جاسر الجاسر من الرياض: قبل سنوات قليلة استهدف مستشفى الحرس الوطني في الرياض بعض أطباء مستشفى الملك فيصل التخصصي وسعى إلى استقطابهم بكل وسيلة، حتى أنه عرض عليهم رواتب تبلغ، في بعض الأحيان، ضعف رواتبهم مما أحدث فجوة مهنية مهمة في التخصصي، مولداً، في الوقت ذاته، مرارة عميقة لدى أطباء مستشفى الحرس الوطني الذين كان دخل بعضهم السنوي لا يبلغ ثلث دخل أحد الوافدين الجدد. هذه الحالة كانت لها مسببات مختلفة يعرفها العاملون في القطاع الطبي، إلا أن أهميتها كونها أول حالة خطف للأطباء تشهدها الرياض بهذه الكثافة والتنظيم.
اليوم جاء مستشفى خاص من المنطقة الشرقية، ونزل مسؤولوه في أحد فنادق الرياض، وبدأوا مناداة أطباء المستشفيين الكبيرين (التخصصي والحرس) يعرضون عليهم إغراءات لا تقاوم حتى أن نسبة مهمة منهم بدأت حزم حقائبها والتوجه إلى الشرقية حيث مستشفى سعد التخصصي الذي يقال إنه بدأ حملة مكثفة لاستقطاب أبرز الأطباء في التخصصات المختلفة.

الأطباء اليوم هم البضاعة الرائجة في الرياض، الكل يتخاطفهم، وأسعارهم أصبحت تتضاعف يومياً، وغدت الانتقالات هي الأخرى شبه يومية؛ فالطبيب الذي تجده اليوم في هذا المركز اليوم تستغرب وجوده غداً في مركز آخر منافس اجتذبه بكل وسيلة حتى إن كانت الشراكة إحداها. هذا الصراع سببه الرئيسي النمو المهول للمراكز والمجمعات الطبية في الرياض التي غدت مجالاً استثمارياً مربحاً مع تزايد الاعتماد على التأمين الطبي. ولم يقتصر ارتفاع أسعار الأطباء على السعوديين بل شمل الجنسيات الأخرى المرغوبة في القطاع وتشمل تحديداً الأردن وسورية ومصر والسودان والهند، إضافة إلى العرب العاملين في مستشفيات ومراكز طبية أوروبية وأميركية، وحسب بعض الخبراء في السوق فإن رواتب الأطباء العرب ارتفعت خلال السنوات الثلاث الماضية إلى الضعف بل الى أضعاف، بعد أن كان سقفها الأعلى لا يصل حد عشرة الآف ريال شهرياً.

يمكن القول أن القطاع الطبي أصبح، اليوم، أحد أهم مجالات الاستثمار بعد أن ظل ساكناً نحو عشر سنوات ليتفجر في حمى مفاجئة جعلت الرياض شبكة معقدة من النقاط الطبية، وعلى الرغم من هذه المنافسة الشرسة فإن أسعار الخدمات الطبية ماتزال مرتفعة، والنوعية غير جيدة في كثير من الأحيان، إذ ركزت بعض المراكز الطبية الفخمة جهودها على الجوانب التسويقية والخدمات الفندقية أكثر من الرعاية الطبية، وبسبب التأمين مالت كثير من المراكز الخاصة إلى رفع قيمة الفاتورة العلاجية لمريض لتغطية مصاريفها المرهقة، الأمر الذي يخلق صراعاً مريراً بين مقدمي الخدمة الطبية وشركات التأمين.

في عمليات خطف الأطباء يلفت النظر أن المراكز الوليدة تعيش عالة على المراكز القائمة والناجحة، إذ تمتص طاقتها الحيوية عبر السطو على أبرز أطباء المراكز القديمة لتجتذب، تالياً، جمهور المراجعين الذين يلحقون أطباءهم المحبوبين كأنهم يسيرون تحت تأثير تنويم مغناطيسي.

الوسيلة الأخرى لخطف الأطباء ذات غطاء مستتر، وهي الاستعانة بالأطباء المميزين في المستشفيات الرسمية (مستشفى قوى الأمن، المستشفى العسكري، المستشفيات الجامعية، مستشفيات وزارة الصحة) الذين يعملون في القطاع الخاص خارج ساعات الدوام الرسمي، وعبر اتفاقات غير معلنة، باعتبارهم من عوامل جذب للمراجعين، كما أنهم يستفيدون مادياً لأن دخولهم الحكومية أقل من متواضعة، ولا تتناغم مع الفورة الطبية التي تعيشها العاصمة تحديداً. وأكثر الحكوميين أهمية وطلباً هم أساتذة الطب في جامعة الملك سعود والذي بدأ التعامل معهم منذ سنوات بشكل محدود ومتكتم في بضعة مستشفيات أهمهما "مستشفى دله"، ثم فتح "مركز الدكتور سليمان الحبيب الطبي" الباب واسعاً عندما وسع نشاطه معتمداً على ضم مجموعة كبيرة من زملائه أساتذة الطب في الجامعة محققاً نجاحاً لافتاً، تحول معه الأمر لاحقاً ليكون هؤلاء الأساتذة هم المحور الأساسي في لعبة الخطف يليهم الاختصاصيون المميزون في المستشفيات الحكومية الأخرى.

الصراع يزداد حدة واشتعالاً، ومعاييره غير واضحة، والسمة الأساسية فيه هي الشراسة الدموية، والتنافس في رفع سقف الأجور إلى معدلات خيالية ما سيؤدي حتماً إلى إنهيار بعض المراكز أو اندماج بعضها نتيجة الكلفة العالية للتشغيل مع تناقص المردود، مالم ينجح ملاك المراكز الطبية الخاصة في وضع ضوابط تقلص حالات الخطف العشوائي كما نجحت البنوك في ذلك قبل أكثر من عشر سنوات، وكما نجح فيه منتجو الألبان بعد أن نشبت بينهم حرب أسعار مدمرة.

أهمية هذا الصراع أنه سيسهم، بالضرورة، في رفع مستوى الخدمات الطبية، إلا أن التخوف في أنه ربما يخلق مؤسسات طبية احتكارية ضخمة تتحكم في السوق كلياً خصوصاً أن توقفت وزارة الصحة عن تقديم خدماتها الطبية وتحولت إلى التأمين كليا.

يبقى أن الأطباء هم وحدهم الفرحون بهذه الحرب، وهم المنتفعون منها، أما المرضى فلا شيء يقلقهم مادامت شركات التأمين تدفع فواتيرهم.
[email protected]