أجمل ما في اللوحة مزيج ألوانها. أمَّا فرز الألوان، فهو عمليَّة تقنيَّة في عالم الطباعة تقوم على فصل ألوان صورة فوتوغرافيَّة إلى أطيافها الأصليّة الثلاثة، الأصفر والأحمر والأزرق تمهيدًا لإعادة مزجها تحت عجلات المطبعة. إنَّها إذًا خطوة مؤقَّتة للفصل لإعادة المزيج. فقيمة اللوحة في نهاية المطاف، هي في تمازج ألوانها. أمَّا فرز الدماء، فهو خطوة نهائيَّة لا عودة عنها، تنتهي بالموت، موت الأفراد وموت المجتمعات.
دفعني إلى هذا الكلام الحملة العدائيَّة البذيئة التي قامت ضدَّ كلِّ ما هو سوري في أعقاب اغتيال الرئيس الحريري، التي باستثناء الشتائم التي وجَّهها بعض السوقة في المظاهرات، لم يكن من تعبير أكثر فجاجة عنها من مقال لجورج ناصيف نشرته صحيفة النهار بتاريخ 3 آذار (مارس) 2005، استهلَّه بما يلي:
"ثمة خطأ فاحش ترتكبه المعارضة الاستقلالية: عدم مطالبة القوات السورية، خلال انسحابها، بأن تخصص شاحنات مقفلة النوافذ من اجل ان تشحن جحافل الوزراء والنواب والمديرين العامين والكتّاب والصحافيين والفنانين والشعراء وعمداء الجامعات ومديريها وقادة المنظمات الدكاكين ممن شكلوا، لسنوات، جيشا رديفا للمخابرات السورية افسد البلاد والاخلاق، واشاع استتباعا ذليلا باسم المسار والمصير."
ثمَّة خطأ فاحش حقًّا يرتكبه السيِّد ناصيف: لا يجوز أن نكتفي بهؤلاء فقط، بل بكلِّ ما يمتُّ إلى سورية بصلة اسمًا وفعلاً وصفة وتاريخًا. فلنبدأ فورًا بتهيئة الشاحنات لجميع أفراد عائلات "الحلبي" والشامي" و"الحمصي" و"الحموي"، و"اللاذقي" و"دمشقيَّة" و"التدمري" و"القنواتي"، على سبيل المثال لا الحصر.
ثمَّ فلنأخذ بعض العائلات غير المعروفة كليًّا كالتي تحاول الاختباء خلف بعض السياسيِّين اللبنانيِّين المعروفين، كآل "توتنتجي" الحلبيِّين مثلاً الذين تزوَّجوا بآل الجميِّل، ومَن هم مثلها، من آل قوَّتلي وجابري اللواتي تزوَّجن بسياسيِّين لبنانيِّين مثل آل الصلح، وهلمَّ جرًّا. بالطبع، هذا ربَّما يخلق مشكلة كأن نسأل ماذا نفعل بذريَّات هؤلاء! هل نردُّ نصف الابن أم الإبنة إلى حلب مثلاً، ونكتفي بنصفه الآخر؟ وفي حال كان الجواب نعم، فأيُّ نصف نرسل، وأيُّ نصف نستبقي!
وماذا عن آل جنبلاط! ومعروف أنَّ أصلهم من حلب، كما قال الأستاذ وليد من مدَّة غير بعيدة. ولكن إذا ذهبنا إلى ذلك الزمن، فلماذا نتوقَّف هناك! ماذا عن الطائفة المارونيَّة كلِّها! ألا يجب أن تعود إلى حمص! أليس في أناشيدهم التي كانوا ينشدونها أنَّ: "مار مارون فخر سورية"، كما ذكر المغفور له مارون عبُّود! وماذا عن أبناء الأقضية الأربعة التي ضُمَّت إلى لبنان سنة 1920. لا يا أستاذ ناصيف يجب تنظيف لبنان من كلِّ هؤلاء.
ولا يجب الوقوف هنا. فكلُّ لبناني تكلَّم بالخير عن سورية يجب أن يُطرد طردًا ويُحمل في قلب الشاحنات أو على سطوح الحافلات، وفي طليعة أولئك، ذلك الذي يدَّعي اللبنانيَّة سعيد عقل. ولكنَّه تغنَّى بسورية كما لم يتغنَّ بها أحد مثله. أليس هو المُنشد: "سورية فوق الجميع"، و"قدموس" و "سائليني يا شآم"! وماذا عن جبران خليل جبران؟ ألم يحاول أن يكون طبيب أسنان في سورية قبل أن يتوجَّه إلى الكتابة! فكتب "في فم الأمَّة السوريَّة أضراس مسوِّسة." أمَّا العميلة رقم واحد بامتياز التي يجب أن تنزل بها أشدُّ العقوبات، فهي السيِّدة فيروز. لا يمكن مهما حاولت أن يغفر لها السيد ناصيف جرائم صوتها المُبدع إذ يغنِّي: "شآمُ أهلوكِ إذا هُمِ على نُوَبٍ قلبي على نُوبِ."
