حوار شامل مع الباحث السعودي في جامعة هارفارد د. سليمان الهتلان ( 2-3 )


حاوره عبدالله المغلوث: لم يكن يعلم ذلك الفتي الصغير الذي يشق الصحراء ذهابا وإيابا، ويكتب بأصابعه على الرمال التي تتحرك ببطء تحته، أنه سيكتب بذات الأنامل في صحيفة نيويورك تايمز، سيحمل ذات الجسد الذي يتهادى خلف الأغنام التي يرعاها إلى جامعة هارفارد العريقة التي أصبح أحد باحثيها. " إختطف السعوديون طائراتنا وهاهم يختطفون صحافتنا". استقبله أميركيون بعبارات مناوئة عندما انتشر اسمه في صحفهم.
مازال يتذكر الدكتور سليمان الهتلان أكتاف القرية التي يصعدها ليلا في جنوب السعودية ليرتل قصائده على مسامع حبيبته التي لم يرها حتى اللحظة. صور جده ( جبران ) تجول بحبور في ذاكرته هي و ( الرشاش ) الذي كان يحمله في الأعراس و ( الجنبية ) التي يحزمها بإخلاص على جسده.
الباحث في قسم دراسات الشرق الأوسط بأحد ابرز المراكز التعليمية في أميركا تحدث لـ"ايلاف" عن صناديق مغلقة لا تدخلها الشمس و وادٍ أبيض لاينطفئ.


حصار

تنزلق هموم الدكتور الهتلان من مقالته التي يكتبها دورياً في جريدة ( الوطن ) التي تصدر من جنوب السعودية، لماذا لايعود للسعودية؟فهو يكتب بأسى عن غياب الرعاية الأكاديمية للبحوث التي تتعلق بالأقاليم، ألم يحن الوقت ليعمل والصالحين في سبيل إنماء البحوث وتفعيلها داخل الوطن؟ يجيب على سؤال ( إيلاف ) :" منذ سنة أو أكثر و أنا أتواجد لفترات طويلة في المملكة. و لعل الوقت الذي أقضيه في بلادي حالياً أطول من الوقت الذي أقضيه في أمريكا. لكن مشكلة العمل الأكاديمي في المملكة هو غياب الرعاية الحقيقية للباحثين و البحوث العلمية". يتساءل الباحث السعودي في جامعة هارفارد : "بالله عليك كيف ترجو من باحث أفنى أعز سنوات العمر في الدراسة و البحث أن يتفرغ لبحوثه عند عودته و هو محاصر بهموم الواقع من بحث عن أرض ثم هم بناء المنزل و تدريس الأطفال و مواعيد الزوجة و الأبناء في المستشفى و عزائم العشاء و الغداء عند الأقارب و أبناء الجماعة؟".
يواصل النزيف: "بالله عليك كيف يمكن أن يجرؤ الباحث على دراسة أي قضية بتجرد و موضوعية و الخوف من الرقابة – بكل أنواعها – يحاصره من كل الإتجاهات؟ هل تصدق أن مشاركة الأكاديمي السعودي – ممن يعمل في أي جامعة سعودية – في أي مؤتمر علمي خارج بلاده تتطلب معاملة طويلة في مسيرة بيروقراطية معقدة قد يحين موعد المؤتمر قبل الحصول على الموافقة للمشاركة؟".

تعاني الجامعات السعودية من قيود يعبر عنها سليمان قائلاً : "لم تتحرر جامعاتنا بعد من العقد البيروقراطية – و عقداً أخرى أشد وطأة – في عملية تعيين أعضاء هيئة التدريس و ترقياتهم و دعم محاولات بعضهم الجادة لإعادة الحياة إلى الجامعات السعودية". مالأزمة ومالحلول؟ "هناك أزمة فكر حقيقية في مجتمعنا و جزء من الحل هو في إعطاء الجامعات حرية أكاديمية كاملة و إستقلالية حقيقية مع حماية جادة من إبتزاز من يمارس وصاية فكرية على المجتمع و على العلماء الحقيقيين في جامعاتنا أو يستخدم الدين الحنيف أو علاقات "النسب و الحسب" كعصى غليظة يضرب بها أي محاولة جديدة للإبداع أو التفكير الحر".


