البحث عن الكمال من خلال التخفي

حاورهد. إسماعيل نوري الربيعي : تلوذ بصبرها علك تجد الشفاعة فيها، ترنو إلى هناك بعين ملؤها التأسي على أزمنة وأمكنة غادرتك هي وماعاد من السهل عليك اللحاق بها. من يلهث كثيرا يموت أخيرا، وهذا هو تحديدا مصير الفقراء والمفلسين و(( الخوش ولد)). في زمن الشوق والأنين وغياب الثوابت، يتبدى سديم الكلمات ليعلن عن هذا الإكتتضاض من المواقف والتعليقات والكلمات، حيث البوح الذي تراه يتبدى في أشد مظاهره تناقضا وتداخلا، بين صادق وحار وسخين يلامس الروح، وطاريء لايملك سوى الزيف متكأً من أجل الإنبثاث على صفحات المنابر والمواقع التي انتشرت بسعار ملفت، حتى بات من العسير التمييز بين الغث والسمين.في جدلية الروح والجسد تلك التي ترصدها أبو خالد، ذات كاسيت أم ذات مساء، تكون نقطة البدء بحثا عن هذا الكائن الذي إنتقى لنفسه إسما (( عادل كمال)) وحدد لنفسه موقعا في المكان، حيث الشوارع الخلفية، بحثا عن المهمش والمغيب والمرَحل والمضيع من عمر المكان والزمان. من الناصرية تحديدا يبث هذا الكمال، نجواه وشكاياته ولحظات وجوده وابتهالاته، تلك التي تطيش في لحظة البوح والشروع بالكتابة، حتى ليكون السؤال عن الجدوى الكامنة من هذا البوح، في زمن غابت فيه الجدوى، وانحسرت المعاني حتى صار اللثام والقناع والتخفي واللوذ بالأسماء المنتحلة طريقا إلى الفضفضة والإندراج في التداعيات الحرة، بعد أن تصادمت الحرية بالمطلقات والتحصينات والتأويلات والتفسيرات.
عادل كمال... كائن يسعى إلى ردم هوة اليأس، بلثام من الحب والأنسنة والبوح الشفيف، لثام غير هذا الذي يطالعنا على شاشات القتل والظلام الفضائية.إنه الإنسان في زمان عزت فيه الإنسانية، وهو المثقف الذي وجد نفسه في سعار الإضطراب ولوثة الإلغاء، وهاهو يصيح مستغيثا بالفرات مفترشا تراب الفجيعة الذي ما انفك يغطي ماتبقى من أرصفة شارع الحبوبي،يستدعي صهيل الروح لينشج مع داخل حسن(( يمة يايمة، عينك علينه))،في زمن تعز قياس درجة الكراهية فيه. لاينفك أن يتوارى في الغبار وقلعة الأصدقاء التي شادها في مدينته الناصرية، يستحم بالمحبة التي يؤصل لها الناس الطيبون الذين راحوا يعيشون عصر المفاجاءات والأعاجيب والحوسمة والقتل المجاني.رجل يعمل بالحكمة السائرة (( سوي زين وذب بالشط))، وعلى هذا تراه عفيفا عن الإعلان والإشهار، مؤثرا قول الحقيقة بستار ملؤه المحبة والإنتماء الأصيل.

* لا تنفك تذّكر بالمقنع الكندي، وضاح اليمن، جابر عثرات الكرام، أين صوت المثقف في لوثة الإحتراب والتقتيل والفوضى؟

