820

لا ادري لماذا تذكرت اليوم أناسا عظماء وأناسا بسطاء.. تذكرت أول قراءاتي لكتب جورج حنا وسلامة موسى ومقالات مكسيم رودنسون وقصائد بابلو نيرودا ومحمد مهدي الجواهري وروايات مكسيم غوركي وإخبارا عن لينين وستالين وماوتسي تونج وقرأت التوراة والإنجيل والقرآن، وتابعت ما يكتب عن آرثر رامبو وطه حسين وكولن ولسن وعنترة بن شداد وغيرهم. كما تذكرت، والله
لا أدري لماذا، أم المعارك وأم الحواسم والرئيس الجاثم..!
في تلك اليوميات الصعبة التي مرت بتاريخ بلدنا لم تكن الانتخابات البرلمانية تعني شيئا في حياتنا غير تزكية نواب الحكومة من الإقطاعيين ومن صناع السياسة التابعة ومن القادرين على "تعريق" السياسة البريطانية..!
اليوم صارت الانتخابات البرلمانية شيئاً آخر :
فهي التفاهم بين الناس في مجرى الحياة الاجتماعية،
وهي الوسيلة المشتركة في كيفية تأسيس شكل ومضمون الدولة الديمقراطية،
وهي الوسيلة التي تقود الناس نحو المعقول في السياسة والمعقول في بناء المجتمع،
وهي المرثية الشعرية الشعبية لنظام الدكتاتورية المرجومة بنعال أبو تحسين في التاسع من نيسان عام ألفين وثلاثة..!
وهي نوع من الجهاد للسمو من العالم السفلي الذي صنعته للشعب العراقي جميع الأنظمة السابقة وتحقيق الارتفاع بآماله إلى عالم علوي فيه صراحة بلا سيوف وفيه مكاشفة بين المختلفين بلا عنف..! حتى الله نفسه يبارك مثل هذا السمو..!
بعبارة أخرى
أقول : أن الديمقراطية لا تتحقق بدون وحدة الشعب،
وحدة الشعب لا تتحقق من دون قوانين،
والقوانين لا تسن من دون وجود برلمان معنوي،
والبرلمان لا يتحقق من دون ممارسة الرياضة الانتخابية،
ومن دون المجاهدة الانتخابية،
ومن دون أن يكون لكل عراقي، فرد أو حزب أو كتلة، طريقته الخاصة في الرياضة الانتخابية والمجاهدة الانتخابية..! ولكن تحت سماء تظللها أقمار السلم الاجتماعي البهيجة والمبتهجة بال حب الأبدي..!
تأسيساً على هذه الرؤية وحدها وضعوا يوم الثلاثين من ينوري موعدا للمقاربة بين الرياضة الانتخابية الأولى في العراق وبين المجاهدة الانتخابية الأولى في حرية العراقيين ..!
كانت التجربة الأولى في الرياضة الجهادية قد مرت يوم أمس.. كانت تجربة شاهقة علمت الشعب العراقي وغيره من شعوب العالم كيف يسير الناس وسط نار الإرهاب والإرهابيين نحو صندوق شفاف صغير ليضعوا فيه أول صلة حقيقية بالديمقراطية وفق جماليات تنظيمية وضعته هيئة " صوفية " أطلقوا عليها أسم : المفوضية العليا..!
حرستها ملائكة الله في السماء، وحرستها سواعد الشرطة العراقية الباسلة وأيدي قوات الحرس الوطني الشجاعة كأنهم ملائكة الحياة على أرض الرافدين، مسنودين بجنود وتضحيات المارينز الراغبين بالعودة سريعا إلى أهلهم ووطنهم..
بلغ الشعب العراقي يوم الثلاثين من " ينوري " أرفع المراتب في عصر انتشر فيه الإرهاب وشيوخه وصانعو فتاواه فأضحى قمة من قمم الزيف الإعلامي في فضائيات وصحف وقوى سياسية وحزبية في كثير من الدول العربية ودول الجوار..! أرادوا جميعا أن يوجدوا الفرقة والقتال بين ابناء الوطن العراقي الواحد ذي السيرة الوطنية الموحدة، كردا وعربا وتركمانا وصابئة ويزيدين كأنهم مجموعون على الهدف الواحد،
خابت يوم الثلاثين من ينوري حجج جميع أعداء الشعب العراقي، وباءت بالفشل جميع أساليب التزييف في التأويل،
وماتت كل أساليب الشعوذة السياسية ذات النفسية المريضة المعزولة عن الناس والعالم وعن روح وكرامة بغداد.
وانتهت الانتخابات العراقية في يوم برتقالي جميل لم يشهده العراقيون من قبل. بعضهم أطلق على يوم الثلاثين من "ينوري" لقب "اليوم الأزرق" نسبة إلى اللون الذي تتفاخر به الأمم المتحدة وتتباهى..! أما أنا فقد فتشت عن جميع الألوان والألقاب والأسماء لكي أقتبسها واصفا هذا اليوم لكنني ما وجدت..فقد كان يوما أعظم وكفى..!
أنه اليوم الذي انتهى فيه النقاش بين الشعب العراقي وجميع أصناف المعاد ين له.
اندحرت خطط الإرهابيين،
اندحرت جميع ادعاءات بعض مدّعي القومية العربية،
اندحرت جميع "أفكار" بعض المثقفين العرب،
اندحرت الفضائيات العربيات الصارخات بالكذب والباطل،
اند حرت جميع خطابات السوء من قنوات الجزيرة والمستقلة و"عي. عي. أن"..!
انتهت كل "الإهانات" التي وجهها كتاب عراقيون وعرب من الجلاوزة المنعزلين عن الشمس والواقع الذين تجاهلوا خطاب الشعب العراقي وإرادته فظلوا يكتبون كلام السكارى وما هم بسكارى لكنهمحبالى حيارى..!
هذا جمهور ضخم من ثمانية ملايين عراقي يتجاوز خط النار الإرهابي ليذهب إلى صناديق الاقتراع ليظهر نفسه وإرادته وعدده وحجمه قائلا بصوت واحد : نحن صوت العراق الجديد.. نحن صوت ا لشرق الأوسط الجديد.. نحن العالم الجديد..!
قال الشهيد الثاني سلام الشماع كلمته المدوية ( نعم للديمقراطية ) وخرّ شهيداً في تراب بغداد ليقول للعالم أجمع : وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق..!

