والدي كان يحب قراءة الروايات وبيتنا كان ليبرالياً

إيمانا منها بتوسيع دائرة النقاش النقدي في ما يواجهه العالم العربي اليوم من تغييرات فكرية وسياسية، وبفتح التفكير العربي المعاصر على مصراعيه، تنشر "إيلاف" كل أسبوع لقاء شاملا وموسعا مع أحد كبار المفكرين والكتاب العرب العاملين في حقول مختلفة نقدا وتطويرا للثقافة العربية... لقاء سيكون أشبه ببروفيل فكري تتوضح عبره ملامح المفكر والفيلسوف، الشاعر والفنان، الإعلامي والناقد، الروائي والممثل، المسرحي والموسيقار... الرجل والمرأة.

هنا الحلقة الأولى من اللقاء الأول:

مع مربي الأجيال المفكر جمال البنا "شقيق حسن البنا"


حديث أجراه أشرف عبد الفتاح عبد القادر

ذهبت للقاء المفكر جمال البنا وأنا أتذكر تاريخ شقيقه حسن البنا في تأسيس حركة الإخوان المسلمين منذ أن كان مدرساً في الإسماعيلية إلى أن استطاع في فترة وجيزة من تأسيسحركة استطاعت أن تؤثر في الفكر العربي والإسلامي في بلاد المشرق العربي، تذكرت حسن البنا وحركة الإخوان المسلمين التي كنت أحد مريديها وأنا بالجامعة في مطلع شبابي، ولكني انقلبت عليها عندما اكتشفت حقيقة مرادها وهو السلطة لتعود بمصر الحبيبة إلى فقه القرون الوسطي، وانقلبت عليها أيضاً عندما لم أتفق معها ومع موقفها من المرأة، وموقفها من التعددية الحزبية، وموقفها من الدستور، وموقفها من الأخر المغاير، وانقلبت عليها أيضاً عندما لم أتفق مع برنامجها الشمولي الذي يتوعد مصر بدولة ظلامية دينية ترشح من شعاراتها الدينية الديماغوجية - التي سبق وكنت أحد مردديها - مثل "الرسول زعيمنا"، و"القرآن دستورنا"، و"الإسلام دين ودولة، مصحف وسيف"، والتقيت بمربي الأجيال المفكر جمال البنا في مكتبه بالقاهرة، وكان بشوشاً كعادته هادئاً في مجلسه وسط مكتبة بها عشرات الآلاف من الكتب، وتبسطنا في الحديث من فكر لدعابة وعرفت من خلال الحديث معه أن أخاه الثالث كان مؤلف أغاني، وتعجبت لأسرة البنا التي أخرجت الشقيق الأكبر حسن البنا مؤسس حركة الإخوان، وعبد الباسط البنا مؤلف الأغاني للمطرب المشهور عبد الغني السيد، والمفكر جمال البنا، وسيكتشف القراء الكثير والمثير والغني والعميق والدقيق في هذا الحديث، ففكر جمال البنا هو فكر إسلام القرن الحادي والعشرين الذي يجب أن ندرسه في مدارسنا وجامعاتنا إذا كنا نريد فعلاً تخريج أجيال تكفر بالتعصب وتؤمن بالله خالقاً وبالإنسان خليفة له في الأرض لتعميرها بالعمل والعلم وبالعقل هادياً له في عمله وعلمه.

* متى وأين ولد المفكر جمال البنا؟
- أنا من مواليد 15/12/1920 في المحمودية محافظة البحيرة.