تخصص وتكنولوجيا


جدل كثير يتخلل أنسجة المنظومة الاعلامية السعودية يتعلق بمدى فعالية اقسام الاعلام في الجامعات السعودية ومدى تغذيتها للمؤسسات ذات العلاقة، للهتلان وجهة نظرة مغسولة بقرائته لواقع الصحافة الأميركية : " ليس شرطاً أن تكون خريج قسم إعلام أو صحافة كي تكون صحفياً جيداً. أعداد كبيرة من الأسماء المميزة في الصحافة الأمريكية درست في تخصصات مثل التاريخ و العلوم السياسية و أقسام أخرى".
ماذا ينقص أقسام الاعلام في الجامعات السعودية حتى تكون فعالة ومؤثرة؟ : " الملاحظ أن أقسام الإعلام بالجامعات السعودية تفتقد لآلية عملية للتدريب الصحفي و لعل هذه واحدة من المشكلات الحقيقية التي يعانيها طلاب أقسام الإعلام في جامعاتنا. في ظني أن عشق العمل الصحفي، و الرغبة الجادة في التفرغ له، تأتي في مقدمة عوامل النجاح".
صمت حالك ترتكبه المؤسسات الصحافية تجاه شبان يتدثرون بطموحاتهم الطويلة، يقول الأكاديمي و الكاتب الصحافي الهتلان: " المهم الآن هو أن تنشأ المؤسسات الصحفية مراكز متخصصة في التدريب الصحفي و تخصيص ميزانيات للإبتعاث للتدريب على الجديد في تكنولوجيا الإعلام و الإطلاع على أساليب أخرى في ممارسة العمل الصحفي في المجتمعات التي تمارس صحافتها دورها الحقيقي كسلطة رابعة لا تجامل و لا تنافق و تسقط قيمتها بمجرد فقدانها للمصداقية و للإستقلالية".

خبز وجبل
كما تتلاحم الورود وتلقي تحية للكتاب العملاق الذي يقف بصمود في ميدان جامعة الملك سعود بالرياض، تتعارف الوجوه السعيدة التي تقبع في ذاكرة الهتلان، الجامعة التي تأسست في خريف 1957م لم تبرح تزف اسماء مهمة لميدان العمل في السعودية، يتحدث سليمان عنها ولائحة منعشة أضفت على مشواره الكثير: " هناك قائمة طويلة ممن أدين لهم بأفضال كثيرة على مسيرتي الأكاديمية و تجربتي الصحفية. في جامعة الملك سعود، كان الدكتور ساعد الحارثي مشرفاً على صحيفة رسالة الجامعة و كان يتعامل مع أسرة تحرير الرسالة (و كنت واحدا منهم) بعقلية مختلفة. كان يحفزنا للتفرد و يحمينا من بطش بعض من نغضب بكتاباتنا و نقدنا في أولى خطواتنا الصحفية. لقد أتاح لنا هذا الرجل تجربة فريدة، و نحن نخطو أولى خطواتنا في طريق مليء بالشوك و المسامير، لكي نكتب بجرأة مختلفة و بلغة مختلفة".

جريدة ( الرياض ) تلك الشاسعة وتأثيرها في السعودية، لاينساها الهتلان ورجالها : "في جريدة الرياض تلقيت دعماً أصيلاً من تركي السديري ومحمد أبي حسين و سلطان البازعي و من الصديق العزيز محمد رضا نصر الله. ومن دائرة الأصدقاء، كان الأخ العزيز جداً محمد علوان صاحب فضل كبير في إبتعاثي للدراسة و قبل أن أعرفه عن قرب كان حافزاً للكتابة و النبش في تفاصيل حياة القرية و ذاكرتها من خلال مجموعته الشهيرة "الخبز والصمت".
كاتب رواية ( الحزام ) احمد أبو دهمان لايفر ايضا من ذاكرة كاتب الرياض السابق، يتذكر مقولته ووقفة شقيقه : " ما زلت مديناً لأخي الكبير أبو غسان بالكثير من جميل المواقف. و أدين لصحيفة الرياض معرفتي – من خلالها – بالصديق الحميم أحمد أبو دهمان الذي كتب لي يوماً: "أصمد مثل جبل". و مازال أبو نبيلة رجلاً أصيلاً يعيدني إلى ذاكرتي الحقيقية في جبال السراة كلما إشتدت كربتي".

