إن أوقات الأزمات الحادة تتطلب من الساسة والمثقفين، أكثر من أي وقت مضى، شجاعة سياسية من منطلق الحرص على القضية العامة، بعيدا عن المزايدات والمتاجرة بالشعارات، وتمويه الحقائق ولي عنقها.
منذ صباي في بداية الثلاثينات الماضية وأنا أسمع عن فلسطين quot; الشهيدةquot;، كما وصف منلوج للمغني سلامة الأغواني، وفي تلك الفترة جاء مفتي فلسطين للعراق مرَحَّبا به من أبناء شعبنا وسياسيه، وفي حدود 1937 طرحت بريطانيا مشروعا لحل القضية الفلسطينية بتشكيل دولة فلسطينية عربية مستقلة على أن يكون ثلث السكان من اليهود. المفتي والقيادات الفلسطينية رفضوا العرض فاستمرت القضية معلقة. لقد انشغل المفتي الحسيني بتشجيع العسكريين العراقيين على محاربة القوات البريطانية باسم فلسطين والسيادة، وكان ذلك خلال حكومة رشيد عالي الكيلاني، واندلعت الحرب فعلا، وخسر جيشنا أمام القوات البريطانية المرابطة في قاعدة الحبانية، وكانت النتيجة احتلالا عسكريا بريطانيا جديدا لبغداد ولكل العراق، وحملة اعتقالات وإعدام فريق من ضباطنا الوطنيين.
لقد كان المفتي، وبعض حكام العراق وقادة جيشه، ميالين للمحور الفاشي بأمل أن تكون ألمانيا قادرة على مساعدة الشعب الفلسطيني، ولكنها كانت مجرد أوهام.
لا أريد المضي فيما جرى بعد من قرار التقسيم، وحرب 1948 الفاشلة، وحرب 1963 الكارثية، وانتهاء برفض ياسر عرفات لخطة كلينتون - باراك بإعادة غالبية الأراضي الفلسطينية في عام 1967، والتوصل لحل عملي توفيقي لمشكلتي القدس واللاجئين.
أعتقد أن القضية الرئيسية والجذرية وراء أزمة غزة المفجعة هي: هل نريد حلا سلميا عادلا للقضية الفلسطينية، أم لا، ومن هم الموافقون، ومن هم المعارضون. غلاة الصهاينة معارضون بالطبع، ويزايدون على الحكومة، وهذا أيضا موقف المتشددين الإسلاميين الفلسطينيين والمتطرفين من التنظيمات الأخرى، وهم في ذلك يخالفون تماما موقف القيادة الفلسطينية الشرعية، المعترف بها دوليا وعربيا، ويمكن القول إن ثمة توافقا عمليا بين مواقف المتشددين الإسرائيليين ومواقف المتشددين الفلسطينيين. إن القوى الفلسطينية المتطرفة مدعومة، كما نعرف، من النظامين السوري والإيراني، وليس من الصدف أن يأتي إعلان رفض المبادرة الفرنسية ndash; المصرية، يأتي أولا من حماس سوريا وبقية التنظيمات الموجودة في الأراضي السورية.
كلنا نعرف كيف ترد إسرائيل حين ترد؛ بأية قسوة، وبأي عنف، وكلنا نعرف أن موازين القوى ليست لصالح حل القضية بالقتال والحرب، بل يجب التحرك وفق موازين القوى، والقرارات الدولية.
إن كل إنسان له حد أدنى من المشاعر لا يمكن إلا ان يغضب ويحزن لهؤلاء المئات من المدنيين الفلسطينيين، الذين يسقطون يوميا تحت القصف وبالسلاح الإسرائيليين. إنها لمأساة يجب وقفها فورا حقنا للدماء، وبحثا عن مخرج عملي توفيقي، وفي اعتقادنا أن الخطة المصرية ndash; الفلسطينية تجئ في الوقت المناسب، لاسيما عن تواجد المراقبين الدوليين لتسجيل أي خرق من الجانبين، الفلسطيني والإسرائيلي.
لقد أحسن عدد من كتابنا الشجعان بانتقادهم لتصريحات مشعل التي لا تقدر تماما جسامة مآسي المدنيين، والمباهاة بأن quot;حماس لم تخسر إلا القليل والقليل جداquot;. عجبا! وماذا عن كل هذه الدماء والدمار والأطفال من الضحايا؟! هنا نتفق مع ما كتبه الأستاذ محمد عبد اللطيف الشيخ في 8 الجاري، [ انظر جريدة الجرائد يومي 8 و9 ]، تعليقا على تصريحات السيد مشعل:
quot; إذا كانت كل هذه الدماء، والأطفال، والنساء، والرجال الذين يموتون، والدمار، والجثث المدفونة تحت الأنقاض، لا تمثل [ خسارة ] لحماس، فمعنى ذلك أن الذي يخسر [منفردا ] هو الإنسان الفلسطيني المستقل، الذي لا تهمه مصلحة حماس، ولا مصالح إيران في المنطقة، والذي جعل منه [ الحماسيون ] ومن أطفاله [درعا ] بشريا.quot;
أجل، لابد من شجاعة القول إنه ليست المرة الأولى التي تؤجج فيها حماس الوضع المعقد أصلا، وتقطع الطريق على مفاوضات أبو مازن السلمية، ويجب أن يقال بصراحة إن رفض حماس للمبادرة المصرية ndash; الفرنسية هو إمعان في الضلال، ومتاجرة بدماء الأبرياء، وإن هجماتها على مصر بسبب موقفها المعتدل لا تخدم القضية الفلسطينية.
إن من السهل إدانة الغارات الإسرائيلية والاجتياح البري، إذ لا خلاف على ذلك، ولا يوجد ضمير بقبل بهذا الحجم من الخراب، وهذا النزيف المستمر من الدماء. إن كل طفل يقتل هو بحد ذاته مأساة مفجعة. إنها عمليات مدانة، ولكن من الصعب اليوم، وفي هذه الفورة من المشاعر والمزايدات، أن تشير إلى دور حماس، المدعومة إيرانيا وسوريا، في إشعال الحريق، ولكن هذا النقد يجب أن يقال، لا دفاعا عن إسرائيل، بل دفاعا عن شعب فلسطين وعن قضيته العادلة.