* ما هي ذكرياتك عن مرحلة الطفولة ؟
- مرحلة الطفولة لا أذكر عنها شيئاً كثيراً لأني الآن قد جاوزت الثمانين وطبيعي أن الذاكرة تكون قد وهنت فضلاً عن هذا فإن طفولتي لم تكن طفولة سعيدة بوجه خاص كطفولة الأستاذ البنا الذي ولد في المحمودية وأمضى كل طفولته على شاطئ النيل في المساحات الخضراء الواسعة يلعب ويرتع مع الأطفال ويؤلف جيوشاً للمؤمنين والكفار ويحارب كل صور النشاط الطبيعي. لذلك كان الأستاذ البنا _ رحمه الله _نشأ صحيح الجسم لم يضع نظاره في حياته رغم أنه كان مدمن قراءة ولكن نشأته وطفولته الأولى أغنته عن هذا، كانت طفولتي علي النقيض من ذلك. لماذا ؟ لأن الأسرة تركت المحمودية سنة 1924 وأنا طفل في الرابعة أو أقل لأن ديسمبر لا يحسب،وعشنا في أزقه القاهرة وحواري القاهرة حيث لا شمس، ولا هواء ولا خضرة ولا نيل وأنا كنت بحكم النشأة نحيفاً وضعيف الجسم فكم أردت أن أمارس أنواعاً من الرياضة، لكن ذلك كان مرفوضاً من الناحية الصحية فضلاً عن الناحية المكانية سألعب في الحارة أين ؟ وكنا ننتقل من بيت إلى بيت وكانت يافطة "شقة للإيجار" تتدلى من معظم البلكونات ولكن تنقلاتنا كانت محصورة بين السيدة والدرب الأحمر والخليفة، في هذا المثلث قضت الأسرة معظم حياتها تقريباً فيه وفي الحقيقة ليست لدى ذكريات كثيرة عن الطفولة.


* وماذا كانت هوايتك؟
- هوايتي كانت القراءة، كان الوالد_ رحمه الله – له مكتب مستقل لم أكد بعد أن دخلت الكتاب الحضري، كتاب المدينة الذي يختلف عن كتاب القرية. ولم أكد أتعلم القراءة إلا وكان والدي- رحمه الله – يأخذني معه في مكتبه الخاص الذي يكتب فيه. وفي هذا المكتب كان هناك عدد كبير من المجلات، كان هناك مجلة " اللطائف المصورة " كانت سنة 1926، 1927أول مجلة تطبع في مصر، وكانت وفديه،و هناك شيء غريب جداً وجدته في مكتبه الشيخ والدي، و كان له ركن خاص بالمجلات في مكتبته،فكنت أدخل أنا في هذا المنحنى وألعب.

* كم كان عمرك وقتها ؟
- كان عمري 10 سنوات 8سنوات أو أقل، لأنه عندما كان يصطحبني كنت طفلاً صغيراً لا أسرع الخطى وكنا نركب عربة "سواري" وهى عربة يجرها بغلان بأجر 2 مليم، و المليم كان له شأن، نشترى به بيضه،وجدت مجلة أسمها "الأمل" تصنعها آنسة أسمها " منيرة ثابت " وهي أول آنسة وأول مجلة تدعو لإشراك المرأة في العمل السياسي في 1920 فقاسم أمين لم يطالب بالعمل السياسي للمرأة بل إن الاتحاد النسائي نفسه حتى الثلاثينيات لم يطالب بعمل المرأة السياسي فكان الجميع يطالب بتعليم المرأة، بالاختلاط بالعمل،وبأشياء من هذا القبيل، أما العمل السياسي فهي أول من طالبت بعمل المرأة السياسي، وكانت شعلة من النشاط، مجلة كانت تصدر بالعربي، وأخرجت طبعه فرنسية أسمها " الأمل" le espoir أذكر هذه المجلة أنني قرأت فيها رواية " قمر بنى إسرائيل" تتحدث عن أسرة فرعونية في عهد بعثه موسى، و أكثر من ذلك كان الأهرام ينشر روايات اجتماعية وغرامية وبوليسيه وكان ينشر في أسفل كل صفحة من الصفحات بعرض الصفحة بارتفاع 10 سنتيمتر على خمسة أوستة عواميد ومسلسله، وكل يوم حلقه جديدة، فكان الوالد يقطع هذه الشرائح ويجمعها، ما الذي يجعل هذا الرجل الريفي القادم من القرية والذي اشتغل بالحديث، وحديث ابن حنبل المشهور بالذات بالتشدد،ما الذي يجعله يقرأ مثل هذه الروايات وتبقى عنده مجلة "منيرة ثابت" و"اللطائف المصورة" وهى ابعد ما تكون عن اهتمامات المشايخ الأزهرييين، الوالد لم يدخل الأزهر،ولم يدخله أخي الشهيد يرحمه الله ولا دخله أحد منا والحمد لله.

