المفكر فهمي جدعان لـ (إيلاف) :
العرب دخلوا في أجواء العاصفة والخطر والمجهول
كل الحركات الإيديولوجية الثورية وغير الثورية أيضا حركات استبدادية
مقولة الحاكم المستبد العادل مقولة فاسدة، وتصلح لمجتمع قبلي بدوي
الدول العربية وشعوبها صارت محط َ احتقار في كل مكان في العالم

حاوره موسى برهومة: يعد المفكر د. فهمي جدعان واحدا من أبرز المفكرين العرب الذين اختاروا أن يشتغلوا على مشروعهم التنويري بعيداً عن دائرة الضوء، فحفروا عميقاً في تربة الفكر العربي المعاصر، والفلسفة الإسلامية، لينتقل، من بعد، في مؤلفاته الأخيرة لصياغة منظومة مفاهيمية لاستشراف ملامح المستقبل العربي.

لد جدعان في العام 1940 في بلدة عين غزال بمدينة (حيفا) في فلسطين، وحصل على دكتوراة الدولة في الآداب من جامعة السوربون بباريس العام 1968، كما عمل أستاذاً للفلسفة والفكر العربي والإسلامي في عدد من الجامعات الأردنية، وعمل استاذاً زائراً للحضارة العربية والإسلامية بجامعة السوربون الجديدة (باريس الثالثة)، وبالكوليج دي فرانس (باريس)، كما عمل نائبا لرئيس جامعة البتراء الأهلية الأردنية، وهو يعمل حاليا أستاذا للفلسفة في جامعة الكويت ومشرفا على طلبة الدراسات العليا.
شغل عضوية مجلس إدارة معهد العالم العربي بباريس في مرحلة التأسيس (1980 - 1984)، كما منح وسام سعف النخيل عن جهوده الأكاديمية (فرنسا 1986) ووسام القدس للثقافة والآداب والفنون (فلسطين 1991) وجائزة الدولة التقديرية للعلوم الاجتماعية (الأردن 1993). له عدد وفير من المؤلفات والبحوث أهمها:
- أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث 1979
- نظرية التراث ودراسات عربية وإسلامية أخرى 1979
- المحنة: بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام 1989
- الطريق إلى المستقبل: «أفكار - قوى» للأزمنة العربية المنظورة 1996
- الماضي في الحاضر: دراسات في تشكلات ومسالك التجربة الفكرية العربية 1997
- رياح العصر : قضايا مركزية وحوارات كاشفة 2002

وله باللغة الفرنسية:
- التأثير الرواقي في الفكر الإسلامي (باريس 1968)
- مجموعة من البحوث حول:
الوحي والإلهام في الإسلام، فلسفة السجستاني، الشروط الاجتماعية الثقافية للفلسفة الإسلامية، منزلة الملائكة في الإلهيات الكونية الإسلامية، الأمة والمجتمع في الفكر الإسلامي (باريس 1967 - 1992) بالإضافة إلى مراجعات نقدية في المجلة النقدية للحوليات الإسلامية (باريس – القاهرة).
التقينا المفكر جدعان في عمان حيث يقضي إجازة بين أهله وأسرته وأصدقائه، وحاورناه في مستقبل الحال العربي، والحاكمية والاستبداد، ودور النخب الثقافية، ومكانة العقل العربي في التفكير الكوني، والكيفيات المقترحة للمؤالفة بين العقل العربي والفعل العربي.

* تشغل مسألة الحرية دعاة الإصلاح في العالم العربي، وتبدو في أعين الكثيرين في الداخل وفي الخارج الطريق الأقصى للتقدم والخلاص. فهل هي كذلك فعلا؟

