع السياسي باهت، وحيث الصلاحيات الموكلة إليه لا تتجاوز مجرد نقاشات داخلية محسومة النتائج سلفا.

لقد قام المشرع التونسي، دستوريا وقانونيا، بإحالة جزء هام من سلطة البرلمان التشريعية إلى رئيس الجمهورية، وذلك من خلال تحديد مجال القانون الخاص بالصلاحية البرلمانية، وفقا لما نص عليه الفصل 34 من الدستور، وتكليف رئيس الدولة بمجال التشريع غير المحدد حصرا، مثلما نص على ذلك الفصل 35. وبحسب الدستور التونسي أيضا، فإن البرلمان التونسي – خلافا للبرلمانات في الدول الديمقراطية- لا يملك القدرة على مساءلة السلطة التنفيذية بطريقة جدية، حيث يفتقد صلاحية محاسبة رئيس الدولة أو حتى محاسبة حكومته، ناهيك عن صلاحية إقالة أي منهما في حال اقتضت الضرورة ذلك. ويثبت سجل البرلمان التونسي المعاصر منذ إعلان الجمهورية سنة 1957، أنه – وخلافا أيضا لسائر الأنظمة السياسية التي تأخذ بمبدأ السيادة الشعبية- لم يدخل يوما في خلاف أو صراع مع رئيس الدولة أو حتى حكومته السنية، وأنه كان على الدوام مطواعا جدا لأوامر السلطة التنفيذية، وأنه لم يرفض لها في يوم من الأيام مشروعا أو حاسبها بشكل فاعل على قرار اتخذته أو قرار كان يفترض بها أن تتخذه ولم تفعل.
أما من الناحية العملية، فإن هيمنة الحزب الحاكم التجمع الدستوري الديمقراطي (الحزب الاشتراكي الدستوري سابقا)، على مؤسسات الدولة وأجهزتها منذ الاستقلال، واضطلاع رئيس الجمهورية برئاسة هذا الحزب إلى جانب رئاسته للدولة، جعل نواب البرلمان التونسي أشبه بالموظفين المعينين من قبل السلطة التنفيذية، أكثر منهم ممثلين منتخبين للشعب، بل إن النواب البرلمانيين الممثلين لأحزاب المعارضة المعترف بها قانونيا لا يختلفون في هذه الصفة عن نظرائهم ممثلي الحزب الحاكم.

وأخيرا، يمكن القول بإن إضافة مجلس للمستشارين إلى جانب مجلس النواب الحالي، يحمل المواصفات نفسها، من أعضاء معينين وصلاحيات رمزية ومحدودة، لا يمكن إلا أن تعتبر خطوة أخرى في اتجاه تكريس الممارسة الشكلية لمبدأ السيادة الشعبية، و مواصلة غير مبررة لمسار تغول السلطة التنفيذية على حساب السلطتين التشريعية والقضائية، تتناقض جوهريا مع المرجعية الديمقراطية التي نص عليها الدستور التونسي صراحة، وعبرت عنها باستمرار أشواق النخب التونسية.

كاتب وسياسي تونسي، مدير مركز دعم الديمقراطية في العالم العربي – لاهاي.