لقاءات في مؤتمرات عقدت صيف 2009 في انكلترا (2)

يهود العراق، ذكريات وشجون، 47.

لقد صدقتَ يا رجل! فالعراق يلاحقكَ أينما تذهب، قدر لا مناص لكَ منه وأين من الأقدار المهرب، ألا تعلم، أيها الرجل الذي أبدل إيمانه quot;بروحانية الشرق، بمادية الغربquot;، أن quot;المكتوب على الجبين لازم تشوفه العين؟quot; لا! لا تقل هذه خرافات شرقية، ألا ترى كيف كُتب عليكَ أن يكون العراق هواك الأبدي، هوى عراقي، مثل هوى قيس ابن الملوح، عندما لاحَ النجومَ برقٌ يماني. وأنت، يا عراقي الهوى، مثل جميع العراقيين quot;معود على الصدعات قلبكquot; لأنك ولدت في العراق، ومع ذلك فما أن تسمع اسم العراق حتى تنهمر الذكريات والأشجان والحنين إلى الماضي، فيضيع عليك التمتع بالحاضر ومنجزاته، أما المستقبل، فهو حلم يائس، حلم الوقوف على أطلال ماضيك. وها قد أنهككَ السُرى لطول طريق الفراق وانتظار السلام وزيارة مسقط الرأس، حلم تصر على تحقيقه يا رجل. وها أنت اليوم قد quot;ضعتَ وضاع الأملquot;، فقد كلل هامتك الشيب، ولا أمل في الوقوف على أطلال الصبا، quot;فيا ويلتاه يا رجل!quot; ولكنك تبقى مصرا مهما طال الأمد، وتعالج حنينك بمراسلة أصدقاء أوفياء تعرفت عليهم من خلال تعليقاتهم على ذكرياتك في quot;إيلافquot;، فسل الله حسن الخاتمة لك، وللمشردين العودة واجتماع الشمل وبناء الوطن المحتاج الى مواهبهم وخبراتهم التي اغتنموها في مهاجرهم، وأن يمنّ عليك بزيارة مسقط الرأس ولو لمرة واحدة، وإن كنت تعلم انه لم يبق من ديار الماضي سوى آثار طمسها غبار السنين. أتريد أن تقف محدقا في التراب quot;كشحيح ضاع في الترب خاتمهquot;، لعلك تتعرف بعد توهم، على رسومها الدارسة التي سفتها رياح الحروب، السموم الهوجاء والإهمال والعداء، وتناوبتها ريح الصبا والسافيات quot;الصدامياتquot;، نسجًا من جنوب وشمأل، فلم quot;تبعثquot; الحياة في شرايين العراق، وما زال العراق في انتظار quot;مطر السيابquot;، ولم يجدِ دعاؤك quot;جادك الغيث إذا الغيث همى يا زمان الوصل فيquot; بلد الرشيد، وصرت كلما رأيتَ عراقيين وسمعتَ حديثهم بلهجتهم المحببة الى سـمعك، يزداد حينك ووجدك الى بغداد الحب وليلى المريضة في العراق. ولكن عذّالك العراقيين يعذلونك بقولهم، quot;بغداد صباك، بغداد أيام الهوى والشباب، ذهبت دون رجعة، فلمَ الحنين والأنين؟quot;، فقد عمها الخراب والدمار والمتفجرات والأحقاد والاقتتال، وحواجز الكونكريت quot;وحلاقة هاني، اعبر وتلكانيquot;، فكيف الرجوع وقد تحطمت الصواري وهوت القلوع، ونضبت مياه دجلة والفرات وشط العرب وماتت النخيل عطشى منتصبة بكبرياء الملكات، وكيف لا تحزنُ وقد كانت ترف عليك نخيل سواد العراق الوارفة، quot;رفيف قرون ليلى على المجنون في هواها؟