- الحرية شرط أساسي لتفتح المجتمع والفرد، وهي فاعل حيوي جوهري في حركة التقدم التاريخية. وبما هي نقيض للاستبداد تشخص الحرية كقوة دافعة وبانية لمؤسسات إنسانية تحقق أكبر قدر من الرضى والنماء والإنتاج والفاعلية للفرد والمجتمع والدولة.
ولا أحد يجهل أن الحرية هي عصب المنظومة الليبرالية. بيْد أن الليبرالية ليبراليات، ومعنى ذلك أن الحرية أيضا حريات. وليس المقصود الإحالة إلى ما يسمى بالحريات الأساسية والحريات المدنية وغيرها فحسب، وإنما المقصود، قبل أي شيء آخر، أن ثمة تفاوتا في ماهية الحرية نفسها وفي حدودها وأحكامها بين الأشكال المختلفة لليبرالية. وفي الأدبيات الثقافية والفكرية العربية تجور الحريات الأساسية على غيرها من الحريات، ويغفل الساعون لإقرار هذه الحريات عن دراسة واستقصاء الشروط الموضوعية لإنفاذ الحرية ويذهبون، موافقة ً لمفهوم عام ضبابي لليبرالية، إلى تسييد الحرية كمثال أقصى وكقيمة مكتفية بذاتها، وكغاية مقصودة لذاتها بإطلاق، غير آبهين بالروابط العضوية التي تربط الحرية - وأية حرية !- بالمعطيات الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية للمجتمع.
ومنذ أن جعل المحافظون الجدد في الإدارة الأميركية الحالية الحرية هدفا أقصى قائما بذاته بات الترويج للمفهوم منبتّ الصلة عن هذه المعطيات، وبدا كأن الفكر العربي الليبرالي يتجه إلى اختيار النموذج الليبرالي الجديد (أي النيوليبرالية) الذي هو تجسيد للنظام الاقتصادي العولمي وللحضارة الأميركية في صورتها المتوحشة، صورة اقتصاد السوق المنفلت، وما يسمى بالديمقراطية الليبرالية، التي تعني اليوم الصيغة الراديكالية لليبرالية، وهي صيغة تقلص دور الدولة في الحياة العامة للفرد والمجتمع، وتتنكر لقيم العدالة.
والحقيقة أن العالم العربي لا يحتاج إلى الحرية فقط، وإنما يحتاج أيضا – للخلاص والخروج من المأزق- إلى مركب شامل يربط قيمتيْ الحرية والديمقراطية بقيمتين أخريين أساسيتين هما العدالة والتنمية. إنني أفكر في هذه المسألة تفكيرا معمّقا، وأرجو أن أخلص إلى منظومة فكرية في هذا الصدد في وقت قريب.
وكل ما أستطيع أن أقوله هنا هو أن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية في العالم العربي اليوم لا يمكن أن تجد حلولها النهائية في مفهوم للحرية منبتّ الصلة عن مفاهيم العدالة والتنمية، وأن الصيغة الليبرالية المسرفة أو الجديدة لا تصلح مدخلا لقيمة الحرية في العالم العربي، وأن الصيغة التي يتعين التوجه إليها تكمن في شكل من أشكال ما يمكن أن نسميه بالليبرالية الاجتماعية.