وربَّما يشفع لنا السيِّد ناصيف بسبب اندفاعنا في تأييد فكرته، فلا يُطالب مثلاً بنبش قبر جدِّنا لوالدتنا بو عساف إسبر كرم، من قريّة زبوغا في المتن الشمالي، وترحيل رفاته مع الشاحنات السوريَّة. فجدُّنا هذا قد ارتكب خطيئة مميتة! لقد أطلق على والدتنا اسم "سيريا" يوم عاد من البرازيل إلى لبنان سنة 1914، فكانت أوَّل ابنة تولد له على أرض الوطن. وربَّما يتحنَّن، فلا يمنعنا من جلب رفاتها من مصر ذات يوم لتدفن في أرض أجدادها.
هل نتابع! لا، يكفي فلندع البستاني والدبس والريحاني والرحباني مرتاحين في قبورهم.
طبعًا، لا يمكن أن نتوقَّع لسورية إلاَّ أن تردَّ الجميل لنا. فإذا كنَّا نرد أبناءها إليها فيجب أن نتوقَّع منها، بل أن نطلب منها أن تردَّ لنا أولادنا اللبنانيِّين. لذا، على السيِّد جورج ناصيف أن يطالب الحكومة السوريَّة فورًا بإطلاق سراح كلِّ السوريِّين من أبناء "البيروتي"، و"الطرابلسي"، و"الصيداوي"، و"الصوري"، و"البعلبكي"، ولا ننسى أقاربنا في السويداء من آل "جزَّان" و"مهتار"، وعائلات عبد الصمد، وسواهم من العلائلات الشوفيَّة التي نزحت إلى الداخل في أعقاب معركة عين دارة.
ربَّما يحتج السيِّد ناصيف بالقول إنَّه إنَّما قصد "لبنان الكبير" منذ قرار تشكيله سنة 1920. عفوًا سيِّد ناصيف، نسينا أنَّ الخليقة بدأت سنة 1920، وأنَّ الجنرال غورو هو الله جلَّ جلاله تأنسن ليخلق لنا لبنان.
طبعًا طالما أنَّنا شعبان لا علاقة لأحدهما بالآخر، ولا صلة قربى ولا مصالح ولا أمن ولا مياه، فلا بأس إذا أغلقنا الحدود بين لبنان وسورية. ولضمان عدم تسلُّل أيِّ مخرِّبين أو عملاء من سورية إلى لبنان، فلنبني جدارًا عازلاً على طول الحدود اللبنانيَّة من الجولان إلى العبوديَّة مرورًا بالمصنع والقاع والدبوسيَّة. جدار أين منه جدار العزل العنصري الإسرائيلي! فلنجعل ارتفاعه مئات الأمتار. إنَّ في هذا تشجيع لصناعة الإسمنت اللبنانيَّة والعمالة اللبنانيَّة!
هذا الحائط سوف يساعد على منع نقل الأشجار السوريَّة إلى لبنان. فنحن اللبنانيِّين الذين نطحن الصخور، لا نريد من يلوِّث بيئتنا الصخريَّة بتلك الأشجار التي يقدِّمها لنا السوريُّون كلَّ سنة لنزرع بها الجبال الجرداء. إنَّها مؤامرة على اقتصادنا نحن في غنًى عنها.
أمَّا انعكاس كلِّ هذا على الفقير اللبناني الذي يذهب كلَّ أسبوع إلى سورية للتبضُّع ولملء خزَّان سيَّارته بالوقود، أو على صاحب الملهى وصاحب السوبر ماركت اللبناني، وأصحاب المؤسَّسات اللبنانيَّة في سورية، على سائقي الشاحنات والنقل العام، فكلُّ هذا لا يعني السيِّد ناصيف! إنَّ مهمَّته فرز الألوان، عفوًا فرز الدماء. دماء اللبنانيِّين الملوكيَّة الزرقاء عن دماء السوريِّين العملاء الحمراء.
ربَّ قائل إنَّني أظلم السيِّد ناصيف! لا أعتقد. إنَّ الحقد الذي انتشر في لبنان ليس وليد تصرُّفات المخابرات السوريَّة واللبنانيَّة فحسب، إنَّه نتيجة عقليَّة عنصريَّة قديمة، من عمر الكيان اللبناني نفسه، مثّل جانبها السوقي الذين شتموا سورية والسوريِّين في المظاهرات. ومثَّل جانبها الإجرامي الذين أقدموا على قتل وضرب عمَّال سوريِّين في لبنان. ويمثل جانبها الوبائي بامتياز السيِّد جورج ناصيف.