وقال الشهيد الأول عبد الأمير كاظم الذي دق عنق إرهابي شدوا في صدره حزام الموت فدوى صوته للعالم أجمع : أيها الإرهابيون لن تمروا..!
ملايين العراقيين أطلقوا صرخة عظمى : أيها الفاشيون الجدد لن تمروا.. يا أغبياء مدرسة أسام ة بن لادن لن تمروا.. يا أيتام صدام حسين لن تمروا....!
كان هناك ثمانية ملايين متظاهر على الأقل، وربما أكثر. جاء الكثير من شبان وشابات العائلات المتدينة، و الكثير من العلمانيين.. جاء الكثير من العمال والفلاحين، جاء البورجوازيون الأغنياء والكادحون الفقراء مشيا على الأقدام سواء بسواء، الكثير من الأصحاء والمرضى وحتى " المريض الشيوعي " يوسف عبد الكريم المبيض جاء في عربة إسعاف واقفا أمام صندوق الاقتراع وهو في حالة النفس الأخير.. كان نهار الثلاثين من " ينوري " قصيرا وباردا لكن ابناء شعبنا التصقوا بأرض المراكز الانتخابية كالتصاقهم بأرض الرافدين.. كانوا جميعا يصلون صلاة الحلاّج أمام قدسية حرية التعبير ورؤية صندوق الاقتراع كأنه عضد المستقبل العراقي ونوره من خلال استخدام الكلمة الصوفية السحرية " ديمقراطية" كسبيل وحيد يجعل الشعب العراقي صاحب القرار السياسي..
مسيرة عارمة واحدة سار فيها البياتي وعبد الجبار وهبي،
وسار فيها محمد مهدي الجواهري وألفريد سمعان،
سارت فيها نزيهة الدليمي إلى جانب جواهر البصرية،
سار فيها الشيوعي حميد مجيد معانقا الشيخ النجفي،
سار فيها الكرديان مسعود وجلال بتوحيد رائع،
سارت فيها خالتي الفلاحة فطومة راهي مع الدكتورة فاطمة المنتمية للحلاج،
سارت فيها السيدة أم ظافر في لندن موصلة صوتها إلى آزادوهي صاموئيل في بغداد،
سار فيها صديقي بهنام بجانب زوجته كاترين حنا،
سار فيها شهيد المقابر الجماعية إلى جانب شهيدة السفينة الغارقة في البحر الأندنوسي،
سار فيها الحكيم وبحر العلوم وكاشف الغطاء جنبا إلى جنب الباجة جي وضياء الشكرجي والجادرجي وأبن علاوي والقيماقجي،
سار فيها الأسطة والبنـّـاء والحداد والقصاب والبقال والفيترجي،
سار فيها أبو علاء وأبو عزيز، وأبو أسيل، وأبو حسين وأبو عمر، في صف متراص واحد،
سار الملايين مسيرة الفداء والتجدد،
كلهم خلقوا " نيروزا جديدا " عيدا جديدا لديمقراطية جديدة زرعوا بذرتها بالدم الغالي المتجدد..!
حياكم الله يا أبناء وطني.. فقد جعلتم الحب رمزا للحرية..!


بصرة لاهاي