* ولكن في غمرة المطالبة بالحرية والديمقراطية تتردد بين الحين والآخر مقولات مستلة من التراث العربي والإسلامي، من بينها مقولة الحاكم المستبد العادل، ويجري تسويق هذا الشعار كحل لأزمة الاستبداد والطغيان في غالبية أنظمة الحكم العربية، فكيف تقرأ هذا الشعار بطريقة صحيحة، وما هي الآمال التي تتوخاها لإحلال انفراج في علاقة الحاكم العربي بجموع المحكومين؟
- مقولة الحاكم المستبد العادل مقولة فاسدة، وهي مقولة تصلح لمجتمع قبلي بدوي، لكنها لا تصلح لمجتمع مديني حديث. نحن الآن جزء من عالم تحكمه ثلة من القيم الإنسانية التي تخص الفرد بمكانة إنسانية كريمة. فهو عاقل وراشد وقادر على توجيه حياته، وهو منفتح على الدنيا وعلى المعرفة وعلى الشعوب والثقافات. وبكلمة واحدة هو شخص جدير بأن يكون حاكما لنفسه. ومعنى ذلك أن إلغاء دوره وإسناد الأمر إلى حاكم مستبد عادل يرتدان إلى الزعم أن هذا الإنسان لم يرقَ بعدُ إلى مرتبة الاستقلال الذاتي والنضج المعرفي، وأننا نريد أن نعزّز هذه " الاستقالة" من الفعل والتوجيه بأن ننصّب له " راعيا " يجري كل الأمور بدلا عنه.
ثم إن المستبد لا يمكن أن يكون عادلا، فهذا وهم كبير، ومقولة المستبد العادل جاءت من بعض الحالات الفذة القليلة التي انحدرت إلينا من التاريخ العربي الإسلامي في إهاب مثالي نموذجي مجرد تمت فيه إزاحة جميع العناصر السلبية والاحتفاظ بصورة خارقة للحاكم. وأيا ما كان واقع حال هذه الحالات، فإننا لا نستطيع اليوم أن نستأنفها وندعو إليها. نحن في عصر التداول والتفاوض والإقناع والتأثير والضغط والعصيان المدني أو غير المدني. وهذه هي الأساليب التي يتعين اختيارها في علاقة المجتمع وأفراده مع الدولة، على أن الطريق التفاوضية والإقناعية والضاغطة تظل هي الأقدر على الوصول إلى نتائج عملية ناجعة في هذه العلاقة.


* .. ولكن في ظل انسداد الطرق التفاوضية بين الحاكم والمحكوم لا يعلو غير صوت القمع، فمن أين استجلب الحاكم العربي كل هذا الاستبداد. هل صحيح أن التاريخ العربي والإسلامي يشكل، كما يقال، معينا لا ينضب لثقافة الاستبداد والطغيان؟
- ليس سرا أن الحاكم العربي في الدولة العربية الحديثة ليس خلاصة أو تجسيدا لنظام سياسي تحتل فيه الإرادة التمثيلية للأمة الأساس المادي والفعلي للسلطة. لا شك في أن بعض " حالات" الحكم في البلدان العربية تستمد روحها وغائيتها من التجربة التاريخية العربية الحافلة بكثير من الاستبداد والطغيان الذي يرى فيها هذا الحاكم أو ذاك نموذجا يحتذى، وبخاصة إذا تمّ ربط طبيعة هذا الحكم ببعض النصوص الدينية أو بعض الخلفاء والسلاطين الذين يمثلون " سلطة تاريخية " في أعين الأجيال التالية. ومن المؤكد أن مؤلفي كتب (الأحكام السلطانية) قد أدوا دورا بارزا في تشكيل مفهوم للسلطة تحتل فيه (صورة) الخليفة أو الإمام مكانة متميزة، إذ تعزى
إليه سلطة الحكم والمسؤولية عن كل شيء تقريبا، بحيث تقتصر قيمة (أهل العقد والحل) في هذا المنظور على مفهوم الشورى غير الملزمة، فتظل للحاكم السلطة القصوى التي هي المعادل المادي للاستبداد.
لكن الحاكم العربي المستبد في الدولة العربية الحديثة يمكن أن يكون أيضا إفرازا قبليا أو بدويا تقليديا. فلا بد أن يكون استبداديا، وقد يكون آتيا من "التشكيل العسكري" وهو أيضا استبدادي. ويمكن كذلك أن يكون مزروعا من سلطة استعمارية أجنبية لأداء وظيفة محددة في دولة " تابعة "..
في جميع هذه الأحوال، وغيرها، لا مكان لإرادة الشعب أو الأمة، ولا للاختيار الحر. هذا ظرف تاريخي علينا أن ندرك حدوده وأبعاده، وهو بكل تأكيد ظرف يجب تجاوزه، ونستطيع تجاوزه.


* .. أنى لنا تجاوز هذا الظرف ما دام الاستبداد لم يعد مقتصرا على الحكام ، فثمة جماعات وأفراد يملأ العنف أقوالها وممارساتها، هل صار القتل والتنكيل والترويع جزءا من (فولكلور) أمة مهزومة ترى في الموت شكلا من أشكال الخلاص أو إثبات الوجود؟
- كل الحركات الإيديولوجية الثورية- وغير الثورية أيضا- هي حركات استبدادية، والليبرالية الديمقراطية هي أيضا استبدادية، فهي تستأثر بالحقيقة وبطريق الخلاص الذي تتمثله غاية وهدفا. والعنف ليس أمرا عارضا أو جديدا في التاريخ، إنه جزء من التاريخ مرتبط بالعقائد والمصالح والمنافع. والحرب هي التجسيد الأظهر للعنف، والحرب والعنف قرينان للموت والدمار، وإذا زعمتَ أن الموت شكل من أشكال الوجود، فزعمك صحيح، وذلك حين نقرن الموت بالظفر والنصر.. بل وحتى بالهزيمة، فالمؤمن الذي يموت " مهزوما" أمام خصمه يحقق وجودا كاملا أمام موضوع وغاية إيمانه. المشكلة ليست هنا.. المشكلة تكمن في تبين الأسباب التي تبعث على العنف أو على الحرب، وفي النظر في طرائق محاصرة هذه الأسباب وتجاوزها وفقا لمنظومة في العدالة، في الغالب الأعم. وفيما يتعلق بأحوال العنف التي عرفتها بعض البلدان العربية في النصف الثاني من القرن العشرين ومطالع القرن الجديد، يتعين علينا لا شجب العنف ومحاصرته فقط- إذ هذا أمر لا مفر منه- ولكن أيضا البحث عن الأسباب التي تدعو إلى العنف واستئصال هذه الأسباب. ليس علينا أن نختار الطريقة " الأميركية" البرجماتية في علاج هذه الآفة، بأن نكتفي بإعلان "الحرب على العنف " وما يسمى بالإرهاب، وإنما علينا أيضا أن نتفحص عوامله ودواعيه، وأن نتوخى العدل في قتاله، بحيث لا نقاتله في أرض وندعه يستفحل ويجور في أرض أخرى.


* في غمرة ذلك كله أين النخب الثقافية العربية،أم أنها استقالت من دورها وآثرت الصمت على كل ما يجري من تدمير للذات الجماعية ومصادرة أبسط حقوقها وامتيازاتها. هل يعيش العرب عصر الظلام في شتى وجوهه؟
- في تعميم دعوى " استقالة المثقفين " إسراف وبعد عن الإنصاف. لا شك في أن عددا غير قليل منهم قد انسحب وآثر الصمت والسكينة، لكن كثيرين منهم ظلوا أوفياء لمبادئهم. ومع ذلك فإن علينا أن نلاحظ أن الطرائق القديمة في التعبير وفي الفعل لم تعد فاعلة ومؤثرة. فبين سبيل الاحتجاج والعصيان والثورة، وبين سبيل الإقناع والنقد والتداول والضغط السلمي فروق بيّنة.
ولأسباب عديدة لم يعد من اليسير الجنوح إلى السبيل الأولى، مثلما أنه ليس من اليسير أن يتحول المناضل القديم إلى الطريق الحديث،فترتب على ذلك اختيار الصمت والشجب المرير. ومن وجه آخر علينا أن نتخلى عن الاعتقاد بأن القضية هي قضية المثقفين فحسب، إذ إن قوى جديدة صاعدة أصبحت معنية بالمسألة الاجتماعية والسياسية هي قوى (المجتمع المدني) التي يتعاظم دورها وأهميتها، وهي التي يتوقع أن تقود مبادرات الإصلاح والتغيير في العالم العربي في المستقبل. وهذا بالطبع لا يعني انتهاء دور المثقف والمفكر. أما أن يكون العرب قد دخلوا في "عصر الظلام" فأمر يستلزم النظر والتأمل. ولعل الأصح أن يقال إنهم دخلوا في أجواء العاصفة والخطر والمجهول، وأن التفكير في مستقبل العالم العربي ينبغي أن يكون جديا وحقيقيا ومسؤولا، ولا يجوز النظر إلى هذه المسألة بخفة واستهتار.

يتبع