:

أجرت الحوار خالدة حامد: الكاريكاتير CARICATURE اصطلاح عام يعني توظيف المفارقة المضحكة لأغراض السخرية والتهكم. وقد جاء استعمال مفردة caricatura لأول مرة من الإنكليزي السير توماس براون ( 1605 ـ 1682 ) في مؤلفه الضخم "الأخلاق المسيحية ". واحتفظت المفردة بشكلها الإيطالي ولم تتبن مظهرها الحديث إلا قبيل نهاية القرن الثامن عشر حينا ساد الفهم بصدد مضمونها ودلالتها. وجدير بالذكر أن الكاريكاتير كلمة مشتقة من المفردة الإيطالية caricatura ( أي الرسم الساخر ritratto ridicolo ) ومأخوذة أصلاً من ، وتعني caricare وتعني "يُحمِّل" أو "يشح "، وهي تفيد المبالغة.

وبحسب ما ورد في كتاب "حبزبوز في تاريخ صحافة الهزل والكاريكاتور في العراق" تأليف جميل الجبوري، الصادر عن وزارة الثقافة والإعلام العراقية عام 1986 ؛ فقد بدأ فن الكاريكاتير في العراق عام 1931 حينما ظهر أول رسم كاريكاتيري في "حبزبوز" بريشة الفنان مصطفى أبو طبرة، يمثل " نوري ثابت " رئيس تحرير المطبوع وهو يمتطي " طوب ابو خزامة ".
وفي الأربعينيات برز الكاريكاتيري اللامع غازي الذي ابتكر شخصية البغدادي الذكي الذي يسخر من الأوضاع المقلوبة بسبب الحكام، ويسخر من الاستعمار. ثم توالى ظهور رسامي وفناني الكاريكاتير منذ ذلك الحين وأسسوا فنًّا متميزاً يحمل بصمة عراقية واضحة متميزة بعيداً عن التبعية لأية تجربة أخرى عربية أو غربية. وقد مر هذا الفن بمراحل كثيرة شهد فيها نقلة كبيرة على أيدي أبرز الفنانين العراقيين كان من بين البارزين منهم الفنان مؤيد نعمة الفنان الذي يتمتع بحس فني مرهف وعين دائمة التلفت عمّا حولها، ثاقبة الرؤية، فاحصة عميقة للواقع ومشكلاته على تنوعها.. سرعان تلحظ انتمائه لفنه المحبب الذي وجد فيه نفسه.
يمكن تعريف رسوماته بما قاله عنها الفنان المصري الكبير محيي الدين اللباد من أنها "مختلفة عن السائد، ومحملة بالذكاء والهم الاجتماعي والسياسي". تمكن من الوصول إلى مستوى فني و إبداعي متميز بالتجريب والممارسة، واستطاع، بخطوطه الحادة في تحركاتها ولغتها وموضوعها، رصد الكثير من ظواهر المجتمع وعلى الصعد كافة وتصدى للاضطهاد بأشكاله كافة. أعماله تكتنز ذاكرة معرفية وبصرية وتوثيق مهم للحظات حرجة ألمت ببلدنا دفعته إلى مواكبة الحدث السياسي تحليلاً وتشريحاً بمبضع جراح. يتبنى بمداده الأسود مواقف ناصعة البياض، جريئة.
وقد ولد مؤيد نعمة في بغداد عام 1951. وحينما كان في السادسة عشرة من عمره نشر أول رسم له، وشارك بعد عامين في تأسيس أول مجلة للأطفال في العراق. تخرج من معهد الفنون الجميلة في بغداد عام 1971. حصل على بكالوريوس سيراميك من أكاديمَّية الفنون الجميلة في بغداد. وشارك في العديد من المعارض داخل الوطن وخارجه. تم انتخابه عام 1991 رئيساً للجنة الكاريكاتير العراقي. يعمل في الصحافة منذ سن مبكرة وما يزال يواصل نشاطه الآن في صحيفتيّ " المدى " و" النهضة " العراقيتين. التقيته في بغداد وكان معه هذا الحوار.

