وبمقدار ما يثير تعددية القراءات يكون جيدا


بول شاوول لـ ( إيلاف ) : الشعر العربي فقد المغامرة التجريبية التي صنعت ألقه
أدونيس رائد الكتابة البحثية الطائفية في الحداثة العربية

القصيدة ممارسة سادية وعنيفة ونبيلة على اللغة


حدثان إثنان صنعا بهجة الشعر في مهرجان جرش الثالث والعشرين الذي أطفأ قناديله مؤخرا.الحدث الأول كان لقاء الجمهور الشاعرَ الفلسطيني محمود درويش الذي طرز ليل الشعر العربي بقصيدة جديدة بعنوان (طباق) أهداها إلى المفكر الراحل إدوارد سعيد، فيما تجسد الحدث الثاني أمس في أمسية الشاعر اللبناني بول شاؤول الذي ألفى في انتظاره بمدرج مركز الحسين الثقافي وسط العاصمة عمّان، جمهورا كثيفا ونوعيا ونخبويا أصغى بكليته إلى قصائد شاوول الذي شاركه في الأمسية الشعراء أمجد ناصر ( الأردن) غسان زقطان ( فلسطين) والشاعرة شنيد موريس ( إيرلندا).
تلا شاؤول مقاطع من ديوانه (كشهر طويل من العشق) الصادر عن دار الريس ببيروت العام 2001، وعمّ صمت عميم وعميق قاعة الشعر، وراح الشاعر يصنع طقس القصيدة في أداء مسرحي آسر استولى على خلجات الجمهور وشهقاتهم :

"هكذا تقبلين عليّ، كشهر طويل من العشق، مضمخة بعرقك القاطر عليّ، وبأنفاسك حرّى من ضيق الأسرّة، ومن هباتك الوردِ الشبقة على جسمك، وفتيته المتناثر على عري صبور، صبور كمرآة، وفاسق كبياض الياسمين، ومنتفض بأنينه كتبتّل قديسات في الدغل وفوق القصب والينابيع".


ومضى الشاعر يرسم فضاء الفقد والغياب ويتوغل في أقاليم الشهوة بخفر، فيما كانت القاعة محبوسة الأنفاس، فقد لوّن شاؤول فضاء القراءة بأناته التي هي أنات النص وحيواته الطالعة من جحيم الأنين واللوعة والهشاشة والخطيئة :
"كشهر طويل من العشاق والمأسورين والخطأة، أرفعك من شهواتك كشتلة من ترابها ومائها وورقها، وأهتزك، بأجسامك السابقة، والمقبلة، والحيّة، والخفرة، والمقتولة والقاتلة، وأراك عبرها، كمن يحضن زغبا حارا في يديه، أو كمن يفتح النافذة على سنوات طويلة من الأرق المشمس، واليقظة المحرورة"