quot; وتسأل نفسك، هل يا ترى ستتمتع quot;بشميم عطرquot; ضفاف دجلة والفرات ورياحين العراق مرة أخر؟ وهل ستسلم على الأحباب وتقبل الأعتاب، كما أوصتك والدتك قبل رحيلها الأخير؟ هذا العطر الذي هو عند العراقيين اليوم في مهاجرهم كرائحة قميص يوسف، ترد إليّهم أيام الهوى والشباب الراحل، وما زالوا يشتاقون الى حفيف نسيم دجلة يوشوش وشوشات الحب للنخيل، ووقع المجداف على صفحات نهرك الخالد، حين كانت تتجاوب أصداء الدرابك بأفراحها المهللة في جزرات بغداد بين الرصافة والكرخ، على رقصات النخيل، مع النسيم العليل. ومع ذلك فعذّالك من العراقيون يواصلون النداء quot;أن تعال! أرجع إلينا، وانحطك أبطن عيوناquot;، ولكن كيف الرجوع، وقد عفت الديار، ولم تبق الريح من ثمود البتاويين وبغداد طفولتك وصباك، من أثر، ويا صبر أيوب مدد!!!
وأنتَ الآن إذا ما التقيت بالعراقيات وبالعراقيين في منافيهم في الخارج، فأول سؤال يبادرونك به، هو quot;بعدكم أتحنون للعراق وايمتا ترجعون؟quot; أو يكتبون، quot;عودوا الى العراق لتعلمونا كيف كنتم تديرونه بأمانة وإخلاصquot;. أما إذا جازف نسر شجاع وزار إسرائيل دون أن يخشى في سبيل السلام لومة لائم، مثلما فعل السيد مثال الآلوسي وقبله السيد ضياء كاشي والأستاذ حسين الكندي،أو أفلت طائر من جبال كردستان العراق عن طريق المهجر، وزار تجمعات يهودها في هضبة بغداد ومراكز سكناهم في الجبال المحيطة بالقدس، كما فعل الموسيقار والملحن والمغني بشير صبري بوتاني عاشق الحان أكراد يهود العراق ورقصاتهم، فعند ذلك ترى العجب العجاب، وتطلب امرأة بغدادية من زوجها الكهل أن يسمح لها بتقبيل quot;العراقي المسلمquot;، فيومئ لها بالموافقة، فتحتضنه وهي تقول: quot;فـدوه أروح لك يا أخويه، ريحة العراق بيك!quot; وتقشعر أجساد الرجال لهذا الحنين وتجهش النساء بالبكاء من quot;عيون المها وراء السوادquot;، وتمسح المهاة الرصافية ببنانها الرخص دمعة عصية من عيون حوراء quot;غضيضة الطرف مكحولquot;، ويبكي العراقي الزائر وهو يستمع الى غناء لميعة توفيق وسليمة مراد وغيرهما من مطربات أيام زمان، يغنيه شباب من أحفاد المهاجرين الذين لم يروا العراق ولكنك تسمع في غنائهم ألم حزين ينساب في صوتهم كحنين أشواق آبائهم، ويصفق الزائر طربا على إيقاع غناء لميعة توفيق، quot;ظلام ما عندكم رحم يللي ظلمتوني / بالفرح تقضون العمر / وآني نسيتونيquot;، ثم يجمد التصفيق حين يكمل المغني بيت العتاب الحزين الذي أضافه اليهود في بغداد وكانوا يغنونه سـرّا:

quot;آني وماشي أنا بالدرب صهيوني تهموني / وحكمت عليّ المحكمة، وللسجن ودونيquot;.

فإذا انتقلوا إلى أغنية سليمة مراد، quot;قلبك صخر جلمود ما حن عليquot;، يعلق عليها الزائر العراقي، quot;نعم، ما زال قلب حكام العراق الى اليوم صخر جلمود أمام حنين العراقيين، والعراق بأمس الحاجة إلى أبناءه الراحلين ليغيثوه، وندعو الله أن يستجيبوا الى النداء، وأن لا يذهب نداؤه أدراج الرياحquot;. ويا قريب الفرج، يا عالي بلا درج!

عذبتني هذه الخواطر وأنا بين العراقيين الذين أموا المؤتمر العالمي الذي عقد في جامعة كمبردج في انكلترا، تحت عنوان quot;يهود الحضارة العربية، 1948-2009quot;، برعاية سمو الأمير الحسن بن طلال وبدعم من المعهد الملكي لدراسة العلاقات بين الأديان في عمان بالأردن الذي يترأسه، وقد أشرف على تنظيم هذا المؤتمر بهمته العالية البروفيسور جريجور شْوارْبْ السويسري الجنسية من قبل المركز لدراسة العلاقات الإسلامية اليهودية، وبمشاركة رئيس معهد الدراسات الإسلامية في جامعة كمبردج، العالم الفلسطيني أ.د. ياسر سليمان وأصله من مدينة نابلس، جبل النار، بالضفة الغربية التي تقع تحت إدارة السلطة الفلسطينية برئاسة السيد محمود عباس، أبو مازن.
ومع ذلك فقد عقد هذا المؤتمر الواعد وتكلل بنجاح كبير، وعجبنا لماذا لم يتطرق أحد من المشاركين الى توتر العلاقات الإسرائيلية-الفلسطينية والمأساة المريعة لحرب الرصاص المصبوب، ولم يعكر صفو المؤتمر بمناقشات سياسية عقيمة، ولم يتطرق أحد الى حكاية مقاطعة الأكاديميين البريطانيين للأكاديميين الإسرائيليين، ولكن عندما استمعنا إلى خطاب سمو الأمير حول جهوده المباركة في تعزيز الحوار بين الشعوب والأديان الهادف الى نشر المبادئ الإنسانية السامية في التكافؤ والاحترام والتعددية وإلى التواصل مع الذات ومع الآخر للعمل الجاد على تحقيق السلام ورأب الصدع بين أتباع الديانات والثقافات المختلفة في العالم، أدركنا السبب، وعلمنا لماذا وجد الجميع الترحاب من قبل الجامعيين البريطانيين بالمشاركين جميعا، وكأن الجامعيين البريطانيين لم يعلنوا مقاطعة الأكاديميين الإسرائيليين، وراحت على الأستاذ سامي حداد من quot;تلفزيون الجزيرةquot; جهوده حول مناقشة أبعاد هذه المقاطعة، بل على العكس، رأيتَ في هذا المؤتمر الود والإخاء بين اليهود والعرب والإسرائيليين والفلسطينيين والانكليز. والرجال على دين ملوكها.
برز في هذا المؤتمر العدد الكبير من المحاضرين والمستمعين من يهود العراق، بينهم اثنان من الأساتذة المتقاعدين الكهول ممن فازوا بجائزة إسرائيل، واثنان آخران من الطلبة الذين شرعوا في كتابة أطروحتهما لنيل درجة دكتوراه في الفلسفة في الجامعة العبرية، أحدهم غير اسمه عائلته من quot;عربquot; لان آباءه كانوا يخرجون ببضاعتهم لبيعها على quot;العربquot; في بوادي العراق إلى أسم جديد لعائلته العراقية quot;عبريquot;، واندمج في المجتمع الإسرائيلي اندماجا تاما. كما شارك في هذا المؤتمر صحفية من أصل عراقي هي راحيل شابي التي عاشت في إسرائيل ثم رحلت عنها يائسة مع عائلتها إلى لندن وهي فخورة بكتابها الذي تكشف فيه عورات إسرائيل quot;وظلمها لليهود الشرقيين!quot; فأثارت احتجاج مهاجري الخمسينات الملكية، ومهاجري السبعينات البعثية الصدامية من يهود العراق.
وقد أثار العدد الكبير من المحاضرين من يهود العراق والمشاركين فيه كمستمعين، غرابة عند الصحفي والكاتب الإسرائيلي العربي المعروف سيد قشوع (ولا أقول الفلسطيني لكي لا يخطئ القراء في هويته، ويظنون أنه من فلسطينيي غزة أو الضفة، أو من معسكرات اللاجئين في باقي الدول العربية التي تحافظ على فلسطينيتهم بأمانة، ولا أقول من عرب 1948 لكي لا أفتق جرحا ليس يلتئم، فهو يحمل هوية وجواز سفر إسرائيلي، وبس). شعر سيد قشوع بالحرج بين الأغلبية العراقية، وتساءل عن موقعه من الإعراب ولم يفهم سبب دعوته الى هذا المؤتمر الذي يناقش مستقبل quot;يهود الحضارة العربيةquot; ومدى إمكانيتهم المساهمة في المستقبل في ميدان الأدب العربي الحديث كما فعل آباؤهم عندما ازدهرت