يبدو التعرض لرجل مثل نجيب ساويرس أمراً محفوفاً بالمخاطر، لعل أقلها التهم الخرقاء كالتزلف أو الابتزاز، وهي تهم نرى ـ والحمد لله ـ أننا في غنى عنها، خاصة وأنني لم أتشرف من قبل بمعرفة الرجل أو مقابلته، لكن الاهتمام بأمره يصبح واجباً، حين يسكن قلب الشأن العام، ويلعب دوراً إعلامياً ينطلق من قناعات فكرية، تتوافق مع رؤية قطاع عريض لكنه مهمش، وأقصد النخبة الليبرالية في مصر، فضلاً عن أن نجيب في نهاية المطاف لاعب أساسي على الساحة، ويؤدي دوراً هاماً للغاية، في هذه المرحلة التي يقود فيها رجال الأعمال مصر بل والمنطقة والعالم.
وخلال الأيام الماضية اقتحم نجيب ساحة ألغام، طالما تفادى الاقتراب منها، خوفاً على مصالحه الاقتصادية المتشعبة، وإيثاراً للسلامة، لكن ما حدث أن نجيب أبدى رأياً يعلنه الليبراليون منذ أعوام، بشأن مخاطر انتشار الهوس الديني، ولأنه ليس مجرد صحفي أو كاتب فقد كان منطقياً أن يصبح هدفاً للغاضبين والمتعصبين وتجار الأديان، ناهيك عن الموتورين والمبتزين والذين احترفوا الصيد في الماء العكر.
وشخصياً لا أرى ـ ويؤيدني معظم من أعرفهم ـ فيما قاله نجيب ما يمس الدين ولا المتدينين، فهذا الهوس الديني السائد أمر خطير يهدد الأمن القومي بالفعل، وانتشار النقاب في كل طبقات المجتمع خلق حالة quot;فرز طائفيquot;، فغير المحجبة الآن هي غالباً مسيحية وبالتالي فما عبر عنه نجيب من شعوره بالاغتراب في وطنه، وهو النخبوي الذي لا يخالط العوام إلا مصادفة، ومع ذلك فقد تسلل إليه هذا الإحساس البغيض، فما بال الفقراء والمهمشين من المسيحيين الذين باتوا أكثر قلقاً على مستقبلهم، خاصة في ظل تعاظم الهوس الديني المتفشي على نحو وبائي في مصر، كأنه طاعون القرن الحادي والعشرين.
أما المثير للدهشة فهو أن كل هذه المظاهر الدينية تبدو في المحصلة النهائية مخادعة، فليس لها أي مردود أخلاقي على المجتمع، ولم تفلح في تهذيب الناس حتى في أبسط قواعد التعامل اليومي، فقد أصبح من المشاهد المألوفة في مصر الآن، صورة ذلك الفتى الذي يقرع الناس ويتعالم عليهم، ويمنح نفسه حق الوصاية عليهم، ويتصرف كنجوم السينما لا لشئ سوى أنه ـ بسلامته ـ أعفى اللحية وحف الشارب.
إذن فبعد أن أصبح المشهد المصري مصلوباً على حافة التعصب والتوتر، فإن الرهان لم يعد ممكنا على إعلام quot;عزبة ماسبيروquot;، بل هو في عهدة هذا quot;الطراز الفرعونيquot; من الرجال العصاميين كنجيب ساويرس، الذين صنعوا نجاحهم بالانفتاح على العالم والدأب والهمة العالية والصدق مع الذات وروح التحدي.
ورغم الإحباط الذي أصاب كثيرين بعد تواضع مستوى فضائية (O Tv) التي خذلتنا، ولا ينبغي أن نكذب على أنفسنا، ونصدق المنافقين والفاشلين بأنها احتلت موقعاً متميزاً في وجدان المشاهد المصري، فقد اتسمت بالسطحية والرؤية المشوشة لذوق جيل الشباب، غير أن الأمل مازال يراودنا في تجارب الفضائيات الأخرى، التي أعلن نجيب ساويرس عن إطلاقها قريباً، فلا تخضع لضغوط المستبدين أو ابتزاز المتعصبين، أو تدني وتواضع الخبرات المهنية التي تشرف على تلك الفضائيات، خاصة وأن المرء لا يجد أدنى عذر لفشل القائمين عليها.