ويضيء صاحب ( أوراق الغائب) و( نفاد الأحوال) و(الهواء الشاغر) و( موت نرسيس) عزلة الحواس بإيقاع شعري جعله شاؤول يتصاعد كأنة مخنوقة، ثم ما يلبث أن يخفت كهسيس، فيما بقيت بوصلة القصيدة معلقة باتجاه عيون ترصد أحوال الكائن " بحواس من دغل كثيف، ومن أقمار حُمر عمياء ومن ارتطام أنّات أنّات من قعر الحفر، ومن حرائق، ومن اجتمار الأصابع، والعنق، ونثار ما يمّلسُ على التمدد، والخروج بلا مقابل".
عشية تلك الأمسية كان لا بد من اللقاء مع بول شاؤول، ولا بد من محاورته ومعانقة صمته والاشتباك مع نرجسية لا يحتملها بعضهم، لكنها في بعض وجوهها حساسية الفنان المفرطة تجاه الاشياء والعالم. وُلد الشاعر والمسرحي والمترجم في المتن (جبل لبنان) وتخرج في كلية التربية في الجامعة اللبنانية العام 1973، ودرس مادة الادب العربي واللغة العربية 9 سنوات. وكان من قيادات الحركة الطالبية، إبان «الثورة الطالبية».. في لبنان في السبعينات. اعتقل، ودخل المستشفى عدة مرات، اثر قمع التظاهرات الطالبية على امتداد نحو 8 سنوات، شارك في تأسيس «حركة الوعي» وهي حركة ليبرالية نهضوية تغييرية ساهمت في النضال من اجل بناء «الجامعة الوطنية».
أسس مع عدد من الشعراء مجلة شعرية «تحولات»، صدر منها ثلاثة اعداد وتوقفت بسبب الحروب. شارك في غالبية المهرجانات المسرحية العربية. كتب في صحف ومجلات عربية عديدة منها «الشرق الاوسط»، و«الخليج» و«القبس» و«الوسط» و«المجلة» (وبهاتين المجلتين كتب باسم مستعار). عمل مدير تحرير للاقسام الثقافية في مجلة «المستقبل»، و«الموقف العربي»، وجريدة «السفير»، وجريدة «النهار»، ويعمل حاليا مدير تحريرالدائرة الثقافية في جريدة «المستقبل» منذ العام 1998، ترجمت قصائد له الى الفرنسية والانجليزية والالمانية والسويدية، قدمت مسرحياته في بيروت والقاهرة ونيقوسيا وعمان. عمل في السينما فترة فكتب حوار فيلم «بيروت يا بيروت..» لمارون بغدادي، وكتب عدة مسلسلات تلفزيونية منها «نساء عاشقات» و«السنوات الضائعة". ولئن كان هذا الحوار يلقي ضوءا على مختلف الجوانب الابداعية عند شاؤول الا انه لا يغطي الاقاليم كلها، فهو نذر نفسه لابتكار الجديد واجتياح الصمت وارتياد الاراضي البكر.

*انت احد ابرز رواد قصيدة النثر، لكنك في الآونة الاخيرة اخترت الصمت ولم تعد تخوض السجالات حولها وحول الشأن الثقافي العام، وبالكاد وافقت على قراءة شعرك في مهرجان جرش الأخير. لماذا؟
- بالعكس تماما، لم يشارك احد في قضايا ثقافية عبر دراسات ومقالات عن الشعراء والكتاب والديمقراطية والقضايا الثقافية والحريات بمثل الكمية التي شاركت فيها. كل القضايا التي طرحت من قصيدة النثر الى الشعر الحر الى مفهوم الريادة. كل هذه كتب عنها مئات الصفحات، ونشرت في صحف عربية ولبنانية، لكن اذا كنت تقصد انني لا اشارك في المهرجانات الشعرية، فهذا صحيح، وأنا كنت قد اتخذت موقفا بأن لا اشارك في مهرجانات شعرية والقي الشعر فيها. وهذا كان موقف مني دفعت ثمنه اعلاميا، ولكني في المقابل ربحت الشعر. اليوم كل الذين كانوا ينادون بالقصيدة الايديولوجية والسياسية المباشرة من جيلي على الاقل، غيروا مواقفهم وصاروا يتكلمون عن مرحلة ما بعد الايديولوجيا، ويمتدحون غير الايديولوجي وغير السياسي، وهم كانوا سياسيون ومنبريون. انا اكثر ابناء جيلي انتاجا. هنا المحك الاساسي ماذا ينتج الشاعر في صمته وفي عزلته، وفي كتابته اذ كتبت عشر مسرحيات وترجمت ألوف القصائد واكتشفت ان لدي عدة مسرحيات ترجمتها ونسيتها بالاضافة الى الدراسات المسرحية. هذا الانتاج الكمي الشعري خصوصا هو الذي يحدد موقع الشاعر وليس انخراطه في الشأن العام وهذا ضروري. وهناك مقولة خاطئة جدا. هي أن «على الشاعر ان يكتب كل يوم، وباستمرار»، هذا مفهوم تسليعي يحوّل الشاعر الى ماكنة، فيكتب عن كل شيء ليرسخ حضوره اليومي الوهمي. الشاعر برأيي يكتب عندما تتهيأ له تجربة استثنائية تتراكم فيها طويلا الحالات والقراءات والتاريخ الشخصي والواقعي، وتخضع مادة هذه القصيدة للتجريبية. الشاعر الذي لا يجرب شاعر منته. الشعراء الذين يكررون قصائدهم ودواوينهم ويقعون في هذه النمطية الميتة هم منتهون ايضا. لماذا يجب عليّ اليوم ان اكرر تجربة «وجه يسقط ولا يصل» فهل عليّ ان أقلد ذاتي وأن أتخبط في مستنقعها. من هنا جاء تحفظي، للوهلة الأولى، من المشاركة الشعرية في (جرش) بسبب خشيتي من ألا يعبر المنبر عن الصوت الخافت والتحولات المكتومة في نصي الذي يستدعي التأمل أكثر ما يستدعي التصفيق العابر؟. لو أخذت دواويني السبعة ستجد أن في كل كتاب مادة تجريبية معينة، وكل كتاب يختلف عن سواه: «كشهر طويل من العشق» يختلف عن «أوراق الغائب» وهذا يختلف عن «موت نرسيس» الذي يختلف بدوره عن «الهواء الشاغر» وهذه ليست سهلة، انها تحتاج الى صبر وانتظار وانتباه، وجهد وتعب. هذه كلها عناصر تجريبية، والمشكلة اليوم في معظم الشعر العربي الحديث انه فقد هذه المغامرة التجريبية التي صنعت مجده وألقه ذات يوم، كأن الشعراء ناموا على صفحات كتبوها في الماضي، وعلى تجارب كتبوها بلا حيوية، ولا ابتكار، ولا قلق.

