1-2

لماذا العودة الى آراء علي الوردي الاجتماعية؟

يمر العراق اليوم بمرحلة حرجة ومعقدة من تاريخه الحديث بعد تعرضه لمآس وحروب وحصار اقتصادي داخلي وخارجي كان نتيجة من نتائج الحكم الاستبدادي المزاح والنزعة الابوية/ البطريكية واشكالية الدولة التي لم تكتمل بعد وكذلك ضعف روح المواطنة وانقسام الهوية والتباس الوعي الاجتماعي.
وقد ازدادت التركة ثقلا بعد سقوط النظام الدكتاتوري بايدي قوات الاحتلال التي زادت بدورها في تفكيك الدولة وتمزيق المجتمع وانقسامه على ذاته. كما دفع الفراغ الامني والسياسي والاداري الى فوضى ودمار واعمال عنف وارهاب وفساد شامل.
وقد طالت quot;الفوضى اللاخلاقةquot; جميع مجالات الحياة وفجرت في ذات الوقت المكبوتات التي تراكمت عبر اكثر من ثلاث عقود واججت شحنات الحقد والغضب والعدوانية, كان من نتائجها اعمال نهب وسلب وتدمير للذاكرة العراقية والانسان والمجتمع والحضارة.

ان هذه الازمة هي ليست محنة شعب محكوم بنظام استبدادي قمعي فحسب, وانما هي اعراض لتراكم واقع موضوعي يمتد عمقا في التاريخ تداخلت فيه عوامل المكان الجغرافي بعوامل الزمان التاريخي المتذبذب بين قطيعات حضارية متعددة وتركيبة مجتمعية من وحدات اجتماعية انقسامية متنوعة مازالت غير موحدة في اطار اجتماعي وهوية وطنية واحدة. كما ان هذه المحنة هي ليست محنة بلد فقير, فالعراق بلد غني بموارده وطاقاته وامكانياته المادية والمعنوية وله تاريخ حضاري مجيد وتراث عربي- اسلامي زاهر.


الردة الحضارية
ان تراكم الأزمات والمحن التي مر ويمر بها المجتمع العراقي جعلته اسير تناقضات اجتماعية وثقافية وسياسية واقتصادية شكلت ردة حضارية أعادت العراق الى ما قبل تأسيس الدولة العراقية من مظاهرها:
1-ضعف الدولة المركزية وانكسار هيبتها وتفكك مؤسسات المجتمع المدني مما أدى الى تمزق الهوية الوطنية
2-لقد أدى ضعف الدولة المركزية الى تقوية الولاءات والانتماءات القبلية والمناطقية والطائفية وضعف الروح الوطنية واستفحال المحاصصة الطائفية.
3-انهيار منظومة القيم الاجتماعية والروحية والاخلاقية وتفشي الرشوة والفساد وشيوع روح العجز واللامبالاة(انا شعلية) وأدت الى اغتراب الانسان العراقي عن نفسه وعن مجتمعه وحضارته.
4- دمار وخراب البنى التحتية بسبب السياسة الرعناء للنظام الشمولي السابق بعد سلسلة من الحروب والحصار والغزو والاحتلال وعدم اعادة اعمارها حتى بعد مضي ست سنوات على سقوط المظام.
5-انتشار العنف والارهاب والحركات الاصولية التكفيرية والميليشيات والعصابات المنظمة وغير المنظمة والتعصب الاعمى الذي وصل الى القتل على الهوية والتصفيات الجسدية والنزوح الطائفي.
6- تفكك وانحلال وضمور الطبقة الوسطى، التي أخذت على عاتقها قيادة التنمية والتحديث والتقدم الاجتماعي والثقافي.
7-كل ذلك ادى الى انقسام الهوية الوطنية وتشوه الشخصية العراقية واغترابها وتغير ثوابتها الاصلية التي حافظ عليها العراقيون قرونا عديدة.

لماذا العودة الى علي الوردي والاهتمام بكتاباته؟ان العنف والاستبداد والحروب والحصار و الاحتلال واستمرار العنف والمحن والكوارث واستشراء الفساد بجميع اشكاله جعلت العراقيين يتسائلون عن اسباب الخلل في ذلك.هل السبب يعود الى الثقافة أم الى المجتمع أم الى السلطة؟ أم ان السبب يعود الى سمات وخصائص الشخصية العراقية؟! وعندما لم يجدوا الجواب عند السياسيين، اخذوا يبحثون عنه عند المفكرين وعلماء الاجتماع وعلماء النفس. وكان عالم الاجتماع العراقي المعروف علي الوردي في مقدمة هؤلاء، الذي وضع يده على الجرح العراقي وقال: هذا هو الداء!
ان الاهتمام المتزايد بافكار علي الوردي النقدية واعادة قراءته من جديد يعتبر بمثابة عودة الوعي بقراءة افكاره الاجتماعية التنويرية وفق ما استجد من احداث جسام، خصوصا بعد فشل السياسات والآيديولوجيات والاحزاب اليسارية واليمينية وغيرها.

