[ 2 ndash; 2 ]

إن القسم الأول من هذا المقال قد نشر في 10 آب الجاري، وفيه لخصت أولا، موقفي من القضية الكردية عموما، ومنطلقات التحليل، وحقوق الأمة الكردية المجزأة في حق تقرير المصير الكامل؛ وفي الوقت نفسه، أكدت على حتمية حل المشكلة الكردية في كل بلد من البلدان التي يعيشون بالارتباط الوثيق بالأوضاع الخاصة لكل بلد، ووجوب تعزيز الإخاء العربيndash; الكردي. من جهة أخرى، أشرت إلى استياء بعض الكتاب الأكراد من كتاباتي في الموضوع لأن فيها نقدا لأخطاء القيادات الكردية، في عهود بعينها، ومنهم من اتهمني بquot;الذوبان في الأكثرية العربية!!quot;
إن قضية كركوك، والخلاف المستحكم حول مصيرها، لا تزال قضية ساخنة، وتنطوي على مضاعفات خطيرة.
إن وجهة نظري في الموضوع تكاد تتطابق مع ما عبرت عنه مؤخرا مقالات عدد من الكتاب العراقيين العرب، والأكراد، حول وجوب التحلي بروح الوفاق، والصبر، والتصرف بعقلية أنه في السياسة لا ينبغي اتخاذ المواقف وفق قاعدة quot; إما كل شيء، أو لا شيء.quot;
إن قضية كركوك مشكلة في غاية التعقيد، وهي مزمنة. إنها قنبلة موقوتة، إذا انفجرت، فسوف تهدد بالمذابح الرهيبة، وبتدخل الدول المجاورة، والانفلات الأمني، وخسارة كل مكتسبات العراقيين، وفي المقدمة الشعب الكردستاني بالذات.
في عشية مؤتمر لندن للمعارضة في أواخر 2002، أي قبل شهور قلائل من سقوط النظام السابق، أرسلت بتاريخ 9 ديسمبر منه رسالة لزعيم كردستاني كبير، تتضمن ملاحظات سياسية، وقد نشر عدد من المواقع العراقية منذ أسابيع نص تلك الرسالة.
كان في مقدمة تلك الملاحظات:
1 ndash; إن التعاون التكتيكي مع الأحزاب الدينية لا ينبغي أن يتحول لتحالف استراتيجي، ولتنازلات مبدئية، لكون هذه الأحزاب لا تؤمن أصلا بالديمقراطية؛
2 ndash; إن قضية كركوك معقدة للغاية، وحساسة جدا ولا ينبغي إثارتها قبل قيام نظام ديمقراطي حقا على أنقاض النظام البعثي السابق، وضمان تحقق استقرار أمني كامل، وإنه يجب عدم الانجرار وراء الحماس العاطفي المفرط للشارع الكردي، المطالب بانضمام كركوك لإقليم كردستان في الحال، وبلا حوار واسع، وتوافق، بين مكونات كركوك من جهة؛ وبينها، والحكومة المركزية، من الطرف الآخر، وذلك للتوصل لحل عادل، وعملي، يخدم العراقيين جميعا، ويعزز الأمن، والوحدة الوطنية، من دون إلحاق ضرر ما بمكتسبات إقليم كردستان، والحقوق الكردية.
أتذكر أنه، بعد حوالي سنتين، أو ثلاث من سقوط صدام، جرت في المدن الكردية مظاهرات متحمسة تطالب حتى بالانفصال، ولكن القيادات الكردستانية، إذ عبرت عن تفهمها لمشاعر الشارع الكردي، رفضت تلك المطالبة، وأصرت على أن مصير أكراد العراق هو في العراق. أما عن كركوك، ففي الفترة نفسها غلي الشارع الكردستاني مطالبا بالإسراع بضم كركوك، وكان من رأيي، مرة أخرى، أن حل القضية يتطلب أولا جوا من الاستقرار التام في العراق، والسير بخطوات ديمقراطية حقيقية في العراق، لا الإبقاء على نظام المحاصصة المشئوم، وقد فهمت آنئذ أن من الزعماء الأكراد من كانوا متفقين معي بوجه عام.
إن السياسة أخذ، وعطاء، ومرونة، وتنازلات متبادلة، وهذا ما برهنت عليه تجاربنا السياسية في مختلف العهود. إن تلك التجارب قد برهنت على مخاطر التشدد، ورفض الآخر، ووجوب الاعتدال. لقد علمتنا أيضا أنه تجب مراعاة ظروف كل مرحلة، وعدم الاستعجال. إن هذه العقلية، والثقافة السياسيتين كانتا تنقصان كل القوى الوطنية، والمشتغلين بالسياسة سابقا، ومنهم الكاتب.
