يكشف الاهتمام الكبير بالانتخابات العراقية قوة تأثيرها على العالم والمنطقة، فالانتخابات كانت وما تزال محور حديث المحللين والخبراء السياسيين، وكانت من الكثرة راكمت كما كبيرا من التحليلات والتوقعات، امتدت لتشمل الحديث عن مخاطر ما بعد الانتخابات التي تهدد العراق وشعبه والاحتمالات الممكنة على الصعيد السياسي، وخارطة الاحزاب والتكتلات السياسية. ورغم نجاح العملية الانتخابية والنتائج التي تمخضت عنها غير ان طائفة من الاعلاميين والسياسيين ما زالوا يضربون على وتر اللاشرعية والتشكيك بمصداقية الانتخابات. وهي مواقف ليست بريئة، كما ان مواقف المؤيدين هي الاخرى مواقف منحازة. الا ان دوافع الاخيرة واضحة. فالانتخابات كانت رهان الشعب في مواجهة التحديات، واسلوبهم الوحيد لتأكيد شرعية لممارسات السياسية. فما قام به ابناء العراق في 30/1/2005 عمل يستحق التقدير والثناء، ولولا كثرة ما صدر عن النخب الفكرية والثقافية من مقالات تبجيلية، لخصصت هذه المقالة حصرا لتمجيد شجاعة الشعب العراقي، الذي برهن للعالم اجمع استعداده للتضحية ومواجهة الموت من اجل الحيلولة دون عودة الاستبداد والدكتاتورية، ومن اجل نجاح العملية السياسية الحديثة التي دشنت حياتها في العراق، واضحت خطرا يهدد الانظمة الشمولية المستبدة في المنطقة. انه عمل عظيم، فالشعب يستحق كل الثناء والتقدير والاحترام، بل ومدعاة للاعتزاز والتفاؤل في مستقبل رحب مشرق.

كنا نتوقع من النخب الثقافية والاوساط الاعلامية التي نصبت العداء للشعب ما قبل الانتخابات وتحالفت ضده ابان الحكم البائد، ان تكون اكثر واقعية وتكف عن ملاحقة الانجازات العظيمة، والتشكيك في مصداقيتها، او اثارة الشكوك حولها. وكنا نتوقع انحيازهم للشعوب بعد فك الارتباط بسياسية الحكومات واجهزة المخابرات ولو مرة واحدة. لكن الامر لم يختلف بل تمادت بعض الاوساط الاعلامية كقناة الجزيرة فراحت تضخم الاعمال الارهابية، وتسلط الضوء طويلا على المناطق التي لم تسجل نسبة كبيرة في الانتخابات، او انها امتنعت عن التصويت لاسباب معروفه، لكنها ليست هي النسبة الغالبة وليست هي تمام الحقيقة. فالعرب السنة شاركوا في الانتخابات في مناطق اخرى، حتى صرح الباججي (زعيم حزب سياسي سني) ان الانتخابات فاقت كل التوقعات. وان السنة اقترعوا بكثافة في عدد من مناطق العراق بما فيها مناطق العاصمة بغداد. ويحتمل اكتمال النصاب المفترض من السنة العرب بعد فرز الاصوات ولن تبقى شواغر آنئذٍ في مقاعد البرلمان او المجلس والوطني، وحينها سوف يسقط ما بايديهم من حجج واهية للتشكيك في شرعية الممارسة السياسية. بل كيف يكمن التشكيك بشرعية المجلس الجديد وما يتمخض عنه من قرارات، وقد تشكل عبر انتخابات حرة وشهد على نزاهتها اكثر من جهة قانونية؟
ما يهمنا: لماذا الاصرار على هذا النمط من المواقف؟ وهنا اكثر من سبب يدعو هؤلاء لشن هجمات عنيفة على شرعية الممارسة السياسية في بلد مثل العراق، نشير لبعضها اشارة مكثفة:
1-يعتقد الخبراء السياسيون ان حجم التأثير الذي سيتركه عراق موحد ديموقراطي تعددي يستوعب كل الاختلافات والتنوعات الدينية والقومية والمذهبية، سيكون تأثيرا كبيرا وخطرا، لانه سينشط ذاكرة القوميات والاقليات والاحزاب، فتطالب بحقوقها المشروعة، مما يقوض الاستقرار الظاهري لدول المنطقة. سيما الحكومات التي ضبطت شعوبها بسياسة الحديد والنار. فراحت تعمل على افشال التجربة، على مستويين، الاول دعم العنف او ما يسمى بالمقاومة، وثانيهما دعم الاعلام المضاد من خلال (مثقف السلطة). والاخطر من ذلك على تلك الحكومات هو تطلع بعض الشعوب لتجربة مماثلة. وقد تزداد حدة المخاطر عندما لا يفوز الرئيس العراقي المرتقب بنسبة 99% من اصوات الناخبين، ولن يبقى رئيسا مدى الحياة كما هي عادة الرؤساء العرب.
2-ان عددا من الاوساط الاعلامية تأثرت بسقوط النظام، بعد ان بنت لنفسها سابقا امبراطوريات تغذيها هدايا السلطان، وتحنوا عليها ايدي المخابرات، فهي تعمل بدافع الانتقام من الشعب الذي اسقط النظام وفوت عليها متعة الحياة، او الذي تخلى عنه وابتهج بسقوطه، وهي مؤسسات ليست بقليلة، اذ من المعروف ان النظام البائد كان يرعى عددا كبيرا منها، اضافة الى المؤسسات التابعة له مباشرة.