* علي ماذا يدل ذلك؟
- كل هذا يدلك على أنه كان لديه حاسة فنية، ولذلك عندما وضع الشرح في أحاديث مسند الإمام أحمد بن حنبل كان أسلوبه سائغاً بعيداً عن كل شنشنة الأزهريين كان هذا مَعْلَماً من معالم الأسرة. أنه كانت هناك حاسة فنية عند الوالد والأستاذ البنا ولكن بصورة مختلفة.
انتقلت بعد ذلك إلى المدرسة الابتدائية، مدرسة العقادين في حارة الروم ابتداء من شارع المغربلين عندما ينتهي يبدأ شارع الأزهر، مدرسة قديمة جداً وبدأت أدرس لا أذكر بالضبط،صور شاحبة من الماضي، أذكر أنهم أطلقوا على وقتها لقب " الفيلسوف" لا أعرف لماذا ؟

*كم كان سنك وقتها عندما أطلق عليك لقب فيلسوف؟
- أولي ابتدائي ولا أعرف لماذا أطلقوا على هذا اللقب. وماذا كنت أقول لهم حتى يطلقوا على هذا اللقب. إذن الطفولة ليس فيها بطبيعة الحال ذكريات لهو ورياضة وسهر ولكن فيها قراءة وهى الهواية التي احتفظت بها حتى الآن.

* تتذكر أول كتاب قرأته؟
- لم يكن كتاباً، بل كانت مجلات. مثلاً قصة "الأميرة ذات الهمة" وبعده "سيف بن ذي يزن " ثم روايات الجيب، وبعد ذلك قرأت الأدب العربي مثل "الأغاني" للأصفهاني و"العقد الفريد" لإبن عبد ربه.

* الإمام حسن البنا،كيف كانت علاقتك به كأخوين بعيداً عن التيارات الفكرية، في محيط الأسرة كأخ أكبر لك ؟
- هو أول العنقود البكر وأنا آخر العنقود. كان الفارق بيننا 14عاماً فهو مواليد 1906 وأنا 1920 فكانت العلاقة جدلية كما يقولون، علاقة مختلفة ولكن متفقه أيضاً، ليست ضد ولكن هناك عناصر اتفاق وعناصر اختلاف الأستاذ البنا _ رحمه الله – أراد به الله منذ النشأة الأولى ومنذ الميلاد أن يكون داعية إسلامياً وأعده لهذا. وكل الخطوات التي كان يسلكها سواء عن شعور أو عن غير شعور بدون رغبته،كانت ترمى به في هذا الاتجاه ولذلك عندما أستشهد في سن 42 سنة كان قد أقام هذا الصرح الممرد المسمى بـ "الإخوان المسلمين".

*ما هي العوامل التي جعلته يتوجه نحو الدعوة الإسلامية؟
هناك عوامل خاصة به هي موهوبته بالفطرة، فالقائد لا ‘يصنع أبداً، بل يتطلع إليه الناس ويعطيهم من موهبتة، وهم بين خيارين إما أن يهملوا هذه الموهبة أو يتشكلوا و ينمو هذه الموهبة، وكان الأستاذ البنا ينمى هذه الموهبة فهو شخصية قيادية ما في ذلك شك. ليس فقط شخصية قيادية، بل كان هو الذي يقوم بأعمال الأسرة. أصدرت كتاباً أسمه "خطابات من البنا الشاب إلى أبيه" فكان الشيخ الوالد يرسله لجميع المشكلات وكل القضايا التي تخص الأسرة عندما انتقلت الأسرة إلى القاهرة، فيكون خطيب القوم وإمامهم وليس فقط لحل المشاكل التي هو ذاهب لحلها. هذا هو الأستاذ البنا، أنا كنت على النقيض منه هو اجتماعي منفتح ورجل عمل ميداني، وأنا رجل انطوائي منعزل بحكم النشأة التي كانت في حواري القاهرة،وبحكم العادة فكنت رجل فكر وقراءة. هو رجل عمل وأنا رجل فكر إلى حد ما.
فعمل الأستاذ البنا الأعظم هو " جماعة الإخوان المسلمين" فهو رجل ميداني ولم يتسع له الوقت لكتابه وتأصيل ولتعميق الفكر الإخواني لأنه لا يستطيع الجمع بين الاثنين، القائد أحياناً يكون منظماً يعمل في مجال العمل كلينين مثلاً أو مفكراً يعمل في مجال الفكرة كماركس. الأستاذ البنا كان عنده 80% أو 70% على الأقل عمل و 30% فكر.أي أنه كان يوظف مجهوده أكثر للعمل، كان يرجع في الواحدة صباحاً يكتب الموضوع الذي يكتبه في "الشهاب" عندما ينهى اجتماعاته وهي مجلة شهرية تمثل زبدة الفكر الإخوانى، إنسان آخر كان يرتاح وينام. لكنه كان يبدأ من الواحدة صباحاً ويعمل ثلاث ساعات. أنا على العكس في كل المجالات العملية التي حاولتها فشلت فيها. لأنني لست رجل عمل بل أنا رجل فكر.