* كيف تعرف نفسك وتجربتك لشخص لم يتعرف عليك من قبل؟

- لو افترضنا هذا الأمر، فسأدعه يكتشف ذلك من خلال حواري معه، ثم ارى ما عنده من تصورات حول الفن بشكل عام والكاريكاتير بشكل خاص عندها يمكنني ان أناقش تجربتي من طرف بعيد فإذا استقام لي الامر سأعزز في حواري موضوعة الفكرة الكاريكاتورية ومعناها وسبل تناولها كمادة اساسية اعتمدتها في عملي منذ السبعينات وكيف تتلمذت على طريقة الانصات كمستمع جيد للحديث والتروي في اتخاذ القرار وتجسيد الفكرة والبحث في اكثر من منفذ للولوج إلى محورها.. اما وقد تم لي ذلك عندها ابدأ بالتنفيذ … ولا يعني ذلك ان يكون النجاح دائما حليفي.
وللمعلومات.. فقد بدأت بداية حقيقة عام 1973 مع الصحيفة اليومية للحزب الشيوعي العراقي "طريق الشعب" حيث وفرت لي هذه التجربة الغنية بكل القياسات معيناً رائعا للتواصل اليومي مع القراء والصحافة كمطبوع ومهنة وكيف يكون للرسام مريدين ومنتقدين وهو ما يحتاجه فنان الكاريكاتير في بداية عمله ؛ فالنقد الفني والسياسي والصحفي كان له الأثر البالغ في مسيرتي المتواضعة فكريا وفنياً. ولأجل ان أوسع من دائرة اهتمامي بالكاريكاتير بدأت بالمشاركات الدولية مع بينالة كابروفو ـ بلغاريا في وقت مبكر عام 1975 وكنت احرص على الإكثار من المشاركات الدولة لصعوبة المنافسة والتحدي أولاً والاطلاع على التجارب المتنوعة والمتطورة في الأساليب والأفكار ثانيا.
ونتيجة لذلك بدأ اهتمام منظمو المهرجانات في ألمانيا ـ كندا ـ بلجيكا بالاتصال والدعوة للمشاركة في المسابقات التي تقام في دولهم … وبطبيعة الحال لم تزل بداياتي في تلك الفترة بسيطة ومتواضعة ولم يكن لي سوى المطاولة مع عمالقة فن الكاريكاتير حتى عام 1979 حيث حصلت على الجائزة الدولية الثالثة والتي حددت لي بوضوح مساري الآتي. وتجدر الإشارة إلى انني كنت ممنوعاً من السفر في ذلك العام لذلك لم أتمكن من استلام جائزتي الا بعد عشرة سنوات من ذلك التاريخ..نعم عشرة سنوات كاملة !

* على العكس من الفنون الأخرى التي أشبعت نقداً وتحليلاً وكتابة، لا يزال الغموض يكتنف فن الكاريكاتير لماذا؟

- الكاريكاتير ليس فناً سهلاً يمكن ان يتناول نقده وتقيمه. هذه حقيقة كما ان النماذج التي عرف بها هذا الفن لم تستهوِ النقاد لإشباعها نقداً وتحليلاً لابتعادها عن المعنى الشامل لفن الكاريكاتير ( وأرجو ان لا يُنظر إلى النماذج التي تدعي الكاريكاتير ظلماً وبهتاناً).
الكاريكاتير ينشد المزيد من الغرابة في الاسلوب والفكرة حيث كانت بداياته مع الصحافة مجردة من العمق، وطافية على سطح الإضحاك والهزل. واعتقد ان ذلك متعلق بالوظيفة التي أنيطت بالكاريكاتير لكي يؤديها في تلك المرحلة. أما وقد وصل الكاريكاتير إلى آفاق الدهشة والمفارقة المذهلة والغموض في الافكار وهو ما اود الاشارة اليه من ان النقد الفني يستلزم ان يكون هناك ناقداً يؤمن بأهمية هذا الفن وجدوى انجازاته. وهناك أسماء جديرة فعلاً قرأت لها على اعمدة صحفية في زمن العتمة السابق. ان غموض فن الكاريكاتير اشارة واضحة لمدى توغله في حيثيات الانسان وبطريقة تجعله منفذاً لمجموعة الافكار المتقاطعة التي ترى النور على سطح الورقة.

