أعد باراك أوباما خطابه القاهري بمنتهى العناية، وحسب بعض الصحف الأميركية، فإنه استشار قبل الإعداد مجموعة واسعة من الخبراء المسلمين من عرب وإيرانيين، وغيرهم، وثمة خبراء إيرانيون سينضمون لطاقمه.

كان الخطاب إجمالا خطاب سلام ودعوة لعلاقات الشراكة مع الدول الإسلامية، قائمة على حسن النوايا والاحترام المتبادل. وقد تضمن العديد من المحاور الهامة، هذا إذا تركنا المقدمة عن الإسلام ودور الحضارات الإسلامية في التقدم البشري، والاستشهاد بالقرآن الكريم، وهي مقدمة نجد مضامينها في كتب مؤلفين عرب ومستشرقين، من أمثال أدريه ميكيل وبيرك ومكسيم رودنسون وغيرهم من الجنسيات الأخرى، سوى أن أهمية مقدمة الخطاب هي في كونها جاءت على لسان رئيس الدولة العظمى.

كتبنا في مقالنا السابق [العالم وأميركا]، أن أميركا لم تكن في زمن الإدارة السابقة في حالة حرب على الإسلام والمسلمين، وإنما كان المتطرفون والإرهابيون الإسلاميون، [أي الذين يستخدمون الدين لأغراض سياسية وبقتل الأبرياء]، هم الذين يشنون حربا على الغرب وعلى الحضارة وعلى المسلمين داخل الدول الإسلامية نفسها، من خلال عمليات الإرهاب. أوباما تجنب استخدام كلمة quot;إرهابquot; وquot;إرهابيونquot;، واستعاض بعبارات التشدد والعنف، ولا نعرف سبب هذا التملص من عبارة إرهاب، لأنه ليس كل متطرف إرهابيا ما لم يندرج في خلايا، أو شبكات تمارس عمليات القتل والتفجير، وقطع الرؤوس، وخطف الأبرياء. إن التطرف الإسلامي، كما نعرف، يولد الإرهاب وذلك عندما يصل التطرف مداه لحد امتهان العنف الوحشي بكل أشكاله.

إن من يتابع ردود الفعل يمكن أن يتوصل تقريبا إلى أن خطابا أراد إرضاء الجميع لم يرض أحدا من الجهات التي وجهت الرسالة لهم، وتقول الحكمة quot; إن مفتاح الفشل في محاولة إرضاء كل من تعرفquot;! نعني بهذه الجهات دولا، وتنظيمات، وأحزابا، سوى ترحيب عدد من الحكومات العربية مع تصعيد في المطالب العربية، وثناء عديد من المثقفين، بل حتى السيد عمرو موسى قال بصدد القضية الفلسطينية إن العرب أدوا ما عليهم والكرة الآن في الملعب الإسرائيلي، رغم أن ما ورد في الخطاب، وخصوصا في تصريحات اوباما في باريس، يطالب الأنظمة العربية بالتطبيع الدبلوماسي والتجاري مع إسرائيل. أما حماس، فتتحدث عن تبدل إيجابي اللهجة الأميركية، ولكنها لم ترض عن الخطاب لتطرقه لمعاناة اليهود لا أهالي غزة، متناسية دور حماس نفسها في إشعال حرب غزة ودروعها البشرية، وما أدى إليه ذلك من رد إسرائيلي عنيف جدا وممارسة إسرائيل بدورها الدروع البشرية، فكانت الضحايا بالآلاف من قتلى وجرحى، وحدث دمار وحشي واسع النطاق. حماس غاضبة رغم أن أوباما قدم لها هدية سياسية غير منتظرة حين اعتبرها جهة سياسية لها حق quot;المقاومة ولكن ليس بالعنفquot; أي إنه خرج عن قرارات الاتحاد الأوروبي والإدارة السابقة باعتبار حماس منظمة إرهابية.

تبقى إسرائيل، حيث انقسم الرأي بين غاضبين كأقصى اليمين المتطرف ومرحبين باعتدال كحزب العمل وحزب كاديما، أما نتياهو، فسوف يعلن موقفه بعد أيام كما قال.

بخصوص إيران، كان أوباما شديد الاقتضاب في خطاب القاهرة، مكتفيا ببضعة سطور، ولكنه، بعد زيارته لألمانيا وفي المؤتمر الصحفي مع سركوزي بعد يوم، كان أشد وضوحا وتفصيلا. لقد كرر الدعوة لحوار غير مشروط مع إيران، ولكن مضيفا أن حصول إيران على السلاح النووي quot; لن يكون فقط خطرا على استقرار المنطقة وإسرائيل، بل على العالم أجمع، ونحن لن نسمح بهذا الخطر.quot; وقد أضاف:

quot; يقول الإيرانيون إنهم لا يريدون النووي العسكري.. هذا عظيم، ولكن هل نستطيع تصديقهم؟quot;، واستشهد بقول ريغان عن الروس: quot;ثق ولكن تحققquot;، ثم كرر الدعوة إلى عالم منزوع من السلاح النووي، مؤكدا، ولأول مرة، على أن هذا الهدف quot;لن يتحقق في حياتنا.quot; الواضح أن المداولات مع ميركل وسركوزي جعلته أكثر وضوحا في اللهجة في الموضوع النووي برغم استمرار الدعوة لحوار غير مشروط، وكان سركوزي قد طالب إيران بإخضاع جميع منشآتها النووي للتفتيش إذا كانت حقا تمتلك برنامجا نوويا سلميا لا عسكريا.