* نعود للعلاقة بينك وبين الأستاذ البنا، نتيجة لهذا الاختلاف في الطباع،كيف كانت طبيعته داخل محيط الأسرة. حنون. عصبي أم ماذا؟
لا … لا لم نعرف مطلقاً داخل محيط الأسرة النرفزة أو الضرب. الوالد لم يضرب أحداً مطلقاً. منزل ليبرالي كل واحد له اتجاه. لا أحد يسال أحداً عما يفعل، أخي عبد الباسط رحمه الله كان ضابطاً في البوليس ومؤلف أغانى، وإلى الآن نسمع أغاني عبد الغنى السيد التي ألفها أخي عبد الباسط.أي أن الأسرة أخرجت المفكر جمال البنا،ومؤلف الأغاني عبد الباسط، والداعية الأستاذ حسن البنا المؤسس لجماعة الإخوان، أي أنه كان هناك جو من الحرية والليبرالية والديمقراطية داخل الأسرة. لا أحد يحجز على فكر الآخر. لكن كان لي بعض التحفظات على سياسة الإخوان.

*ما هي مأخذك على سياسة الإخوان؟
- أشياء كثيرة ك "المرأة" مثلاً، الأستاذ البنا لم يكن أزهرياً تقليدياً ولا فقيهاً من الفقهاء، بل رجلاً مدنياً دخل دار العلوم التي هي مدرسة للأدب العربي، وإن كانت تعرض الإسلام أيضاً، اكتسب كل معارفه الإسلامية كعصامي بالقراءة بذاته وبذكائه. ولكن لم يطأ بقدمه الأزهر ولم يضع على رأسه العمامة الحمراء.

* من حسن حظه أم من سوء حظه ؟
- من حسن حظه 100% لم يكن أحد فينا أزهرياً ولم يكن الوالد أزهرياً. لأن الأستاذ حسن لو دخل الأزهر لتشبع بالفكر الأزهري وبالفكر التقليدي وجنى على حرية وانطلاقة الفكر فكان الأستاذ البنا رجلاً مدنياً. ولاحظ شيء. أنه ولد ومات في المرحلة الليبرالية من تاريخ مصر من 1923 _ 1949قبل أن تأتى الأحذية العسكرية " ثورة يوليو"، فكان ليبراليا، كان ابن ثورة 1919، ثورة الشعب المصري وإن كان سعد زغلول هو سيدها المطاع، ولكن في حقيقة الأمر هو الذي كبح جماح الثورة وانحرف بها من مسارها،الاستقلال التام أو الموت الزؤام، إلى المفاوضات. الأستاذ البنا كرجل مدني كان كثير القراءة، أضرب لك مثلاً، عندما كان مدرساً في مدرسة الإسماعيلية ذهبت مدرسة الإسماعيلية في رحله إلى مدرسة بورسعيد لزيارتها، وكان البنا خطيب المدرسة، فخطب خطبه المدرسة، مدرس التاريخ إتغاظ منه وأراد أن يحرجه فقال له حدثنا عن الثورة الفرنسية. انطلق البنا وكأنما هو دارس للثورة الفرنسية بوجه خاص. مدرس التاريخ ‘بهت لأنه جاء بمعلومات هو نفسه يجهلها. ما الذي جعله يدرس الثورة الفرنسية وهو رجل دين.