- قبل فترة طويلة طلبب منى احد المثقفين المقيمين في الخارج، ان انوب عنه في قراءة مداخلة تخص وضعا عراقيا خطيرا. وبقدر ما ابديت استعدادي لذلك، بقدر ما ابديت استغرابي من كونه قد أخذ قضية الاغتيالات في العراق مأخذ جد، لأنها كانت الحائل دون مشاركته شخصيا. لقد كنت اعتقد بطيبة الحالم - وبساطة المسالم والبريء - ان الاغتيالات ان هي الا " تصفيات " لحسابات قديمة، بين وجوه وكيانات متعددة تؤلف جزءا هاما المشهد الحالي.
بعد ثلاثة اشهرظهرت على شاشة احد القنوات الفضائية، في حوار عن احد الازمات العاصفة،، كان ذلك هو الظهور العلني الاول والاخير. وعلى طريقتي في التقارير تكلمت على المكشوف. بعد نهاية التسجيل قال لي المرحوم الدكتور مازن السامرائي، وهو باحث اجتماعي، وكان احد المشاركين في ذلك الحوار، قال: " انته مقتول ياولد " ضحكت، وقلت له: " اذا كان ثمة مقتول، فهو انت " فقال مازحا: " عود ليش مو انته؟"
فقلت له صادقا: " اكو معتقد شعبي يكول الجنى عنده سبعة ارواح، وانا واحد من الجن، فاعتني بنفسك يادكتور، مع السلامة " بعد شهر من الحوار ذاك، قتل الدكتور السامرائي امام باب منزله، لانه لم يكف بعد ذلك، عن الظهور امام العدسات ويتكلم على المكشوف. ونجوت انا، بعد ان فقدت روحا من ارواحي السبعة تلك.
من الوعي الحاصل بين الحادثتين اعلاه صار اللثام والقناع، ومن ثم التخفي، اكثر جدوى، من اجل مواصلة العيش - الكتابة. فأنت لاتعرف شيئا اخر يمكنك ان تكون فيه فاعلا ومؤثرا غير فعل الكتابة في زمن السكوت فيه يعني الموت، بالنسبة لك. صار لازما ان تغير مكانك واصدقائك، وتقترح اماكن اخرى لسكناك، وان تتحمل مكابدات ذلك: انت المفلس المقهور، العاشق للجنيات،والشعر الشعبي، واغاني داخل حسن، وهدهدات الامهات حول: "الكاروك": "دلول يالولد يبني دلول " والخاسر منذ بدء التاريخ، الهامشي المقتول في كل الحروب، الذي يخلدون ذكراه بتمثال، يستكثره عليه: " ابن العوجة " فيهدمه ليشيد غيره. اوانت "...... " الذي لم يربح حريته، فدخل مدينته، ولم يعرفها ولم تعرفه: كل شىء تغير. البعض يجني حصاد الحواسم والمنفست وريع " التحرير "، وانت تشيّع كل يوم الحب والامل والحلم: الشهداء الذين لم يلفهم احد بالعلم العراقي. تركوه يرفرف ببلادة فوق البنايات، وامام مقرات الاحزاب، في بلاد مذبوحة من الوريد الى الوريد.