.....
يا نجيب. هناك مقعد شاغر في تاريخ مصر الذي يكتب الآن في هذه اللحظة الحرجة، وشخصياً لا أرى كثيرين مؤهلين لشغله مثلك، فأنت تمتلك ناصية الثروة والوعي والشجاعة كي تنتصر لمستقبل أبنائك ووطنك في ظل ظروف ضاغطة، أخشى معها أن يضيع وطن التسامح بين سطوة المتطرفين وانحطاط من ينافقونهم، كما أن نجيب وبالمصري الفصيح quot;مفيش على راسه بطحهquot; فهو ليس من أقباط المهجر الذين تعرضوا لأسوأ حملة تشويه وهم من أنبل وأكفأ أبناء مصر التي تسكنهم، وإن لم يسكنوها، وبالتالي فلن تطال الرجل تهمة العمالة للغرب ولا الشرق، فضلاً عن أنه ليس بحاجة لأموال الأمريكان أو اليابان، ولا يمكن اتهامه بالطائفية فهو ليبرالي منفتح الأفق، وبالتالي فالأمر بيده وحده فالمجد لا تصنعه الثروات وحدها، بل المواقف النبيلة التي تنحاز للخير والحق والجمال والناس، فمن يتذكر الآن أثرياء كانوا كباراً في زمنهم، مثل عبود باشا وبشرى باشا، مقارنة بقامات سعد زغلول، ومكرم عبيد، وطلعت حرب؟
ولا ينبغي أن يفهم من ذلك أننا ندعوه إلى الانتحار الاقتصادي، فحين تصدى رجال أعمال مصريون وعرب، لإطلاق عدة فضائيات تشيع التعصب وتحرث الأرض أمام صناعة التطرف، لكنهم لم ينتحروا، بل لعبوا أدواراً لصالح قناعاتهم ـ بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف حولها ـ وغاية ما ننشده من رجل مثل نجيب أن يفعل مثلهم، ويمنح الفرصة للتيار الليبرالي المستضعف، والمهمش بين نظام يتوجس من تناميه على نحو يهدد استمراره في العبث بأقدار البلاد والعباد، وبين تيار متعصب يجعل الليبراليين هدفه الأول وحتى الغرب الذي انحاز بالفعل لمصالحه، في استمرار أنظمة مستبدة تتعامل معه بصيغة quot;مقاول الباطنquot;، وتكفل لهذا الغرب كل ما يريده منا، مقابل أن تدعها في النهاية quot;تصطفلquot; مع بقية خلق الله من مواطنيهم.
.....
يا نجيب. إمض في طريق الأحرار، ولا تخذلنا وتتراجع تحت تأثير الإرهاب الفكري، فقد وصلت إلى ساحة معركة المصير متأخراً، لكنه أفضل من ألا تصل أبداً، وقد يشفع لك أنك كنت طيلة العقود الماضية تصنع سلاحاً حاسماً، هو الثروة، ونجحت بالفعل، وهاهي اللحظة التاريخية قد حانت لتدفع بهذا السلاح إلى ساحة المعركة، التي سبقك إليها المال الوهابي والغربي والفارسي والبعثي والانتهازي وغيره، وكل شئ إلا المال المصري والإنسان المصري.
ولعله الوقت المناسب ليعيد المصريون تذكير جيرانهم الذين غزوهم بالتخلف، بأن النقود لم يزل اسمها في بلادهم هو (المصاري) جمع مصرية، وأن الرخاء اختراع مصري، وأن مصر لم تمت بل مازالت قادرة على إدهاش الجميع في اللحظة التي تبدو فيها وكأنها تحتضر.
[email protected]

أية اعادة نشر دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه