طالما نلتقي بمفارق زمني (غذائي) في جوهره، ذلك هو تكثير الطعام القليل بدعاء أو مشاركة النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، وقد تخصّص في ذلك بعض الرواة من الصحابة، سوف أتعرض لهم لاحقا بقوة ألله.
تكثير الزاد من معجزات النبي السائرة في سيرته، كان الطعام لا يكفي أثنين أو ثلاثة أو مجموعة قليلة من الصحابة، ولكن بمباركة دعاء النبي الكريم، أو بمشاركته الاخرين هذا الزاد القليل، يكون قد كثر وكثر حتى يكفي العشرات، بل قد يبقى على حاله، بعد ما ياكل منه العشرات من الصحابة، وخاصة في أوقات عصيبة من الجوع والقحط والضنك!
أين هي الحقيقة من هذه البركات اللازمنيّة الفارقة بشكل واضح؟
لقد وجدنا هذه المفارق الزمني الخارق في غزوة الخندق كما يسميها الزمن الإسلامي، ومعركة الاحزاب كما يسميها القرآن الكريم.
الرواية يمهر عليها علماء السنة بالصحيحة، لأنها وردت في البخاري وبعض المصادر الاخرى التي تحتمل صفة الوثاقة لدى جمهور السنة، كذلك وردت في بعض المصادر الشيعية، سوف نتدارس المصادر الاخيرة هذه في مرحلة قادمة إن شاء الله تعالى.


رواية البخاري /1
جاء في صحيح البخاري (خلاّد بن يحي بن أ يمن عن أبيه، قال: أتيت جابرا رضي الله عنه فقال: إنّا في يوم الخندق نحفر فعرضت كدية شديدة، فجاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كُدية عرضت في الخندق، فقال: أنّأ نازل ثم قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول فضرب فعاد كثيباَ أهيل، أو أهْيم، فقلتُ: يا رسول الله إئذن لي إلى البيت، فقلتُ لإمرأتي: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ما كان في ذلك صبر، فعندك شيء، قالت: عندي شعير وعناق، فذبحتْ العناق وطحنتْ الشعير حتى جعلنا اللّحم في البُرمة، ثم جلبت النبي صلى الله عليه وسلم والعجين قد إنكسر، والبُرمة بين الأثافي، قد كادت أن تنضج، فقلْتُ: طُعيِّم لي فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان، قال: كم هو، فذكرت له. قال: كثير طيِّب، قال: قل لها لا تنزع البُرمة، ولا الخبز من التنور، حتى آتي، فقال: قوموا فقام المها جرون والأنصار، فلمّا دخل على إمرأته قال: ويحك جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والانصار ومن معهم، قالت: هل سألك؟ قلتُ: نعم،، فقال: إدخلوا ولا تضاغطوا، فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللحم ويغرف حتى شبعوا، وبقي بقية قال: كُلي هذا وأهدي فإن الناس أصابتهم مجاعة) 30 / البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق، الجزء الرابع، ص 1505، رقم الحديث 3875 /
رواه الاسماعيلي عن المحاربي عبد الرحمن بن محمّد بن عبد الواحد بن أيمن عن أبيه قال.. 31 / دلائل النبوة للبيهقي 3 ص 330 /