بالنسبة لكركوك، صحيح، أن هناك المادة 140 من الدستور المؤقت، وهي في نظري، عادلة، ومشروعة، ولكن المشكلة الكبرى هي في: هل يمكن تطبيق كامل بنود المادة دفعة واحدة في وضع عراقي يواجه يوميا تفجيرات القاعديين، والفتن التي أشعلها جيش المهدي بأوامر سادته في قم، وطهران، وحيث تنعدم الخدمات في العراق، وتنتشر الطائفية، وتغلب الغوغائية، والجهل، على قطاعات كثيرة من الشارع العراقي؟
لقد حدث توتر، وتشنج سياسيان خطيران على أثر قرار مجلس النواب بتأجيل انتخابات المحافظات في محافظة كركوك؛ ولكن أولا: هل كل هذه الانتخابات تلبي مستلزمات الديمقراطية، وإصلاح مواطن الخلل الكبير جراء نظام المحاصصة؟ كلا. إنها، في رأيي، ستجري بنفس معايير، وروح الانتخابين العامين الماضيين، أي بتقديم الولاء للطائفة، والحزب، والعرق، بدلا من أن تجري على أساس برامج سياسية وطنية، وديمقراطية، منطلقة من المصلحة العراقية العامة. إن كل هذه الانتخابات، لو جرت اليوم، لن تأتي بنتائج غير تعزيز الطائفية، وتقوية نظام المحاصصة في تشكيلات السلطات المركزية، والمحلية.
في القسم الثاني من مقالي المعنون:quot; والعراق الآن: أية دولة؟!quot;، المنشور في الأول من يناير المنصرم، ثمنت ما تحقق من خطوات أمنية ضد الإرهاب القاعدي، وجيش المهدي، وفي الوقت نفسه أكدت على هشاشة الهدوء الأمني الجزئي. لقد ورد في ذلك المقال:
quot; إن مما يعزز الرأي عن هشاشة الوضع الأمني الجزئي، هو وجود ما دعوناها بquot;قنابل موقوتةquot;، كمشكلة كركوك، و quot; بعيدا عن مواقف كل طرف، وهي ما بين مشروعة، وما بين مبالغ فيها، وما يثيرها القلق، والخوف من المستقبل، فإن معالجة مشكلة معقدة، وحساسة، كمشكلة كركوك، تستلزم توفر المناخ اللازم، والشروط الضرورية للتوصل لحل عادل، باتفاق كل الأطراف، ولاسيما ضرورة توفر الأوضاع الأمنية اللازمةquot;، وقيام نظام ديمقراطي في بغداد.
إن هذا الموقف يتفق مع آراء الكتاب العراقيين العرب، والأكراد، أمثال الدكتور عبد الخالق حسين، وحسين سنجاري، والدكتور كاظم حبيب، وهفال زاخوئي الذي كتب في 8 الجاري:
quot; كل قادة، وزعماء، العراق اليوم يتحملون مسؤولية كبيرة، وجسيمة، تجاه أهالي كركوك أولا، ومن ثم كركوك كأرض، فقطرة دم كركوية تسال أكثر قدسية من كركوك، ومن نفط كركوك، الذي أصبح وبالا على أهلها.quot;
إن هذا هو أيضا موقف قوى يسارية غربية، كما عبرت عن ذلك مؤخرا مجلة quot;لوموند ديبلوماتيكquot;، الفرنسية اليسارية، المتعاطفة للغاية مع الأماني الكردية. لقد كتبت المجلة، فيما كتبت، وبعد التذكير بعواقب انضمام الحركة الكردية للقتال مع الجيش الإيراني ضد الجيش العراقي، وما نتج من مآس وكوارث جراء وحشية نظام صدام، من حلبجة، والأنفال؛ نقول، بعد التذكير بذلك، تكتب الدراسة أن الحركة الكردية:
quot; تواجه اليوم تحديا مماثلا، في كركوك؛ فبغض النظر عن أية أقوال، مشروعة، أو غير مشروعة، حول حقوق الأكراد في هذه المنطقة، بناء على التاريخ، والجغرافيا، فإن أمامهم عدة عوائق مهمة في حال أرادوا ضمها: مقاومة الحكومة المركزية، والدول المجاورة، وعدم رغبة الولايات المتحدة برؤية حلفائهم الأكراد يُغرقون القارب العراقي، بالإضافة إلى تحدي الدفاع عن كركوك في حال ضموها.quot;
إنني أرى أنه في المرحلة الراهنة فإن العملي، والمعقول، هو بقاء كركوك محافظة مستقلة، [حتى إن أراد البعض إطلاق عنوان quot;إقليم quot; على هذه المحافظة]، ترتبط بالمركز، وتقيم أفضل العلاقات مع إقليم كردستان؛ محافظة تكون لكل المكونات القومية، على قدم المساواة، وبتوافق أخوي. أما عن النفط، فيجب أن يظل في أيدي الحكومة المركزية، ففي كل الدول الفيدرالية الديمقراطية اليوم، تكون الموارد الطبيعية، والدفاع، والسياسة الخارجية، في أيدي الحكم المركزي. أما ما صار عندنا، منذ إقرار الدستور الدائم، فهو مسخ لمبدأ الفيدرالية؛ إنه انتقال من أقصى مركزية مستبدة، ديكتاتورية، إلى إضعاف صلاحيات الحكم المركزي، وانتفاخ صلاحيات المحافظات، بل حتى حقها في عقد معاهدات مع دول أجنبية، ثم هناك المطالبة بإقليم لمحافظات الجنوب، والوسط، وهي مطالبة تخلط بين توفر معايير الجغرافيا، والتاريخ، واللغة، والقومية، كما حال إقليم كردستان؛ تخلط هذا بمعايير طائفية بحتة، ومن المؤسف أنه، ولأسباب تكتيكية بحتة، فإن الجبهة الكردستانية أيدت تلك المطالبة غير المشروعة، والتي لا تخدم غير إيران.
أقول أخيرا، إن النقد النزيه هو لصالح القضية الكردية، والشعب الكردي، ولا يجوز الصمت عن خطب، وتصريحات نارية، معادية للعرب بسبب قرار البرلمان، كقول سياسي كردي في البرلمان: quot; إن العرب، من العلمانيين، إلى الإسلاميين، هم أعداء لنا...quot;، أو قيام سياسي ومسئول كردي آخر بالقول quot; إن العرب ليسوا إلا عازفي ربابةquot;، أو تصريح الأستاذ برهم صالح عن وجود quot;مؤامرةquot; ضد الأكراد!
هل كانت هذه التصريحات لصالح الشعب الكردي؟ كلا. هل المطلوب كسب قلوب العرب، وبقية العراقيين من غير الكرد، أم استفزازهم؟؟ أين مصلحة الشعب الكردي في خسارة أصدقاء كثيرين لها، واستياء، وعدم قبول الأمريكان، كما تسرب من أنباء بمناسبة زيارة مسئولين كرديين كبيرين لواشنطن مؤخرا، ثم زيارة الأخ مسعود، رئيس إقليم كردستان، إلى كركوك، وكلماته الجيدة في التهدئة، والدعوة للحلول التوافقية.
إن نقد هذه المواقف الخاطئة واجب كل القيادات، والقوى الوطنية الديمقراطية، والعلمانية، العراقية من خارج التحالف الكردستاني، وكما أكد الدكتور كاظم حبيب في أحد المقالات، فإن هذه القوى quot; يجب أن تمتلك الجرأة، والشجاعة، لكي تنتقد ما تراه سلبيا في سياسات الحزبين الحاكمينquot;.
إن الواجب هو نقد الأخطاء علنا، لا فقط لهذه المواقف الكردستانية، بل، وأيضا، وعلنا، لأخطاء الحكومة، وأحزاب الائتلاف الحاكم،
إن العراق لا يزال، مع كل أسف، معرضا لمختلف الأخطار، وإن دول الجوار، وخصوصا إيران، تواصل التدخل بأشكال مختلفة، وإن الإرهاب الإسلامي لا يزال مسلطا علينا رغم كل الضربات القوية التي تلقاها على أيدي القوات الأمريكية، والعراقية، ومجالس الصحوة.
إن العراق، يا إخوان، سيكون معرضا للانفجار، والتمزق، والحروب الأهلية، لو استمر، ثم تصاعد التوتر الساخن بسبب كركوك، أو بسبب أية قضية سياسية معقدة، و هامة أخرى.
إن كل القوى الوطنية العراقية، والكردستانية، هي في نظري، مدعوة لاستيعاب حقيقة الوضع، وجدية الأخطار، لتتصرف بحكمة، وروح الحوار، ومن منطلق الحرص على وحدة الخيمة العراقية، التي نحتمي بها جميعا، من مختلف القوميات، والأديان، والمذاهب، وتنوع الاتجاهات الوطنية المخلصة.
أيتها القيادات العراقية الحاكمة: لا تعملوا على إغراق القارب العراقي!