قبائل ومكتبات متحركة


أميركا الكبيرة ألم تحقن ايقونات في أعماق الهتلان، يقول لـ ( ايلاف ) : " في أميركا، تعرفت على الصديق د. محمد العضاضي، مكتبة متحركة من العلم و المعرفة و الحياة، و منه عرفت الكاتب القدير فواز تركي الذي عرفت من تجربته كيف أنه مازال عند العرب – للأسف – قبائل تأكل جيادها. و في واشنطن، تعرفت على الصديق الحميم محمد إبراهيم حسن الذي عرفتني صداقته على كثير من أوجه الجمال الحقيقي و الطيبة الأصيلة لأهلنا في السودان الكبير".

قصة لمهاجر عربي، تملأ أرشيفه وتضيء صدره، جلست الرواية التي نشرها سليمان القرفصاء في الصفحة الأخيرة لجريدة أميركية تلك التي تتمتع بـ مذاق ( مذهل ) مقارنة ببقية الصفحات، هاتوا ألسنتكم لنتذوقها : " مدين لصحيفة البارثنون في غرب فرجينيا التي أعطتني فرصة التجربة و التدريب و محاولات النشر الأولى حين نشرت فيها أعمالاً صحفية كثيرة و لا أنسى قصة صحفية كتبتها عن مهاجر فلسطيني أقام في غرب فرجينيا و عاش حياة مثيرة و مليئة بالنجاحات على صعيد التجارة و نشرتها الصحيفة في صفحتها الأخيرة و تلك تجربة عززت عشقي للنشر في الصحافة الأمريكية".

لائحة طويلة لاتنته من الأسماء الأميركية، تغوص في ذاكرته، يقول عنها : " أنا مدين كثيراً لقائمة طويلة من أساتذتي و زملاء الدراسة في أكثر من جامعة أمريكية درست فيها مثل مارشال و هاوارد و جورجتاون و هارفارد. كانت أستاذتي القديرة البرفسورة ديان أوين، أستاذة الإعلام السياسي بجامعة جورحتاون، خير عون لي في دراساتي العليا و مازالت تشجعني على البحث العلمي و على الإسهام الأكاديمي”.
ولاينسى دور احدى أساتذته: " للكاتبة الأمريكية – جذورها من جنوب أفريقيا- السيدة روز موريس دوراً كبيراً في تشجيعي على الكتابة باللغة الإنجليزية منذ أن كنت طالباً عندها في جامعة هارفارد و بدأت تقرأ للطلاب في المادة التي تدرسها "الكتابة الإبداعية" بعض محاولاتي الكتابية. سألتني يوماً: ما هي الكتابة؟ أجبت: هي إعادة الكتابة. قالت: الكتابة هي إعادة الكتابة إعادة الكتابة إعادة الكتابة و رددتها خمس مرات، ومازلت أعمل بنصيحتها إلى اليوم".
ماالنصيحة التي تسكنه حتى اللحظة؟ يرد سليمان قائلا: "الكاتبة الألمانية ستيفاني فريدهوف و التي زاملتها أيضاً في هارفارد فهي التي علمتني - بإلحاحها الشديد عليَ أن أكتب - أن الكتابة أفضل وسيلة للإنتقام من الظروف القاسية و الظلم و الكآبة التي حاصرتني كثيراً في إغترابي. لقد أخذت بنصيحتها و ها أنا ذا أنتقم بالكتابة لفقر أجدادي و عزلة كثير من أبناء قريتي و إستعلاء بعض أهل السلطة و المال في بلادي"

يتبع