رواية البخاري / 2
جاء في البخاري أيضا (حدّثني عمرو بن علي، حدّثنا أبو عاصم، أخبرنا حنظلة بن أبي سفيان، أخبرنا سعيد بن ميناء، قال: سمعتُ جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما، قال: لما حُفر الخندق رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم خَمصَاَ شديدا، فأنكفأت إلى إمرأتي فقلتُ هل عندك شيئ فإنّي أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم خَمَصاَ شديدا، فاخرجت إليّ جراباَ فيه صاع من شعير، ولنا بُهيمة داجن فذبحتها وطحنتْ الشعير ففرغت إلى فراغي وقطعّتها في بُرمتها، ثم وليّت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبمن معه، فجئته فساورته، فقلتُ: يا رسول الله ذبحنا بُهيمة لنا، وطحنا صاعاَ من شعير كان عندنا، فتعال أنت ونفر معك، فصاح النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أهل الخندق إنّ جابرا قد صنع سورا فحيَّ هلا بكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تُنزِلنّ بُرمتكم، ولا تخبزن عجينكم حتى أجيء فجئت وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الناس، حتى جئت أمرأتي، فقالت: بك وبك، فقلتُ: قد فعلت الذي قلتُ فاخرجت له عجينا فبصق فيه، وبارك، ثم عمد إلى بُرمتنا فبصق وبارك، ثم قال: أّدْع خابزة الخبز معي، وأقدحي من بُرمتكم، ولما تُنْزِلوها وهم ألف، فأقسم بالله، لقد أكلوا حتى تركوه، وانحرفوا، وإنّ بُرمتنا لتغط كما هي وإن عجينتنا ليُخبز كما هو) 32 / صحيح البخاري في كتاب (المغازي) باب غزوة الخندق جزء 4 ص 1505، رقم الحديث 3876 /
هذه هي رواية البخاري في قضية أو معجزة تكثير الطعام في معركة الخندق، وكما قلت سابقا إن تكثير الطعام معجزة تكررت في روا يات جابر بن عبد الله الأنصاري، فقد روى مرّة عن (عكّة) أم مالك البهزية التي سوف نأتي عليها في مناسبة قادمة إن شاء الله، كما أنه روى قصة استطعام ذلك الفقير شعيره الذي كان يتجدد بدعاء أو بركة النبي الكريم، وغيرها! وللفائدة يعتبر جابر بن عبد الله الأنصاري من أكثر الصحابة رواية للمعجزات، علنا نتحدث عن طبيعة رواياته مستقبلا.

أولا: الغريب اللفظي.
كُدية: القطعة الشديدة الصلبة من الأرض.
كثيبا أهيل: رملا سائلا.
عناق: الانثى من الماعز.
الصاع: مكيال يسع أربعة أمداد، والمدّ مختلف فيه بين رطل وثلث عراقي وبين رطلان.
البُرمة: القدر.
لا تَضاطوا: لا تزدحموا.
سورا: طعاما يُدعى إليه الناس.
ثانيا: حفريّة في العمق
فيما يذكر جابر معجزة تكثير الطعام في الخبر الأول مجرّدا عن آلية هذا التكثير الذاتي العجيب، يبادرنا في الخبر الثاني لبيان هذه الآلية، إنها آلية مادية تشكل جزء من التكوين المادي للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد كانت الآلية عبارة عن (بصاق)!
هل أدرك جابر أن الصياغة الاولى التي تحدّث بها إلى والد (عبد الواحد بن أيمن المخزومي) تفتقر إلى تعقيل أوّلي للمعجزة المذكورة، فاستدرك ذلك في صياغته الثانية التي تحدّث بها إلى (سعيد بن ميناء) حيث عالج الثغرة ببصاق النبي الكريم؟
ولكن كما يبدو أن صياغة الرواية الأولى تفيد أن عملية تكثير الطعام هذه كانت أثناء العمل في الخندق، فيما تفيد الصياغة الثانية أن العملية حصلت بعد الإنتهاء من حفر الخندق (لما حُفِر الخندق)، ولا يذهبن بنّا الرأي إن مثل هذه الاختلاف بسيط لا يؤثر في مجريات التعامل الطبيعي العادي مع الروايتن، فإن ذلك قد يعني أن المسلمين لم يمروا بذلك الجوع المثير حتى بعد حفر الخندق، وعلى ذلك تترتب مواقف سوف نتطرق لها إن شاء الله.
تقول رواية جابر أن المسلمين وهم منهمكون في حفر الخندق في سياق عمل متواصل مضني قاهر لم يذوقوا لمدة ثلاثة أيام شيئا!!
ترى هل من طاقة لبشر أن يستمر يناضل ضد الطبيعة الصعبة لمدة ثلاث أيام وهو لم يتناول شيئا من آدام ولو تمرا وشعيرا؟
أعتقد لو أن هذا الأمر قد وقع، لكان له إنعكاسات واضحة على هذا الكم البشري الهائل الذي كان يحفر الخندق، لسقط بعضهم، وطلب أخرون الإستراحة، ولكان هناك حوار طويل حول معالجة هذا الجوع الذي قد يودي بمخطط خيبر كله.

