-1-

تتصاعد الحملات العدائية الشعبية والرسمية العراقية ضد الأردن والأردنيين على إثر ما نشرته جريدة "الغد" الأردنية، وما سبق أن نشرته جريدة "الحياة" اللندنية (16/12/2004 ) عن "أعراس الدم" التي تقيمها مجموعة من العائلات في مدينة السلط التي فقدت القيم الدينية والاجتماعية والانسانية، وقام أبناؤها وأبناء مدن أخرى كمدينة الزرقاء التي خرج منها الإرهابي الأكبر الزرقاوي بتفجير السيارات المفخخة في العراق التي تقتل مئات العراقيين الأبرياء دون ذنب.
لقد ذهب مئات الشهداء الأبرياء من أبناء العراق الشرفاء ضحية لما اقترفته يد الإرهاب من أبناء الأردن الضالين المُغرر بهم من الجماعات الأصولية الدينية والسلفية القومية على السواء طيلة السنتين الماضيتين.
لا تلوموا العراقيين فيما يبدون الآن من مشاعر العتب والسخط والغضب نحو الأردن، فلهم الحق كل الحق في ذلك. فقد فقدوا الأبناء والأعزاء لا لذنب اقترفوه، ولكن لأنهم يسعون إلى الحرية والديمقراطية، فكان جزاؤهم هذا المصير البشع الذي نفذته مجموعة من الشباب الأردني المجنون والمهووس بالجنس الآخروي الموعود في الجنة!
لا تلوموا العراقيين فيما يفعلون الآن، فقد فاض بهم الكيل وصبروا طويلاً، وهم يرون أبناءهم الأبرياء يذهبون ضحايا لجنون البقر الأردني الذي ضرب مناطق معينة من الأردن. فحُزن العراقيين ولوعتهم على أبنائهم تجيز لهم كل هذا الغضب وكل هذا السخط وكل هذه النقمة. وهم الذين مدوا أيديهم إلى الأردن كما لم يمدها أي شعب عربي آخر سواء في عهد الملكية الهاشمية، أم في عهد الجمهورية البعثية، أم في عهد الجمهورية الصدّامية، أم في عهد الجمهورية العراقية الديمقراطية الحرة مؤخراً. فلماذا يسكت الأردن على كل ما يحصل من أبنائه من جرائم في حق العراق والعراقيين؟

-2-

لم تكن مجزرة "الحلة" البشعة التي قتل فيها المجرم الأردني رائد البنّا أكثر من 130 ضحية عراقية بريئة هي المجزرة الأولى من نوعها في العراق. ولم يكن آل البنّا في السلط هم أول عائلة تقيم "عرس الدم" لهذا الانتحاري المجرم. فقد سبق لمراسل جريدة "الحياة" حازم الأمين، أن نقل لنا الصورة المقرفة والمقززة التالية منذ ثلاثة أشهر (16/12/2004) وقال فيها تحت عنوان :
"سلفيو السلط يقيمون الأعراس لقتلاهم في العراق ويحرضون على الخروج للقتال! "
وقال الأمين في تقريره الإخباري أن مجموعة من الشباب السلطي الذين قتلوا في العراق بسيارات مفخخة كانوا من المجرمين سابقاً. "فنضال عربيات، وهو أحد مساعدي الزرقاوي الذين قتلوا في العراق، كان زعيم عصابة بيع مخدرات في السلط، كان يطلق عليها اسم عصابة "الدعسة الفجائية". وكذلك محمد هاني الذي تمَّ ضمه الى الجماعة في السجن الذي دخله بسبب أعمال منافية للقانون ارتكبها. علماً ان السجن كان أحد أماكن التجنيد الأساسية في هذه التيارات. وهذا ما يفسر صدور عدد كبير من هؤلاء عن ماضٍ اجرامي. وعلى رأس أصحاب السوابق من ناشطي التيار السلفي الانتحاري أبو مصعب الزرقاوي طبعاً".

-3-

بعد أن نشرتُ مقالي (عار أعراس الدم الأردنية) قبل يومين، بعث إليَّ بعض الشرفاء الأردنيين يطالبونني بكتابة "بيان استنكار" باسم أهالي السلط لهذه الجريمة البشعة، ودعوة أهالي السلط للتوقيع عليها. في حين كتب إلى البعض الآخر يشتمني على هذا المقال، وينكر حادثة "رائد البنّا" انكاراً كلياً، ويدّعي أن ما قامت به جريدة "الغد"، لا يتعدى أن يكون "فبركة صحافية" على حدِّ زعمهم. وهو قول يضاف إلى "جنون البقر الأردني " جنوناً آخر مضاعفاً. ويصوّر الصحافة الأردنية أمام العالم بأنها صحافة غبية وجاهلة وعديمة الضمير والإحساس بالمسؤولية، وتملأ صفحاتها بحبر دماء الآخرين المجانية. وهذا غير صحيح. فما تم نشره في جريدة "الغد" هو صحيح بالصورة والكلمة، وما الإنكار له إلا بعد أن تمَّ فصل المحرر المسؤول في الجريدة، وهو تصرّف لا يُغني شيئاً، ما لم يقم الإعلام الأردني بأكمله بثورة إعلامية تطهيرية على نفسه تخلصاً من هوس الأمل بعودة الديكتاتور المقبور الذي ما زالت الصحافة الردنية تطلق عليه "البطل الضرورة". وأصبح هذا الهوس بمثابة سرطان صدّامي ينخر في جسم هذا الإعلام منذ سقوط صدام إلى الآن.