3-هناك من يتحرك تحت وطأة الحس الطائفي، فيسعى لفشل التجربة الفتية مخافة تصاعد سلطة طائفة بعينها مما يهدد طائفة او مذهب اخرى، وهو اسوء الاتجاهات قاطبة، لانه عمل بغيض يعيش على دماء المسلمين، وليس لديه وسيلة سوى التفرقة والشحناء والمكر.
4-بعض الاوساط الدينية المتخلفة، وجدت في انهيار الوضع الامني وتفكك اجهزة الدولة، فرصة لانجاح مشروعها السياسي القائم على العنف وتكفير المجتمع، وتبرير الوسيلة من اجل اهدافها السياسية. ولما فشلت في السيطرة على الوضع راحت تمارس ابشع صور العدوان ضد الشعب، متذرعة تارة بمحاربة الاحتلال، واخرى بكفر الشعب او بعض مذاهبه. وقد اعلنت صراحة كفر الممارسة الديمقراطية لتبرر لنفسها الاستمرار بالعنف، سيما بعد ان فاقت نتيجة الانتخابات كل التوقعات. لذا نحن نترقب موجة عنف ربما تكون اخيرة الا انها قاسية وتتسم بسعة تداعياتها.
5-بقايا النظام البائد، ممن تلطخت يداه بدماء الابرياء، الذين اعتادوا العنف والارهاب. هؤلاء لا يمكنهم العيش في مجتمع ديمقراطي يتمتع فيه الشعب بسلطة حقيقة، فكانت مواقفهم اكثر عدوانية. وقد تتزايد حدة العمليات لتطال افراد الشعب في كل مكان حقدا بعد ان اصطف ثمانية ملايين عراقي او يزيد امام صناديق الاقتراع.
6-ما زالت مجموعة من الناس لم تستوعب وجود قوات محتلة على اراضيهم، فشككوا بكل ممارسة سياسية في ظل الاحتلال. وهؤلاء لا شك في صدقيتهم لكن خانهم الوعي، فالانتخابات كانت مقاومة سلمية ضد الاحتلال اولا، وانها ستضع امريكا وغيرها من الدول امام تعهداتها الدولية في الخروج من العراق متى طلبت الحكومة المنتخبة ذلك، وهذا بحد ذاته نصر، لو تمت مقاربته بشكل موضوعي. فليس المهم اراقة الدماء، وانما المهم طرد الاحتلال، وهذا ما ننتظره. لكن هل الاجهزة الامنية العراقية قادرة على تحمل مسؤولية حفظ النظام وحماية البلاد لوحدها؟ ام ان خروج القوات الاجنبية راهنا سيضع البلاد على طريق الحرب الاهلية؟ الخبير بالساحة العراقية سينحاز الى الرأي الاخير، وسيرى في خروج القوات الاجنبية فورا خيانة لوحدة العراق التي يتربص بها كثيرون. لسنا ضد وجود قوات اجنبية في ظل الظروف الحالية للوطن لانها باتت ضرورة ولو على مستوى التدريب والتجهيز والحماية، وانما ضد الاحتلال، وضد التلاعب بمقدرات الشعب، اوسلب الوطن سيادته وكرامته.
7-بقي طيف من الناس اعتاد الاستبداد، وتربى في احضانه، فهو شديد في معارضته لكل منحى ديموقراطي. وهؤلاء اشد خطرا على المجتمع. فكل الفئات المتقدمة قد تتلاشى او تتعطل فاعليتها، غير ان العقول التي ألفت الاستبداد، ستبقى عدوا لتطلعات الشعب في تحقيق سيادته. فهم لا يثقون بسلطة الشعب قدر ثقتهم بسلطة المستبد، القوي، القادر على تأديب الناس وسلبهم حرياتهم. ولا يمكن القضاء على هذا النمط من الشرائح المتخلفة الا بزعزعة ثوابتهم ومحدداتهم العقلية. ولا نقصد بالاستبداد الاستبداد السياسي فقط، وانما الاستبداد الديني اشد خطرا على المجتمع، واثقل وطأة. واذا استحوذ خطاب ديني استبدادي سوف لا يلبي الدستور العراقي المرتقب طموحات الشعب، وانما يتحول الى املآت دينية استبدادية، وهو مكمن الخطر مالم يلتفت الواعون من النخب المثقفة ويحولوا دون ذلك. لسنا ضد الدين كاطار اخلاقي ونظام تربوي وعبادي بل وحتى تشريعي في بعض الجوانب، ولسنا ضد تضمين الدستور فقرة (الاسلام دين الدولة الرسمي) اذا كان يمثل راي الاغلبية، لان الشعب مصدر السلطة والشرعية، لكننا ضد وجود اتجاهات تحاول باسم الدين تكريس سلطتها وهيمنتها السياسية، وتسعى لفرض ارادتها من خلال صيغ قانونية يتضمنها الدستور. فكما نحذر عودة البعثيين ونخشى التدخلات الخارجية، ونخاف من التورط في حرب اهلية، ونتوجس من وجود قوات اجنبية، علينا ايضا وعي الممارسات الدينية، سواء الدخلة في اللعبة السياسية او المعارضة للعمل السياسي تحت ذرائع شتى، بل قد تكون الاخيرة اكثر خطورة، لا نها رفعت لافتة محاربة الاحتلال باسم الدين، وشككت بمصداقية الانتخابات لانها جرت في ظل الاحتلال. وهي دعاوى تستقطب عادة الناس الطيبين وذوي الميولات الثورية، لكن تداعياتها خطيرة على العملية السياسية بالذات.
واخيرا نقول لكل المتربصين بهذا الشعب المتألم الذي عانى طويلا، دعوهم يكتبوا دستورهم بايديهم.. ام ادمنتم العنف والاستبداد؟ فحينئذ ٍ على الشعب ان يعد العدة المحاربة العنف والاستبداد اولا.

[email protected]