*نستطيع أن تقول أنه كان واسع الإطلاع ؟
- جداً لكن كان عنده نقص كبير، أنه لا يجيد أي لغة أجنبية، ولكنه عوض هذا النقص بذكائه وكثرة قراءاته، لأن الإنسان عندما لا يكون ذكياً ولا واسع الإطلاع، ولا يعرف لغة أجنبية يكون محلي الفكر، "في المرأة" كان الأستاذ البنا له آراء حرة بشأنها، إلا أنه عندما بدأ يتقيد بدعوة وجمهور كان لابد أن يلاحظ اعتبارات عمليه عديدة، هي ألا يختلف فكره اختلافاً شاسعاً عن فكر الجمهور والمجتمع،ويكون سابقاً لهم لأنهم سينفرون منه.

* نفس الكلمة التي ذكرتها كان قالها رئيس تونس السابق الحبيب بورقيبه عندما عدل قانون الأحوال الشخصية وصوت الجميع ضده بما فيهم النساء فقال لهم، أنتم صوتم ضدي الآن، ولكن بناتكن سيقبلن قوانين الحالة الشخصية التي رفضتموها، فكان سابقاً لعصره، فهل تأخذ على الإمام أنه لم يوع الجمهور؟
- لا. أنا لا آخذ عليه ذلك،، يجب أن نكون منصفين ولا نظلم الناس. نحن الآن جالسين براحة ونتكلم على ناس في خضم المعركة ولا نعرف العوامل المؤثرة التي تهيمن عليهم. أولاً موضوع "المرأة" حساس جداً وله في الدين كلام لا حصر له. فلو جاء الأستاذ البنا وصدم الجمهور، لكان الجمهور سينصرف عنه. حتى في الإسلام حتى بالنسبة للرسول عندما بدأ بالخمر، لم يستطيع تحريمها مرة واحدة، بل حرمها بالتدريج وعلى مراحل. فكان ضرورياً على الأستاذ البنا أن لا يتجاوز جمهوره حتى لو كان هو نفسه عنده رأى مختلف.


* هل هو نفسه كان يؤمن بحقوق المرأة ولم يستطيع أن يواجه جمهوره برأيه الذي لم يكن ناضجاً لتقبله؟
- كان مؤمناً إلى حد كبير بحقوق المرأة. بدليل أن كبرى بناته عندما أنهت دراستها الابتدائية، فكان من المفروض أن تدخل الثانوية والجامعة. أعترض بعض الإخوان على دخولها الجامعة، فأدخلها المعهد العالي للفنون.

* هل كانت محجبة ؟
- هي محجبة وحتى الآن تعيش في جنيف منذ ثلاثين عاماً وهى محجبة. لكن الحجاب العادي بمعنى أنها مظهرة الوجه والكفين.

* إذن الإمام كان يؤمن بحقوق المرأة، ولكن لو كان أمهله القدر هل كان سيعدل من فكر الجماعة؟
- هو قال ذلك في بعض كتبه، أن الوقت لم يحن بعد لتغيير فكر الجماعة، ويسألني أناس كثيرون لماذا اختلف فكرك عن فكر الأستاذ البنا.

* وأضيف أنا علي سؤالك لماذا لم تكمل الجماعة مشواره الديني بعد موته ؟
- أقول أنتم تسألوني هذا السؤال بعد طوال هذه المدة لرجل توفى سنة 1949، وأؤكد أن الأستاذ البنا لو ترك حياً لأدخل على دعوة الإخوان من التجديدات ما يذهل كل المسلمين التقليديين. واضرب مثلاً عملياً على هذا. أن الأستاذ البنا كون جماعة الإخوان المسلمين في الإسماعيلية سنة 1928 وكانت طريقة صوفية، تلقى الأناشيد وتحمل الأوسمة وحضرات الذكر كطريقة صوفية، وبعد عشرين عاماً ظهر الإخوان المسلمون في القاهرة كدعوة عالمية تقدم الإسلام كمنهج حياة. عشرين سنة فحسب تطورت من طريقة صوفية إلى حركة عالمية، هذا تطور ضخم جداً لم يكن متوقعاً، فلقد فعل كل هذا النجاح فيما بين 1928 _ 1948 ولو ترك الرجل عشرين عاماً أخري إلي عام 1968 لأدخل من التجديد على الدعوة مثلما أدخلها في العشرين عاماً الأولى.