جالياتهم في البلاد العربية، ولعله لم يدرك انه يمثل العربي الإسرائيلي المسلم الأول الذي تفرغ الى الكتابة باللغة العبرية في جريدة من أهم الجرائد الإسرائيلية، وإنه مثال لاندماج الأقلية في ثقافة الأغلبية، شهادة على صدق عبد الرحمن ابن خلدون في نظريته في علم العمران، وإنه يشبه في حينه أنور شاؤل الأديب العراقي في تبنيه اللغة العربية الفصحى وبحروف عربية في تحريره لمجلتي quot;المصباحquot; (1924-1927) ومجلة quot;الحاصدquot; (1929-1938) بعد تأسيس دولة العراق الحديث، والذي أصبح رمزا للمواطن العراقي المخلص لوطنه وللغة العربية الفصحى، ثم اضطر الى الهروب من جحيم الاضطهاد القومي الى الدولة التي رفض الالتحاق بها في الترحيلة الأولى عام 1951. نعم كان الكتّاب النصارى والدروز في إسرائيل قد سبقوا سيد قشوع في كتابة أدبهم باللغة العبرية. وهذا نفس ما حدث في أسبقية الأدباء النصارى واليهود في البلاد العربية إلى تطعيم الأدب العربي الحديث بالتيارات الأدبية الأوروبية، وإلى تبني يهود العراق في مطلع القرن العشرين اللغة العربية الفصحى وبحروف عربية واندماج المثقفين منهم بالحضارة العربية. فقد كانت مشاركة الكتاب المسلمين في تيارات التجديد تجعل هذه التيارات الحديثة المتأثرة بالغرب، جزءا لا يتجزأ من فنون الأدب العربي الحديث، وإلا بقيت هذه التيارات الأدبية، بدون مشاركة كبار الكتاب المسلمين، سمة من سمات أدب الأقليات في البلاد العربية.
ومع الأسف لم يستطع حضور هذا المؤتمر الدكتور محمود عباسي، وهو الأديب والمترجم والمسرحي ومؤسس ومدير مجلة quot;الشرقquot; الأدبية التي كان لها الفضل في نشر أدب يهود العراق وتشجيع أدبائهم، والتعريف بالأدب العبري الحديث بواسطة الترجمة الى العربية بين القراء العرب، وله الفضل في تعزيز العلاقات الأدبية والثقافية بين العرب واليهود في إسرائيل بعد توقف مجلة quot;المجتمعquot;، لميشيل حداد وتوقف الكتاب الشيوعيون من العراق عن المساهمة في مجلتي الاتحاد والجديد لانتقالهم الى الكتابة باللغة العبرية، فقرأتْ محاضرته بدلا عنه المحاضرة في فن الترجمة د. حنه عميت - كوخابي، التي حاضرت فيما بعد عن ترجمة الأدباء اليهود للأدب العربي الى اللغة العبرية. وحاضر الأستاذ يونتان مندل من جامعة كمبردج عن quot;وحدة المستعربينquot; في إسرائيل، كنموذج لتوظيف حاملي الحضارة العربية في أغراضها العسكرية. أما من الأدباء العرب الإسرائيليين فقد كان منهم الصحفي quot;المخضرمquot; (أي الذي عاصر فترة الانتداب البريطاني وقيام دولة إسرائيل)، عطا الله منصور وهو من أوائل الأدباء العرب من غير المسلمين الذين كتبوا باللغة العبرية في جريدة quot;هآرتسquot; وحاولوا الاندماج في المجتمع والثقافة الإسرائيلية. أما الأستاذ محمود كيال من جامعة تل أبيب فتحدث عن ترجمة الأدب العبري الى اللغة العربية وألقت الشاعرة نداء خوري مختارات من قصائدها العاطفية.
أما المحاضرون الآخرون، فقد شارك في إلقاء المحاضرات أستاذ واحد من أصل يمني (أ.د. يوسف طوبي)، وآخر من أصل مغربي (أ.د. عامي العاد بوسقيلا)، ولم يشارك فيه سوى مستمعة واحدة من أصل مصري عبرت عن خيبة أملها من قلة المشاركين من يهود مصر سابقا، أو من يهود سوريا والبنان.
نعم كان ليهود العراق، وخاصة من المستمعين الذين كان أغلبهم من مهجري صدام بعد حرب الستة أيام، حصة الأسد في هذا المؤتمر الفريد من نوعه وبرعاية شخصية ثقافية عالمية رفيعة، ألا وهي سمو الأمير العلامة الحسن بن طلال، الذي أشعرنا بمحاضرته ورسالته الإنسانية السامية حول الحوار بين الأديان والدعوة الى سلام عالمي بين الشعوب بأننا نعود الى عصر المأمون المنفتح على جميع الحضارات والأديان والفلسفات في العصر العباسي (ولنا عودة في الفصل القادم الى هذه المحاضرة الرائدة والنقاش الذي دار في هذا المؤتمر).

(التتمة في الحلقة القادمة، رقم 48)

كتبت هذه الذكريات لتنشر في مجلة إيلاف،
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف،
لا يجوز نشر هذه الذكريات بأية صورة كانت بدون اتفاقية وإذن خطي من المؤلف.