قلت: "....... " حزنا وليكتب امثالي بين الحاصرتين ما يكتبوا، لأن العمل في المعارضة، حولك الى موظف تتقاضى راتبا من، هذا الحزب او ذاك، سلبك حرية التعبير، من خلال الانتظام مرة اخرى في " خرز " مسبحة القائد المستبقلي المعمم او القومي او العربي او...، فصار كل ما تقوله موافقا لرؤية لاتمثلك، بل تمثل حالمين بـ " يوتوبيا " مبهمة، ان عارضتها فمصيرك التهميش او الالغاء، وان وافقتها ضمنت حياة خضراء كالدولارات، فاستمرأت اللعبة، وبدأت تبحث عن الحزب الذي يدفع اكثر، الواجهة " الادسم " مقابل الواجهة " الاثوب ": التاريخ نفسه يتكرر، ولافرق هنا الا بين الاسماء والعناوين التي تبرقع بناية الحزب هذا او الحزب ذاك، عدا بعض الاحزاب الشريفة طبعا.
ومن اقسى ما يكون ان تكتب في بلاد الاخرين باسمك الصريح، وتكتب في بلادك باسم مستعار: تدخل امكنتك الحميمة، فلا تجد اغنياتك التي كتبتها على الحيطان، او اسماء صديقاتك اللواتي كتبت اسمائهن على الاشجار: لااشجار، لامصطبة، ولااغنية. ينظر الاخرون الى جيوبك، فأنت عائد مع الاميركان، فاذن انت عائد بلاشك بالمال: لقد تغير الحال، وانقلبت الموازين: تقول لهم لست الا شاعرا، فيعتبروك عبيطا، او في افضل الاحوال شاعرا مجنونا، لايكف عن لجم لسانه. هكذا يصير الشعر عارا، عندما لايدر عليك الدراهم: لكن هل هذا اكتشاف متأخر منك، ام انك طوال حياتك كنت ساذجا وبسيطا؟! ينفضّون عنك واحدا تلو الاخر، واذا ما عطفوا عليك تكافلوا معك بماسرقوه من الغنائم، فأي كائن كنت واي كان يريدونك ان تكون؟ معذرة لهذا التداعي، فهو ضروري لمعرفة " غمزات " عادل كمال بين السطور، في تقاريره واغانيه: كانت بغداد بين ايديهم غنيمة، وهي بين عينيك دمعة، لن تتوقف، ستبقى سائلة الى ان تموت...
وزاد الطين بلة ان " مقاولة " تحرير العراق، تضمنت فقرة المحاصصة بين الاحزاب، التي اقتطعت المناصب والوزارات بعقلية الغازي، فكأن العراق فريسة يتقاسمها الفرسان، وهذا كلام قد يبدو خارج الحوار، لكنه ضروري، لان عقلية الغازي هذه لابد ان تجد لها من يبرقع اعلانها بشعارات وخطابات، فاستقطبت جمهورا من المثقفين، كان البارحة قوميا ينافح عن البعث والعروبة، وهو اليوم ينافح عن الديمقراطية والمجتمع المدنى. اقول: جمهورا من المثقفين، لان هناك جمهورا اخر ترفع ان يغمس لقمته بماء الطاعة الجديد.
هناك نكتة بائسة، هي غصة في حلقي من زمان طويل: كان اعلام المعارضة، من اجل التعبئة، يتسقط اخبار النظام الفاشي، ويصنع منها موادا تدعم قضيته العادلة، وللاسف كان الانشاء السياسي مسيطرا، خاصة فيما يخص الوضع التقافي، اذ ان المعارضة لم تدرك، او تدرك ولاتريد ان تدرك - حلوة هاي مو !!- ان المؤسسة البعثية لها سننها واعرافها وتقاليدها في الكتابة والنشر والمكافاة والتغييب و"التنجيم"، ولها قوانينها في المكارم ومراسمها في التعذيب و"التأديب" والترغيب والترهيب. ان المعارضة لم تفرق بين "الاعتقال" وبين التاديب، خاصة وان "التأديب " امتياز خاص بالمثقف البعثي المنضوي تحت راية اولاد العوجة من صحفيين وفنانين ومن..، لم تفرق ابدا، فيتساوى - مثلا- خبر "اعتقال" المناضل بخبر " تاديب " شاعر بعثي، يغيب الاول في المجهول، ويظهر الثاني اقرع الراس بعد ايام، او اسابيع، او شهر، ليجلس على كرسيه في الوزارة. هذا الشاعر البعثي، بعد سقوط نظامه، تحول امامنا الى بطل لماكتبناه عنه ايام المعارضة، من ان ما حصل له هو قمع ثقافي.. الخ، والمناضل المسكين لبث مكانه لايقوىعلى الحراك، او حتى على تحريك شفاهه. هنا، كم يبدو القناع عادلا، حين تدير ظهرك، متوجها الى الفن، معتقدا انه من الوسائل الناجعة، لتصليح ما افسده الدهر؟!

ربما اعتقدت ان الفرد العراقي فقد قدرته على العمل الجماعي، نتيجة عهود كثيرة من الاستبداد والعبودية.لايوجد عندنا عقل " عملي " جماعي، هنا الـ " عند " ليست التملك او الامتلاك، انما الحضور، على خلاف العقل النظري، الذي يظهر واضحا في مختلف اشكال الخطاب السائد في وسائل الاعلام.
اذن لم يعد ممكنا، وهذا الكلام عن اعمال متفرقة هنا وهناك، قد تتفوق على عملي، الا ان يتحمل المرء مكابدات مشروعه الخاص ويمضي، قدر ما امكن، فاليد لوحدها قد تصفق، فهذا عصر اختلال الموازين، الذي يجب على المثقف ان يستغل ثغراته الكثيرة، لكنني اقول: ان تبني ستراتيجة الفضح يجب ان تقوم على منهج، جمالي او فكري او اجتماعي، والا فسوف ينتهي الامر بعمل الكاتب الى ان يصبح جزءا من ادب او اعلام الفضيحة الرخيصة، وهو للاسف كالرصاص الخلب، لايحدث الا صوتا، ثم ينتهي الى المهملات، لايصلح حتى للاعادة.