* إذن الإمام لم يكن تقليدياً، بل كان ليبرالياً تنويرياً.
- بالضبط. ولكن يلتزم في نفس الوقت بأصول الإسلام، ودليل على تقدميته، أنه عندما ظهر الإخوان كان الصراع بين المذاهب على اشده، الصراع بين الحنفية والحنبلية والشافعية، يختلفون في جزئيات عديدة جداً وكان كل مذهب لا يصلي وراء الآخر، فأراد أن يقضى على هذه الخلافات المذهبية فأوعز إلي الشيخ سيد سابق بتكوين "فقه السنة" ليسمو فوق المذهبيات ويأخذ بالسنة وكتب مقدمه الطبعة الأولى، ولو عاش بعد ذلك لعمل فقه القرآن ولو حصل لوجد الآفاق الواسعة الرحبة أمامه. لكن أيدي الجناة لم تترك له هذه الفرصة.
فكانت العلاقة بيني وبينه حلوه. كان يحبني وكنت أقدره، وكان هو مدرسي في سنه أولى ابتدائي وكان هو رجل الأسرة وبكرها، فكنت أقدره وأحبه كما لو كان والدي، وكان يجد فيّ شيئاً جديداً غير تقليدي.

* ألم يدعوك للانضمام إليه ؟
- دعاني مرة في مناسبة معينة كنت قد ألفت حزباً اسمه حزب العمل الوطني الاجتماعي سنة 1946 فاصطدمنا مع الحكومة، حيث كنا نوزع المنشورات وكنت ضمنهم، فأرسل الأستاذ البنا أحداً من اتباعه وأفرجوا عنى، وقال لى بعد ذلك أنت تتعب نفسك وتكدح في أرض قاحلة، وكان حزباً تعساً ومسكيناً، مجموعة من شبان وعمال لا أكثر، في حين أن لدينا في الإخوان حدائق مثمرة والفاكهة تتساقط وتحاج لمن يأخذها ويحفظها ويصونها فتعالى. فقلت له أن شجر الإخوان يثمر ثماراً لا أريدها. قال لي : طيب حول اسم الحزب إلى جماعة حتى لا تصدم بالحكومة وأنت لازلت في أول حياتك.

* إذن لم يلق رفضك بغضب!
- إطلاقاً.بل بكل بساطة، هذه العملية كانت تثير دهشة الناس حتى إن خالد محمد خالد عندما انضم للإخوان كان أول شيء أدهشه هو أن أخو الإمام له جماعة خاصة، وتوطدت العلاقة بيننا رغم أنني تعاونت معهم عملياً إلا أنني كنت باستمرار محافظاً على استقلالي الفكري كانت هذه هي العلاقة بيننا. كتبت يوماً رسالة صغيرة بعنوان "على هامش المفاوضات"، في سنة 46 أو 47 باسم حزب العمل الوطني الاجتماعي وأعطتيها للأستاذ البنا فقرأها، وقال للشيخ عبد العزيز الخياط الذي كان وزير الأوقاف الأسبق في الأردن، عندما زرت الأردن حكي لنا هذه الواقعة، فقال :دخلنا على الأستاذ رحمه الله وكان معي فلان وفلان وقال تعلموا السياسة من هذا الشاب وأشار إليّ، جمال عمل رسالة عن المفاوضات جميلة جداً. كان هناك اختلاف في الرأي لكن كانت هناك محبة عميقة بيني وبين الأستاذ الشهيد وكانت علاقتي مع الإخوان جيدة فقد أنقذوني حيث كنت بدون عمل وعينوني مديراً لمطبعة في عام 1939 وسعدت بهذا العمل الذي يجعلني على صلة بعالم النشر والطباعة والكتابة وأعطوني غرفة بجوار المطبعة والمركز العام، وكان الطبع بدائياً وبحروف بارزه وتجمع الحروف حرفاً حرفاً وتثبت، وتعمل صفحة، وهكذا فكان العمل يحتاج لتركيز حتى لا يسيء للنص، وأنا وسط هذا العمل أجد معاون الدار الشيخ عبد البديع صقر، وكان رجلاً مسناً ينادى على الصلاة، فكنت أقل له دعني يا أخ عبد البديع، فيذهب إلى الأستاذ البنا ويقول له إن غرفة جمال وكر لتارك الصلاة، وكنت أرد عليه بأن العمل عبادة فكانا الأستاذ البنا يقول له: دعه.لأنه يؤمن أيضاً بأن العمل عبادة.

الحلقة الثانية