لقد أبدينا مرارا رأينا في أنه كان على الإدارة الأميركية الجديدة أن تحاور إيران منطلقة مما سبق أن تم التوصل إليه في قرارات مجلس الأمن ومجموعة 5+ا بمطالبة إيران بوقف التخصيب مقابل حوافز سخية، لا أن يتجاوز كل ما تم ليبدأ من نقطة الصفر، وهو مما ستكسب معه إيران وقتا آخر لإنتاج القنبلة، التي قال رئيس هيئة أركان القوات الأميركية قبل أسابيع بقرب صنعها بعد عام على ما نتذكر.

مهما يكن، وبرغم اللهجة الهادئة جدا، واللبقة للغاية، بل والودية من إيران في خطاب القاهرة، وقبل تصريحاته في باريس، فإنها لا ترضى عن الخطاب وعن الموقف الأميركي، فخامنئي هاجم أميركا في يوم الخطاب، وطالبها بتبديل سياستها وquot;البرهنة على ذلك في مواقف عمليةquot;!! وفي الليلة نفسها، قال السفير شريعتي مستشار خاتمي لقناة quot;العربيةquot;، [وكان يتكلم بالعربية]، إن ما ورد في الخطاب عن الشرق الأوسط quot;بعيد عن تصوراتنا وإن موقف حماس هو أكثر واقعيةquot;، وعن النووي، قال إن بوش نفسه تكلم عن حق إيران في الحصول على الطاقة النووية، وهو ما يكرره خطاب أوباما، بينما المطلوب، في نظر المستشار، أن يعترفوا بحق إيران quot;في امتلاك التكنولوجيا النوويةquot;، كما طالب بتغيير الموقف الأميركي من باكستان وأفغانستان؟ وهكذا نجد أن quot;صقور إيرانquot; وquot;حمائمهاquot; متحدون حول المشروع النووي، الذي كان موجودا زمن رئاسة خاتمي نفسه.

أجل، رسالة أوباما لن تجد غير الرفض من قوى وأنظمة ومنظمات التطرف الإسلام السياسي والتيارات القومية، كما نرى في الردود المارة وموقف الإخوان المسلمين، وحزب الله، ومنهم من قالوا إن اوباما باع علينا السياسة الأميركية بالقرآن الكريم! والشيخ القرني السعودي قال جوابا عن رأيه فيما ورد عن حقوق المرأة إن الشريعة تضمن كل حقوق المرأة وهي كافية!quot; ولو كان أوباما قد توقف مليا عند حرب الإبادة في دارفور بدل الإشارة الصغيرة، لرد البشير أيضا بغضب.

أما عن إثارته لموضوع الحرية الدينية، فهل سيستجاب لدعوته في احترام حقوق الأقباط والبهائيين في مصر، وحقوق مسيحيي العراق والصابئة المندائيين، أو مع سنة إيران والبهائيين هناك، ناهيكم عن اليهود في كثرة من الدول العربية والإسلامية؟! هل سينتهي تكفير غير المسلمين في فتاوى الفقهاء المسلمين؟! نشك في أن ذلك سيحدث.

لعل القضية الوحيدة في الخطاب التي سترضي المتزمتين والمتشددين الدينيين هي كيفية معالجته لموضوع الحجاب، حيث تناول الأمر وكأن الحجاب هوية دينية، وانتقد البلدان الغربية بهذا الشأن، قاصدا فرنسا أولا، مما جعل سركوزي يرد بأن الحجاب محظور فقط في المؤسسات الحكومية والمدارس والجامعات العامة. وإليكم ما ورد في خطاب سركوزي بهذا الشأن :

quot; quot;من الأهمية بمكان أن تمتنع البلدان الغربية عن وضع العقبات أمام المواطنين المسلمين لمنعهم من التعبير عن دينهم على النحو الذي يرونه مناسبا، فعلى سبيل المثال فرض الثياب التي ينبغي على المرأة المسلمة ارتداءها. إننا ببساطة لا نستطيع التستر على معاداة أي دين من خلال التظاهر باللبراليةquot;!!

إن أوباما هنا يتحدث كالشيخ حسين أوباما، متناسيا أن الحجاب منتشر في دول الغرب الأوروبية، بل هناك نرى حتى النقاب واللباس الأفغانيين. إن القضية هي حظر الحجاب في المؤسسات العامة الخاضعة للدولة. إنها العلمانية لا quot;وضع العقباتquot;، ولا نعرف كيف يمكن لرئيس الدولة الكبرى، زعيمة العالم اللبرالي، أن يهاجم اللبرالية!!! وكيف يعالج قضية حساسة كهذه بما يشجع التزمت الديني المتشدد في كل من الغرب والعالم الإسلامي، وبما يضعف مواقف القوى العلمانية واللبرالية في العالم الإسلامي.

إذا تركنا جانبا موضوع الحجاب هذا، وعدنا للقضايا السياسية الملتهبة التي أثارها الخطاب، فيمكن القول إن جميع من وجه لهم الخطاب يطالبون أميركا والغرب quot;بتغييرquot; المواقف quot;على الأرضquot;، ولا أحد منهم يريد الاعتراف بأخطائه، وجميعهم يستخدمون الغرب وإسرائيل شماعة للتملص من كل ما في المجتمعات العربية والمسلمة من الأمراض السياسية والاقتصادية والأخلاقية والتنموية والثقافية وسحق حقوق المرأة، وحقوق الأقليات الدينية والعرقية، وثلم حرية الرأي - أي لا احد يريد تحمل مسئولياته وواجباته.

بعبارة مكثفة، إن المهمة الأميركية مع العالم الإسلامي هي quot;المهمة المستحيلةquot; كما كتب الدكتور عبد الخالق حسن في مقاله قبيل الخطاب.

7 حزيران 2009