* هل تعدّ التجريبية في الشعر أمراً محموداً في مختلف وجوهها. أليس ثمة مزالق يمكن أن تعتور التجريبية اذا اطلق لها العنان؟

- ان الايديولوجيا، والمذاهب الشعرية، بعد تكريسها قتلت الروح التجريبية، مثلا السوريالية في بداياتها كانت تجريبية، لكن عندما صارت ايديولوجيا ونمطية، قتلت هذه التجريبية، وصارت عبئا على الشعر والشعراء.

*في مجموعاتك الاخيرة تبدو عنايتك بالغة باللغة، كأنما هي هدف بحد ذاته، انك تصغي بانتباه شديد الى ايقاعاتها.

- الشاعر يراكم وينتطر، لكن في فترة الانتظار ينبغي ان يهيئ ادواته اللغوية جيدا حتى اذا جاءت الحالة يستطيع ان يصوغها والحالة بلغة في مستواه، بدون ان يكون لديه فكرة مسبقة عما يكتب، لان الشاعر اذا رسم بيانا لقصيدة سبقتها عرف الطريق سلفا، اي عطّل الرحلة. في احيان كثيرة لم انجح في تجريبيتي، كنت أشتغل على قصيدة سنة او سنتين فاكتشف انها فاشلة، فارميها بلا رحمة. لأن التجريبية تتضمن امكانية الخطأ. الشعراء الذين يقلدون أنفسهم لا يخطئون، لأنهم يسلكون طريقا يعرفونها.

* الرهان على الشعر لديك، هل يتخذ طابعا جماليا أم اجتماعيا سياسيا ذا صلة بالتغيير؟

- الرهان على الشعر، لا على الشاعر، لا اظن ان كبار الشعراء الذين ابدعوا بنصوصهم العظيمة كبودلير ورامبو ومالاراميه وفاليري وحتى شكسبير قبلهم، لا اظن انهم كانوا سيكتبون الشعر كي يغيروا المجتمع، او ان يجعلوا فيه اطارا لقضية. الشعر هو قضية نفسه، ومصبّ ذاته. ينبغي ان يفهم هنا انني ادعو الى شعر لغوي، او اتبنى نظرية الفن للفن، لا اقصد ذلك، اقصد ان القصيدة لا يهمها الموضوع، ولا تتحدد اهميتها بالموضوع، ولكن سواء كانت القصيدة عن قضية، أو حتى عن ايديولوجيا دينية، يمكن بحس عظيم عند شاعر، ان يحول هذه القصيدة الدينية الى قضية شعرية، عندها وبلغة تجريبية يستطيع ان يرتفع بشعره الى طموح تلك القضية. علينا ايا كانت الثيمة او الموضوع ان تكون هذه مادة اولية لبناء معماري جديد، بدون ان نأخذ بعين الاعتبار من سيصفق لنا في المهرجان، ولا من سيعجبه شعرنا من اهل السياسية والقبائل والاحزاب.