* لما كانت بدايات فن الكاريكاتير أوربية أصلاً، من أين انطلق هذا الفن في العراق وما خصوصية التجربة العراقية أو ما يعرف بإسم " المدرسة البغدادية " في فن الكاريكاتير ؟ وهل نجد في الموروث الرافديني ما يدعم وجوده؟

- الكاريكاتير فن صحفي عرف وانتشر في اوربا وتم قياس تطوره مع تطور الصحافة الاوربية التي أفردت له حيزاً مهما عززّ استمراره ومواصلة انتشاره. اما بداية هذا الفن في العراق او في العالم فيمكنني ان اجزم بأنها كانت مع بدايات الانسان الاول ( المسجلة على جدران الكهوف برسوم تحمل الكثير من السخرية والتحقير للحيوان المراد اصطياده مثلا ) وتطورت مع المعتقدات والتعاويذ الدينية والخوف من المجهول الذي كان ملازماً لذلك الانسان (ولا زال )الذي اراد الخلاص من جملة الافكار المشوشة او اراد الإجابة عن كثير من الاسئلة التي احتار في حلها فجعلها رسماً على الجدران او وشماً( فيما بعد ) او حرزاً يتمنطق به.. وهكذا تجدين تسلسلاً زمنياً لمفردات هذا الفن في المنحوتات البابلية وحضارة وادي الرافدين والفراعنة صعوداً إلى العصر العباسي وشعراء الهجاء ووضوح اللمسة الكاريكاتورية في أشعارهم. فمثلاً أراد أحد الشعراء ان يهجو صديقه الرسام.. فردّ عليه بأن يرسم له صورة تجعل الناس تضحك عليه. اضافة إلى العديد من الرسوم المضحكة التي اراد بها ملوك وسلاطين التأريخ ان يسخروا من اعدائهم بالايعاز إلى النحاتين والرسامين بتضمين أعمالهم الفنية ذلك. اما المدرسة البغدادية في فن التصوير والتي برع فيها الرسام العراقي يحيى بن محمود الواسطي فقد ضمت الكثير من المشاهد "الكاريكاتورية"، إن صح التعبير، في العصر العباسي المتخم بالإحداث والإبداع الفني وفي رسم المنمنمات المعروفة.
وتيمناً بهذا الاسم الموروث الجميل اطلقنا اسم المدرسة البغدادية على مجموعة الاساليب الكاريكاتورية التي نضجت في السبعينيات من القرن الماضي ونهلت من مدرسة الواسطي. وبالمناسبة، فهي مدرسة متميزة بشهادة أبرز فناني الكاريكاتير لأنها اعتمدت على نقل الواقع بالأسلوب الحديث، بمعنى آخر لم تعتمد النكتة الساذجة أو تسطيح الموقف الساخر وإنما تشتغل على العمق.

* ثمة علاقة حميمة بين الكاريكاتير والصحف، هل هي علاقة طردية، بمعنى آخر هل ينتهي هذا الفن بموت الصحيفة؟

- الصحافة بدأت في البلاد العربية متأخرة، ومع بداية ظهور الصحافة بدأ الكاريكاتير العربي. أما في بلدنا، الصحافة ظهرت ببداية القرن العشرين، لكن الكاريكاتير كوظيفة صحفية لم يظهر إلا في الثلاثينات من هذا القرن. ومع أني أدرك صلته الوثيقة بالصحافة، لأنها ساحته الحقيقية، أؤكد أنه لم يعد الان حبيس اعمدة الصحافة بل انتقل إلى ساحات اخرى (مع ارتباطه الوثيق بالصحافة)؛ خاض مغامرة ثانية حينما بدأ يصبح الكاريكاتير لوحة، وما عاد مقتصراً على الصحيفة، وأتيحت له نوافذ عدة متمثلة بالانترنيت والمهرجانات الدولية والمعارض الفنية والنحت والكرافيك والسيراميك وتحتفي به اركان البيوت والقاعات كأعمال متميزة.. واذكر هنا مدينة كابروفو في بلغاريا والتي تخصصت بالكامل بيوت … ساحات.. محلات.. مؤسسات.. الخ) بالاعمال الكاريكاتورية الساخرة حيث التماثيل والنصب والجداريات اضافة إلى الفوتوغراف الكاريكاتيري والسينما والمسرح الكوميدي والمتاحف المكتظة بالأعمال الكاريكاتورية المتميزة.