* الوقوف على التفاصيل، تلك التي تترع منها بهاجس المنكب على الكشف والبوح، هل هو الزهد بالشهرة، أم هي المحاولة نحو تجسيد مفهوم المثقف العضوي الساعي نحو التفاعل الصميم مع الواقع؟

- في العراق اليوم كل شئ يصلح للكتابة، ان امتلكت الادوات الفنية المناسبة ستنجح بلاشك. وستاتيك الشهرة والمال وكل ما تحلم به. الكتابة اليوم - في اكثر من 80
صحيفة - تعد مصدرا جيدا للرزق وللشهرة، عدا الفعاليات الاعلامية الاخرى: وكالات انباء، فضائيات، منابر حزبية: شئ لم يكن مالوفا في العراق، جديد كل الجدة على حياتنا، لكننا مللناه بسرعة: على فكرة العراقي جدي، لكن ملول. اقول: ان تختار الشوارع الخلفية حيزا للكتابة، والعيش والحركة والحب والموت والدأب اليومي، والركض وراء لقمة العيش، يعني انك لاتكترث بأشياء كثيرة، توفرها لك الواجهات، ومن بينها الشهرة.
سمعت كازنتزاكي يقول: " اريد ان امشي على تراب الوطن، لكي استمد منه القوة " فاتبعت قوله، ومشيت على تراب " الناصرية " لانها وطني الحقيقي، فاعطتني القوة في البيت الذي ترعرت فيه، وكبرت بين جدرانه، حتى شعرت بالانتشاء: ان رحلتي كلها كانت عبثا، بين البلدان والمدن، فما خرجت باحثا عنه هناك تركته في الناصرية يوم خرجت، هنا هنا العالم الحقيقي، عالمي المصاب بالحنين والشوق والمحبة، قل لي الان: هل بامكان الشهرة ان تمنحني كل هذا الدفق من الحنان؟
لم افكر بالشهرة قط. الشهرة مسألة بعدية،الحظوة الاولى للفن، الذي اذا اكتشفك اهلا له اعطاك: تبتل وعرفان وتصوف من نوع اخر، قوامه الخلق والابتكار. الفن، مهما كانت موهبتك، لايعطيك الا وانت قد القيت رايتك وجيوشك في اسر اقفاصه، والا فما حصلت عليه هو خدعة، ستعطيك شهرة لمدة ما، هي ثوان في الحسابات الازلية. وانا قد وعيت هذا جيدا، فزهدت أملا في عطاياه، ولازلت انتظر: رميت صنارة وعيي في هذا اللامرئي لشدة حضوره: الطريق المنسي من الطفولة، المدرسة الاولى، والاغنية الفاتنة القلب: " يامجورة وين تردين احاه، هذا نزلنه: كل احنه نمشي اوياح احاه ونعوف اهلنه " لقد امنت ان الفن بامكانه ان يخلق ميثيولوجيا خاصة، مؤثرة في المجتمع لو احسن الفنان استخدامها، باتجاه يضمن تغيير العالم نحو الاحسن والافضل، وهو ما احاول تجسيده بقبولي العالم كماهو، وبتفاعلي معه صوب انسانية تضم بين ذراعيها الجميع.


* الحبوبي، المكير، داخل حسن، زاير منخي، حجية دوخة، الأبطال والمهمشون، كلكامش وشخير، تلك الخلطة السحرية، التي يجيد تركيبها عادل كمال.
- انا ابن محلة " باب الشطرة "، واذا كان الانسان ابن بيئته، فبيئة باب الشطرة حينذاك هي هذه الخلطة السحرية التي تحدثت عنها، حيث الابطال والهامشيون يجلسون معا على تخوت مقهى ابي، واقوم بخدمتهم بنفسي، وهو موضوع ربما اسهبت في عرضه على موقع الناصرية نت، لكني اريد ان اتوقف عن طريقة تقديمي هذه الخلطة، فليس كافيا ان تكون المادة، اي مادة، مطروحة امامك.
ان القضية تحتاج الى توفر تلك "اللحظة المسحورة" - كما اسمتها فرجيينا وولف- عندما يقود التراكم المعرفي من جانب، وعزلة الفنان من جانب اخر، عندما يقودان معا مجموعة من الاحاسيس والمشاعر الى المنطقة المهمومة في الذهن، لتبدا العين الباطنة، التي من المفترض ان الفنان قد امتلكها، بالتقاط العالم وتفسيره وتجسيمه في قالب فني معين. هذا القالب الفني - التقارير- كان يعتمد على افكار سينمائية ومسرحية و افكار ادبية . وببساطة واختصار: اذا كانت السينما ليست رسما للمرئي، بقدر ما هي رسم لما ورائه، فهي تدخل بنا الى البساطة السرية للخليقة - رينيه شوب- فان " الشوارع الخلفية " هي اللامرئي، قياسا الى الواجهات المرئية. هذا التشابه العميق بين السينما كوسيلة و تقارير "الدرابين المنسية" كوسيلة، للدخول نحو عالم اللامرئيات، هو الذي قادني الى استخدام "الخلطة السحرية" كمادة وموضوع في ان واحد، اي كوسيلة وغاية في ان واحد. كان الاخ المخرج السينمائي سعد سلمان، قد انتبه الى اوجه التشابه بين السينما وبين تقارير عادل كمال، وقد نبهني الى الحبكة السينمائية الموجودة فيها، واخبرني كذلك ان تقرير "بحثا عن كلبتنا نوسا" يشبه فيلما فرنسيا، لكن الفرق ان بطل الفلم الفرنسي يتجول في الشوارع الخلفية لمدينة باريس، بحثا عن قطته الضائعة، وهو على دراجة هوائية، فيما بطل تقريري يبحث عن كلبته الضائعة في كركوك. هناك عامل مهم رسخ هذه الخلطة في ذهني، وهي ان الناصرية، فيما مضى، كانت شارعا خلفيا واحدا، اي ان مثقفها ومتعلمها واميها يسكنون حارة واحدة. لم يكن هناك حيا سكنيا مستقلا، وحين بدأت الاحياء السكنية الجديدة تظهر- كان حي المعلمين اول حي - لم يتفاعل احد مع فكرة السكن فيه، لان الجميع كان يعتقد ان هذا المكان هو اقصاء ونفي عن روح المدينة.


* لماذا عادل كمال، تحديدا؟هل هي المصادفة التي ساهمت في ترسيم الإسم أم هو الإنتقاء الواعي؟

- الاسم "عادل كمال" اختاره لي مفكر عراقي. كان الامر مقصودا ومفهوما. ان طريق الوصول الى العدل والكمال صعب، وصاحبي تركني اعالج المسألة وحدي: زادي الغناء، كما تقول العرب، لمن يسير في الصحراء وحيدا، وانا اغني: كل تقرير هو اغنية، اغنية بسيطة وعميقة تدعو الى بعث الحياة في الحب والامل والحلم، شهداؤنا الثلاثة، الذين تركنا جثثهم تتعفن في القصائد والخطب والشعارات، حين اطلقنا النار على بعضنا البعض، باسم "يوتوبيا" عراق المستقبل.، اكرر هذا الكلام، وساكرره واكرره..
لم يلتقط مغزى "عادل" الا القلة، بل ان بعض المثقفين اعتبره قناعا لستر العورة، ولا اعرف اي عورة يمكن ان يسترها رجل يكتب من بين الخراب والمزابل وجثث القتلى، بلغة الكائن العائد الى وطنه بعد "تحريره" فلا يجد حميمياته: مكتبته او اصدقائه او اغنياته. لااعرف اي عورة استر، والعراق كله قد تحول الى عورة؟ ولكن اليس من حق الهامشيين ان يرتدوا اقنعتهم، اسوة بالابطال، خصوصا في هذه المرحلة؟ اسئلة من فضلك: الم ينظر المثقف، المتبني فكرة الادب الرفيع وثقافات الصالونات، الم ينظر الينا، نحن المعدان، المجبولين على حب العابر من الاشياء، بوصفنا كائنات امية، ثانوية، ومتخلفة، مادمنا نلهج بأغاني المنكوب واشعارمجيد جاسم الخيون وكاظم الركابي او الحاج زاير او ابومعيشي او حضيري ابو عزيز؟ او لم يكن الانتساب الى هؤلاء يعني العار، في ذهنية المثقف المنافح، بكل عضلات حنجرته، عن "ثقافة" معيارها اللامعنى، فيما بلاده تموت كل يوم، والدم يسيل في الشوارع؟ كم يبدو عادلا اذن ان ترتدي القناع، بعدما ارتدى ناقصو الموهبة وجهك الحقيقي، واتخذوه قناعا، لتكون المفسد الاول لحفل الاقنعة الجديد، بوصفك مهموما بالفن والمجتمع كغاية، لا "مهتما " بالفن والمجتمع بوصفهما وسيلة؟على قدر ما في هذا التساؤلات من مرارة، على قدر مافيها من كبرياء، فمثقف الشوارع الخلفية يتعامل مع "المتحضرين" بتحضر، لا يستخدم الا لغة الصمت، او ان اضطر غنى: " ياليل صدك ما اطخلك راس واشكيلك حزن "

* المثقف والمجتمع، ماهي القاعدة التي يمكن من خلالها الإحتكام نحو تثبيت معالم توزعات العلاقة القائمة بينهما، لا سيما في ظل غياب مفردات العلاقة التقليدية، والقائمة بين المثقف والسلطة، أو لنقل عن أي سلطة نبحث؟ هذا بحساب الوقوف عند معطى السلطة بمفهومها الإجتماعي.