الوردي شاهد أمين على احداث قرن بكاملهلعل العودة الى علي الوردي (1913- 1995) وقراءته من جديد تقدم لنا مؤشرات على مصداقية افكاره الاجتماعية النقدية الجريئة , لانه كان شاهدا امينا على احداث قرن بكامله، والتي أشرت الى ما يحمله العراق اليوم من انقسام على الذات وتنبؤه بما سيجري في العراق من صراعات قبلية وطائفية ومصلحية وتشوهات اجتماعية ونفسية.
فقبل اكثر من نصف قرن قال على الوردي بان على العراقيين ان يغيروا انفسهم ويصلحوا عقولهم قبل البدء باصلاح المجتمع، لان التجارب القاسية التي مر بها الشعب العراقي علمته دروسا بليغة, فاذا لم يتعض بها فسوف يصاب بتجارب اقسى منها.! وعلى العراقيين ان يتعودوا على ممارسة الديمقراطية حتى تتيح لهم حرية الرأي والتفاهم والحوار دون ان تفرض فئة او قبيلة او طائفة رأيها بالقوة على الاخرين. كما قال: quot;بان الشعب العراقي منقسم على نفسه وفيه من الصراع القبلي والقومي والطائفي اكثر من اي بلد آخر. وليس هناك من طريق سوى تطبيق الديمقراطية, وعلى العراقيين ان يعتبروا من تجاربهم الماضية, ولو فلتت هذه الفرصة من ايدينا لضاعت منا امدا طويلا.quot;
لقد صدق علي الوردي, فالعراق اليوم يقف في مفترق طرق, وليس امامه سوى ممارسة الديمقراطية(الحقيقية) حتى في ابسط اشكالها وآلياتها، فهي الطريق الوحيد للخروج من هذه الأزمة العصيبة.

مثل السمك مأكول مذموم

و الحقيقة لم يثير كاتب او مفكر عراقي مثلما اثاره علي الوردي من افكار نقدية جريئة. وكان من البديهي ان يتعرض للنقد والتجريح والهجوم من اقصى اليمين الى اقصى اليسار(حيث صدرت حول افكاره خمسة عشرة كتابا ومئات المقالات)، حتى انطبق عليه المثل العراقي المعروف quot; مثل السمك مأكول مذمومquot;.

والحقيقة كان على الوردي اول عالم اجتماع عراقي درس شخصية الفرد العراقي وطبيعة المجتمع العراقي بجرأة وصراحة وحلل الظواهر الاجتماعية الخفية والسلوكات الفردية والجمعية ووجه الاهتمام الى دراستها وتحليلها ونقدها. وهو بهذا دفعنا الى اعادة النظر في خطابنا الفكري والاجتماعي والسياسي والى ضرورة ان ننزل من ابراجنا العاجية وان نعي واقعنا بكل ايجابياته وسلبياته.

ولكن من هو علي الوردي؟

عرفت علي الوردي عن قرب ومعرفة شخصية. فقد عرفته طالبا من طلابه في قسم الاجتماع بجامعة بغداد وزميلا له في قسم الاجتماع وترجمنا فايروخ وانا كتابه دراسة في طبيعة المجتمع العراقي الى اللغة الالمانية ثم ألفت كتابا بمناسبة مرور عشر سنوات على رحيله وهو: quot;علي الوردي-شخصيته ومنهجه وافكاره الاجتماعية، دار الجمل، 2006.
ولد علي الوردي في الكاظمية عام 1913 ونشأ وترعرع فيها وكان مولعا منذ صباه بقراءة الكتب والمجلات وقد اضطر الى ترك المدرسة ليعمل في دكان والده, ثم للعمل صانعا عند عطار المحلة، ولكنه طرد من العمل لانه كان ينشغل بقراءة الكتب والمجلات ويترك الزبائن. ثم عاد الى المدرسة واكمل دراسته واصبح معلما. كما غير زيه التقليدي عام 1932 واصبح افنديا.وفي عام 1943 ارسلته الحكومة العراقية الى بيروت للدراسة في الجامعة الامريكية , ثم سافر الى اميركا لاكمال دراسته العالية وحصل على شهادة الماجستير وكذلك الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة تكساس.وبعد عودته الى العراق عمل في قسم الاجتماع في جامعة بغداد حتى تقاعده عام 1970.
توفى في بغداد في 13 تموز عام 1995.

مؤلفاته

كتب الوردي ثمانية عشر كتابا ومئات البحوث والمقالات. خمس كتب منها قبل ثورة 14 تموز 1958 وكانت ذات اسلوب ادبي -نقدي ومضامين تنويرية جديدة وساخرة لم يألفها القاريء العراقي ولذلك واجهت افكاره واراءه الاجتماعية الجريئة انتقادات لاذعة وبخاصة كتابه quot; وعاظ السلاطينquot; الذين يعتمدون على منطق الوعظ والارشاد الافلاطوني منطلقا من ان الطبيعة البشرية لا يمكن اصلاحها بالوعظ وحده , وان الوعاظ انفسهم لا يتبعون النصائح التي ينادون بها وهم يعيشون على موائد المترفين , كما اكد بانه ينتقد وعاظ الدين وليس الدين نفسه.
اما الكتب التي صدرت بعد ثورة 14 تموز فقد اتسمت بطابع علمي ومثلت مشروع الوردي لوضع نظرية اجتماعية حول طبيعة المجتمع العراقي وفي مقدمتها كتابه دراسة في طبيعة المجتمع العراقي ومنطق ابن خلدون ولمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث الذي صدر في ثمانية اجزاء.

لقد تنبأ الوردي بانفجار الوضع مثلما تنبه الى جذور العصبيات التي تتحكم بشخصية الفرد العراقي التي هي واقع مجتمعي تمتد جذوره الى القيم والاعراف الاجتماعية والعصبيات الطائفية والعشائرية والحزبية التي ما زالت بقاياها كامنة في نفوسنا. وكذلك الى الاستبداد السلطوي، الزمني والتزامني، الذي شجع وما يزال يشجع على اعادة انتاج الرواسب الاجتماعية والثقافية التقليدية القديمة وترسيخها من جديد، كما يحدث اليوم.