* عايشتَ أهم التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي عصفت بالعراق ومن بينها الحروب والحصار، هل كان لذلك أثر في عزلك عن التطورات التي طرأت على فن الكاريكاتير في الخارج، أم فتحت لك باب التجريب ؟ وما أثر الأحداث المأساوية التي يشهدها بلدنا اليوم؟

- نعم كان للاحداث القمعية والحروب ومخلفاتها من حصار وويلات اثراً كبيراً في تهميش دور الكاريكاتير في الصحافة العراقية وبالتالي غياب التواصل مع المستجدات الفكرية والفنية لهذا الفن طيلة ( 35 ) عاماً، ولكِ أن تتخيلي مقدار الغبن الذي لحق بنا جراء ذلك. ومع ذلك حاولت عام 1975 اللحاق بركب التجارب الحديثة من خلال المشاركات الدولية والتشبث بوسائل الاتصال المتواضعة للحصول على عناوين المهرجانات والمؤسسات التي تعنى بالكاريكاتير.
لقد مرّت السنوات العجاف في حياتي ( 1980 ـ 1989) لكنها تركت أثراً مؤلماً حيث كنت في سبات فني عميق في جبهات القتال وبعد تعرضي للاعتقال من قبل اجهزة النظام الدموي عام 1979 لانتمائي الفكري وعملي في جريدة " طريق الشعب " وتكررت المأساة بعد عام 1990 لندخل في دوامة الحصار ثم حرب الخليج الثانية والثالثة. وبعد سقوط النظام الديكتاتوري تنفسنا الصعداء على الرغم مما يشوبها من غبار الارهاب والقتل المجاني الا انها تبقى الصعداء.

* رسوماتك تخلو من التعليق، هل مرد ذلك أنك ترى لغة كاريكاتير البصرية أبلغ من اللغة المكتوبة؟ وهل تعد التعليق دليلاً على فقر الرسام وضعفه؟

- أهمية التعليق تكمن في ان يكون جزءاً مكملاً للفكرة وليس الجزء الاساسي كما ان اغلب الشخوص الذين ارسمهم داخل اللوحة لا يتحدثون فيما بينهم اما خوفاً او بخلاً بالكلام ويكتفون بالإشارة او الإيماءة للتعبير عن مشاعرهم ومع ذلك اعمد احياناً إلى كتابة تعليق كثيف يشير إلى فكرة صغيرة وددت ان اثير الانتباه لها.كما أحاول أيضاً أن أشرك القارئ معي بأن لا أمنحه المعلومة الكاملة أو أعطيه أفكاراً جاهزة من دون أن يعمل فكره معي، ولهذا تجديني أبتعد عن التعليق.

* هل أفدت في عملك من التقدم التكنولوجي والمعلوماتي الذي يشهده العالم اليوم ؟ وما التحديات التي يفرضها الإنترنت على فن الكاريكاتير؟

- طبعاً بعد ذلك " القحط " في المعلومات والاخبار وصعوبة الاتصال بعالمنا الواسع.. بعد أكثر من ربع قرن من الانغلاق تجديني اتنقل بين هذا الكم الهائل من المستجدات والرسوم والاساليب الفنية القديمة والحديثة والاخبار والاحداث المتسارعة لأنهل منها كل ما يعينني على تطوير معلوماتي وفن الكاريكاتير.. اما بخصوص التحديات التي يفرضها الانترنيت فهي تحديات حقيقية تتسابق لتحفيز الرسام على التفاعل فنياً وفكرياً مع عصر السرعة والمعرفة.

يتبع