-4-
البيانات الاستنكارية برأيي لا تفيد. كما أن استنكارات الحكومة الأردنية غير كافية. فهي حبر على ورق، ليس إلا. ولا تُقنع الشارع العراقي الغاضب والساخط والعاتب. ولا تضع حداً لمثل هذه الأعمال الإجرامية. وما يفيد هو اتخاذ الدولة الأردنية عدة خطوات حازمة للحد من هذا الجنون البقري الانتحاري، الذي ضرب مناطق معينة من الأردن كالسلط والزرقاء كما تضرب الزلازل المدن، ومن هذه الخطوات ما يلي:

1- قيام الأردن سريعاً بحزمة كبيرة من الإصلاحات السياسية للقضاء على الفساد المُستشري، لكي لا يبقى الأردن مصدر تصدير للارهابيين من أمثال الزرقاوي والبنّا وعربيات وغيرهم. وقد وجه بعض النشطاء السياسيين المعارضين الأردنيين بالأمس خطاباً مفتوحاً للرئيس بوش، قالوا فيه أن السياسة الأردنية ذات وجهين. وهي تبيح الآن للمستثمرين القتلة من العراقيين البعثيين الذي نهبوا مال الشعب العراقي للاستثمار في الأردن مستفيدين من أجواء الفساد المُستشري في الحكومة والإعلام الأردني. وطالب هذا الخطاب الإدارة الأمريكية بربط المساعدات الأمريكية للأردن بشروط إجراء إصلاحات سياسية شاملة، وتحويل الأردن من "ملكية مطلقة" الى "ملكية ديمقراطية". وإلا سيبقى الأردن مصدراً للارهاب كما هو الآن. وتم إرسال صورة من هذا الخطاب إلى الخارجية الأمريكية والكونجرس والاتحاد الأوروبي وكوفي عنان وإلى الصحافة العالمية.

2- الطلب إلى مفتى الأردن وكبار أشياخ الدين بإصدار فتاوى شرعية تدين هؤلاء الانتحاريين ولا تعتبرهم شهداء، وإنما هم قتلة ومجرمون كما قالت مجموعة من أشياخ الأزهر العقلاء كسيّد طنطاوي وغيره، وكما قالت مجموعة من أشياخ السعودية وعلى رأسهم الشيخ عبد المحسن العبيكان وغيره.

3- منع خطباء الجمعة في المساجد الأردنية من تمجيد الانتحاريين المجرمين في خُطب الجمعة والدعوة لهم بالجنة ولقاء الحور العين المزعومات، وإطلاق لقب "شهداء" عليهم كما يتم الآن.

4- منع الإعلام الأردني من الترويج والتفاخر والتسابق في نشر احتفالات "أعراس الدم" التي تقيمها بعض العائلات في السلط وغيرها كما فعلت صحيفة "الغد" في الأيام السابقة.

5- منع عائلات الانتحاريين من إقامة "أعراس الدم"، حيث لا عزاء للمجرمين. والتحقيق مع عائلات الانتحاريين التي تقيم "أعراس الدم" حيث أنها مسؤولية عن تربية هؤلاء الانتحاريين تربية إجرامية سيئة. وحيث أن الموضوع لم يعد شأناً اجتماعياً خاصاً كما قالت الحكومة الأردنية، ولكنه أصبح يهدد علاقة الأردن كدولة وشعب بالعراق كدولة وشعب. وبذا، اتخذ هذا الموضوع طابعاً سياسياً يمسُّ مصالح الدولة والشعب الأردني.
أما ما يدّعيه بعضهم بأن مثل هذه الاجراءات وخاصة لجم الإعلام الأردني، ولجم الذين ما زالوا يبشرون بعودة الديكتاتورية للعراق هي ضد "الديمقراطية المنقوصة" في الأردن فهي دعوة خرقاء وبلهاء. فالديمقراطية قيم نفعية، ومثل هذه الأفعال تضرُّ بالقيم النفعية الأردنية وبمصالحها مع العراق الذي قدم للشعب الأردني ما لم يقدمه أي شعب آخر على مدار أكثر من نصف قرن مضى. وقيم الديمقراطية يجب أن تُكرّس لخدمة مصالح الشعب الأردني، وليس لخدمة أهداف الأصولية الدينية والسلفية القومية. كما أن الشعب الأردني وحكومته يجب أن يقفا إلى جانب آمال وأمنيات الشعب العراقي بتحقيق الديمقراطية والحرية والاستقرار للعراق وهي من قيم الديمقراطية التي يدعي الإعلام الأردني أنه يمارسها.

[email protected]