* ولكن تركيز قصائدك الأخيرة على اللغة ملمح بارز، فهل يكفي البحث اللغوي المحض على القصيدة لانتاج الشعر؟

- اللغة وحدها لا تصنع قصيدة وبعض الحداثيين تكلموا عن اللغة، وكأنها كائن منفصل عن الانسان. بهذا المعنى نقع في تشييء القصيدة، في لا انسانيتها، في جفافها. اللغة ليست فقط اداة، وليست هدفا، اللغة جزء من اكتشاف الحالة الانسانية العميقة، انها الدليل احيانا، ولكن ليست وحدها دليل ذاتها، انها اشارة الى عمق التجربة وعمق شكل التجربة. اللغة التي تمشي وحدها تحت شعارات تفجير اللغة وهتكها، واعدام التراث، واعدام كل ما هو قديم، واجهت نفسها امام طريق مسدود، صار الشاعر في مكان، واللغة في مكان، اللغة لا يمكن ان تكون اقوى من الشاعر. القصيدة هي ممارسة عنيفة سادية، لكن بسادية نبيلة على اللغة. اللغة لا تشكل الشاعر كما كان يفهمها الرومانطيقيون، وليست اقوى من الشاعر كما فهمها السورياليون. اللغة هي هذه المادة التي تخضع لتجربة الشاعر وازميله واصابعه، يخرجها من التعميم الشائع او السائد او التراث، ويدخلها في خصوصيته، ولهذا اقول ان التراث سواء كان قديما او حديثا هو قصة ذاتية لا جماعية. والتراث هو قضية خاصة لا عامة، هو قراءة الشاعر له في الحاضر، واظن ان الشاعر الحديث يقرأ التراث افضل، لانه يقرأه بهواجس الحاضر، وبهواجس الابداع وبهواجس الذات، فبعض التراثيين يفسرون التراث كمن يفسرون الماء.

* عرفت علاقتك باللغة مراحل اتسمت بالثورية كاتجاهك، نحو قصيدة البياض والصمت.. ماذا بعد؟

- ليست هناك طريقة واحدة للعمل على اللغة، اظهار قوة اللغة هو نوع من الشغل المتعدد. كل كتاباتي فيها شغل على اللغة مثلا «وجه يسقط ولا يصل» 1977 الذي نشر كله في (النهار) يمثل افتتاحا لقصيدة البياض : سطرين او 3 اسطر، بعدها كانت القصائد الطويلة، بعدها بدأ الشغل على النحت التقطيري للقصيدة، وهناك ايضا شغل على علاقة البياض بلغة القصيدة. و«الهواء الشاغر» 1985 تطوير لتجربة قصيدة البياض. في (اوراق الغائب) خفّضت صوت اللغة حتى الصمت، وكتبت قصيدة طويلة قائمة على التوازيات بلغة مصفّاة حتى الهمس، هذا شغل على اللغة، هذا شغل اصعب، اكثر قصيدة اخذت فيها وقت بدأتها 1986 وأنهيتها 1992، ونشرت منها اجزاء في (الكرمل) و(السفير) ثم صدرت مكتملة في ديواني الشعري الاخير (كشهر طويل من العشق). حاولت في القصيدة ان اختبر مادة شعرية اخرى. لعبت لعبة التراث، وحوّلت هذا الموروث المنغرز فيّ بأنفاسه وأحيانا بتراثيته لاكتب قصيدة حديثة جدا، مع الشغل على ايقاعات الجمل، وعلاقة المفردات والحروف ببعضها الى اخره، وهذه كانت تجربة وعرة جدا، لأنني عندما انتهيت من (اوراق الغائب) بعد 6 سنوات، لم أستطع التخلص من سطوتها، ولهذا قلت سأكتب شيئا مختلفا جدا بنبرته اللغوية وبتركيبته وبمعجمه وببيئته الصامتة. وانتظرت، كما قلت لك، حتى جاءت هذه التجربة، فكتبتها بشكل مختلف.