ثلاثة أيام...
الأيام الثلاثة لها سحر في مخيال المؤرخين والمحدثين المسلمين، ألم يبق علي وفاطمة الرائعة ثلاثة أيام بلا طعام من شهر رمضان، فقد تصدَّقا بفطورهما لفقير ومسكين ويتيم، على ثلاث ليال متوالية؟!
لقد كان عند زوج جابر (عناق وصاع شعير)، ولست أدري أين كا ن جابر عن هذا ا لبسيط الذي عند زوجه خلال هذه الأيام الثلاث، ولماذا لم يبادر من اليوم الأول لمعالجة هذا المُشكِل الغذائي المصيري؟ ولماذا ينتبه في اليوم الثالث ورسول الله إلى جانبه يحفر ويكتال التراب وينقل الكثبان من هنا وهناك، ويوجه العاملين، ويلقي عليهم المواعظ، ويهيل عليهم الوعود؟
خبط عشواء وليس كلاما!
لقد بقيت تلك الإدامة البسيطة تتوالد وتتناسل (حتى شبع المسلمون منها، وبقيت طائفة من الطعام، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إ ن النّاس قد أصابتهم مخمصة، فكلوا وأطعموا)! فكأن جابراَ أو من أفترى على جابر قد أدرك إن السؤال سوف يتابع مشكلة الأيام ا لمقبلة، فقد نفذ الطعام والماء ولم يبق شيء، والخندق ما زال لم يكتمل، والأرض صخرية عنيدة، فإذا كان كرم جابر وكرامات رسول الله التي وتّرت هذا الكرم بما من شأنه أن يجعله مستفيضا في لحظة معينة، فكيف بالزمن المقبل وهو ربما أ شد ضراوة من زمن المعجزة في وقتها؟
فهي إذن معجزة دائمة...
بدأت يوم بصق النبي في تلك البُرمة المحظوظة، واستمرت المعجزة تمارس دورها في محتوى البرمة على مدى زمن متتال، تعالج الخطر الذي لا خطر يضاهيه، ذلك خطر الجوع، وبالتالي، استمر حفر الخندق يحافظ على وتيرته الرائعة بفضل تلك البصقة النبوية المباركة!
أي تاريخ هذا؟
أي فكر هذا؟
النتيجة النهائية لمثل هذا الكلام، أن حفر الخندق كان ببركة بصقة، بصقة الرسول ا لكريم، طاقة هؤلاء الألف من تلك البصقة، بركاتها، خيراتها، فالخندق نتاج بصقة إ ذن، فليس من شك ليس لهؤلاء المساكين من طاقة تحمُّل لمدد أكثر، لزمن آت، يوم، يومان، ثلاثة، وربما أكثر، لسنا ندري، كيف يستمرون؟ كيف يكافحون الكُدى والصخر والرمال والوعر؟ لابد من طاقة جسمية هائلة، تحمل هائل، وكل ذلك يحتاج إلى آدام، ولكن لا مشكلة، فإن الآدام موجود في قدر زوجة جابر، يتجدد ربما في كل لحظة من اللحظات التي توجب ملأ البطن وإسكات أنينها الطاغي.
تسلَّل الغيبي الساذج ـ الغيب مقابل الشهادة في الفكر القرآني عميق ومدهش ومنير، فيما نحن بين يدي غيب ساذج ــ عبر أدوات مادية بسيطة كي يسيطر على الفكر ويصيغ تاريخا طبق شهواته، ظن المؤرخ ا لمسلم إنه بإمضائه هذا الغيب يكون قد جعل من التاريخ تجليا لله، إنه سبق حقيقي لنظرية(هيكل) في تفسير التاريخ ولكن بمستوى مدهش من البدائية والحسية الغليظة.
هل حقا أن المسملين، أو بعضهم لم يقدر أن يرجع للمدينة ليستجب الآدام المطلوب لهذا الكم من الجائعين؟ إن جغرافية الخندق لا تتعارض مع ذلك...
ولست أدري هل خفي عليهم ضرورة التزوّد الكافي من طعام وماء و كساء؟
هم مقاتلون، وأصحاب تجارب في بدر وأحد وغيرها من المعارك الفاصلة في التاريخ الاسلامي، فهل تغيب عليهم هذه الحقيقة؟

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية