-1-
إنه ملك الملوك، وسلطان السلاطين، وأمير الأمراء، وشيخ الشيوخ، وعمدة العمد الأفريقية. صاحب الثورة الخضراء والكتاب الأخضر، والخيمة الخضراء، والزي الليبي الأخضر، وشعاره خارطة أفريقيا الخضراء. إنه الأخضر ابن الأخضر. وقائد ثورة الفاتح الخضراء (وهي ثورة غبراء في الواقع. فقد كان حكم العائلة السنوسية أفضل بكثير من حكم العائلة القذافيّة، والشعب الليبي يتحسر الآن على عهد السنوسية). وهو الزعيم الأخ القائد. ولم يبقَ في ليبيا نعتٌ أو صفةٌ سلطانية إلا وأُلصقت بمعمر القذافي، الذي أصبح البهلوان، وأضحوكة أهل الشرق والغرب، من العرب والعجم.
فلم يبقَ نعتٌ كريمٌ أو صفةٌ ملوكية، إلا ووصف بها الزعيم الخالد نفسه. ولم يبقَ له من الصفات إلا أن يُطلق على نفسه خليفة المسلمين، أو المهدي المنتظر، أو النبي الخاتم، لو لم يكن النبي محمد عليه السلام، هو الخاتم.
فأين العقل في كل ذلك؟

-2-
قالت الأخبار القادمة في الأسبوع الماضي من بنغازي بليبيا، أن ملوك وسلاطين وأمراء وشيوخ وعُمد إفريقيا، قد توّجوا معمر القذافي ملكاً لهم، وبايعوه، باعتباره quot;ملك ملوك إفريقيا. وطالب ملوك وسلاطين وأمراء وشيوخ وعُمد إفريقيا أن يُسمى القذافي اعتباراً من هذا التاريخ quot;ملك ملوك إفريقيا معمر القذافي. وجاء في البيان ndash; بحسب وكالة الأنباء الليبية - quot;نحن ملوك وسلاطين وأمراء وشيوخ عُمد إفريقيا المجتمعين في مدينة بنغازي بالجماهيرية العظمى في 28 أغسطس/آب 2008 .. ولأول مرة في حدث غير مسبوق.. نحيي ونثمّن عالياً الدور التاريخي للأخ القائد quot;معمر القذافيquot; من أجل تحقيق حرية وعزة إفريقيا وبناء وحدتها.
فهل للقذافي دور تاريخي، غير أنه كان راعي وممول الإرهاب الأول في العالم؟ ولهذا لم تجرِ في ليبيا أية محاولة إرهابية لأي فصيل إرهابي. ففي حين أن المغرب العربي يعجُّ بالإرهابيين في الجزائر والمغرب وتونس، لا نجد للإرهاب أثراً في ليبيا. فمن يجرؤ على المسِّ بعرين الإرهاب القذافي. ولو كان ذكياً كبشار الأسد، لافتعل على الأقل حادثة أو حادثتين سينمائيتين إرهابيتين، لدفع تهمة رعاية وتمويل الإرهاب عنه.

-3-
فهل كان البيان الأفريقي بتتويج القذافي quot;ملك ملوك إفريقياquot;، استباقاً للحكم الغيابي الذي أصدره القضاء اللبناني سميح الحاج بملاحقة القذافي، والقبض عليه، وربما إعدامه، فيما لو ثبت قتله للإمام موسى صدر ورفيقيه. فقد اعترف القذافي في خطابه في مدينة quot;سبهاquot; الليبية في 31/8/2002 باختفاء الإمام ورفيقيه في ليبيا، رغم إصرار السلطات الليبية منذ اختفائه بتاريخ 31/8/1978 بأنه غادر الأراضي الليبية إلى ايطاليا، أم أن بيان تتويج القذافي كملكٍ لملوك إفريقيا، جاء رداً على اتهام القذافي بمقتل الإمام الصدر ورفيقيه؟
وهل سيحول التاج الإفريقي الذي وضعه القذافي على رأسه بالأمس، من ملاحقته والقبض عليه، ومحاكمته، فيما لو أرادت أمريكا وأرادت أوروبا ذلك؟
فبدون الإرادة الأمريكية والأوروبية، لن يستطيع أحد أن يأتي بالقذافي وعصابته إلى ساحة العدل. فالعدالة تحتاج إلى قوة عظمى لتطبيقها. وارتداء القذافي أمس بذلته البيضاء ووضعه خارطة أفريقيا الخضراء على صدره، وتوشّحه بالوشاح الأفريقي، وقد ظهر في هذه الهيئة كالبهلوان ( وهو حقيقة بهلوان)، أمام كوندوليزا رايس، ورفضه مصافحتها كامراة، خوفاً من النجاسة الدينية في شهر رمضان الكريم.. كل هذا لن يحول بين أمريكا وأوروبا وبين المساعدة على إلقاء القبض على القذافي بتهمة القتل المتعمد، فيما لو كان لأمريكا وأوروبا مصلحة في ذلك.

-4-
والقذافي لم يقتل الإمام الصدر ورفيقيه فقط، ولكنه قتل أيضاً المعارضة الليبية (كلاب الشوارع الضالة كما يُطلق عليهم) من قبلهم، وقتل الشعب الليبي من قبلهم ومن بعدهم. وحوّل القذافي الشعب الليبي (اللجان الشعبية) إلى قطعان من الماشية والأنعام، لا تفكر، ولا تقرر.
فالقذافي هو الذي يفكر نيابة عن الشعب الليبي، وكان نتيجة تفكيره quot;الكتاب الأخضرquot; الذي يعتبره إنجيل ليبيا، وإنجيل كل من يطلب المساعدة من ليبيا. فعندما زار القذافي الأردن في المرة الأخيرة وافق على تمويل الأردن للبحث عن مصادر الماء، وتحسين زيادة كميات المياه، شرط تدريس quot;الكتاب الأخضرquot; في المدارس الأردنية، مما دفع الأردن إلى رفض ذلك.
والقذافي هو الذي يقرر القرار الليبي وحيداً فريداً.
وهو من يعلن الحرب والسلم وحيداً فريداً.
وهو من يساند الإرهاب الدولي ويتخلى عنه، ساعة يشاء، وكما يشاء.
وهو من يدفع مليارات الدولارات ثمناً لمغامراته الإرهابية السابقة. فالمال ليس مال الشعب، وإنما مال العائلة القذافية الثرية جداً. فوالد القذافي (محمد أبو منيار) كان مليارديراً كبيراً على مستوى العالم، وكان صاحب سفن وعمارات ومزارع وبنوك في أوروبا وأفريقيا. وقد ورث الفتى معمر هذه الثروة عن أبيه وجده. ولعب بهذه الثروة كالمقامر على موائد القمار بلاس فيجاس. فخسر كل هذه المليارات.
والقذافي في ليبيا هو المثقف، وهو الفيلسوف السياسي، وهو الكاتب والحاجب، وهو العاطي والآخذ، وهو الشاعر والفاجر، وهو الدستور والمحظور، وهو كل شيء في ليبيا.
فقد اختفى من ليبيا الأدباء والشعراء والمبدعون والسياسيون والقادة العسكريون، ولا نسمع ولا نشاهد في ليبيا الآن، غير القذافي وأولاده، يسرحون ويمرحون.

-5-
يظن بعض الحكام العرب أنهم بمولاتهم لأمريكا وبتلبية طلباتها، وتحقيق أهدافها هنا وهناك، كما فعلت ليبيا القذافي، أنهم أصبحوا في مأمن من شرها ومن قوتها، ما داموا قد جلسوا في الحضن الأمريكي الدافيء.
لقد وقع في هذا الخطأ عدة حكام وعلى رأسهم صدام حسين. ويقول لنا السفير العراقي السابق الدكتور محمد المشاط، في كتابه المهم الذي صدر أخيراً (كنت سفيراً للعراق في واشنطن)، أن صدام حسين وصل به الارتماء في الحضن الأمريكي إلى حد العمالة والجاسوسية. ولكن ما أن رأت أمريكا مصلحة في خلعه وشنقه حتى بادرت إلى ذلك، بغض النظر عن ثمن ذلك، وعن التضحيات التي دفعتها لتحقيق ذلك.
ومن هنا ننصح الزعماء العرب الموالين لأمريكا، بأن لا يضعوا في بطونهم (بطيخة أمريكية) وأن لا يطمئنوا للرضا والقبول الأمريكي، فبروز الأنياب الأمريكية، لا يعني أن الليث الأمريكي يبتسم، كما قال الشاعر قديماً.
ففي السياسة لا أخوة ولا تسامح، ولكن هناك قوة ومصالح.
وعلى لبنان أو غير لبنان، أن يثبت لأمريكا - كما فعلت المعارضة العراقية سابقاً - بأن من مصلحة أمريكا القبض على القذافي ومحاكمته، وأن يُقنع أمريكا والغرب بذلك.
السلام عليكم.