-من اجل ترسيم علاقة بين المثقف والمجتمع يجب ان تحل اشكالية هامة: هل نحن شعب ينحدر من امم متعددة: عربية، كردية، تركمانية..وباقي المكونات، وبالتالي نحن امة لها خصائص ثقافية، ام غير ذلك؟ فأن نقول: المثقف العراقي، يعني ان هناك ثقافة عراقية، والتقافة العراقية كما درج في توصيفها سابقا ولاحقا: ثقافة عربية، فمامحل الثقاقات " القومية " الاخرى من الثقافة العربية في العراق؟ هذه اشكالية خطرة، يجب ان تحل، لانها تحمل معها معالم ترسيم العلاقة بين المثقف والسلطة، والمثقف والمجتمع، في العراق خصوصا.
هناك مسألة هامة في الطريق الى هذه الاشكالية: نحن بحاجة الى مقدمة في " الثقافة في العراق " او في " الثقافة العراقية " وفق منهج تكويني شامل يراعي جميع الروافد المكونة لنهرا لثقافة في العراق، بما فيها تلك الروافد المغيبة كالادبية الشيعية مثلا، اذ بموازاة الادبية الصوفية لدى السنة توجد ايضا ادبية عرفانية، والفارق ليس باللفظي ( عرفان - تصوف ) انما جوهري يميز النصوص الابداعي لكلا المنظومتين عن بعضهما البعض، ناهيك عن نقاط التجاذب والتنافر بين البنى الفكرية المكونة لهما كل على حدة.
هذا المثل ينطبق على جوانب اساسية مغيبة عن الثقافة العراقية في الادب والفن الكردي والتركماني وسواهما. ناهيك عن التغييب الواضح للفن والادب الشعبيين عند كافة القوميات والطوائف.وكما تلاحظ فان من الصعب ان ترسيم علاقة، مهما كان نوعها، بين طرفين هنا التباس في هويتهما. ثمة ملاحظة مهمة ايضا في هذا السياق، هي ان المثقف العراقي لم يكن يكتسب وجوده وكينونيته الا من خلال الايديولوجيا، اي ان المثقف كان، ولايزال قسم من المثقفين يعتقد، ان تزكيته كمثقف، حسب توصيفات غامضة طبعا، لاتأتي الا من خلال الانتماء الى حزب، يعني الا ان يكون في خدمة الايديولوجيا، وهو وهم يحتاج المثقف الى وقت، ربما طويل او قصير،ليصحو منه، وفق معطيات الواقع الثقافي الجديد، الذي سيظل مجهولا، وينبيء بالاخطار، رغم تفاؤلات محبي الانشاء السياسي ! دائما اقول لأصحابي: ان كان بعض الاصدقاء المنفيين والمهاجرين قد عادوا باشياء، فأنا عدت بأشياء اخرى. الحكمة والمال لايجتمعان، فكلاهما ثروة، وانا حضيت بتجربة لايمكن ان احض بها لو كنت في مكان اخر، تلك التجربة هي كل ثروتي.

لئلا اطيل، اقول باختصار: جزء هام من التجربة حضيت به وانا اعمل محققا للتراث: مهنة لاتخطر ببالي، ومقدمات حياتي لاتؤدي الى مثل هذه النتيجة. عملت خمس سنوات على عدة مخططوطات، ولي كتابان، واحد باسمي واخر مع اخرين، مع رسائل صغيرة. متعة التحقيق انك تعمل على مخطوط من عشر صفحات مثلا، لكن من اجل انجازه، ستجد انك قرأت مئات المصادر. هذه القراءات في مصادر التراث عرفتني على شكل - لااقول: جنس - من الكتابة يطلقون عليه اسم " التقرير ". والتقرير يأتي عادة بعد ان يتاقش الشارح - اي المؤلف - اي فكرة تعرض له او يتعرض لها، فـ " يقرر " وجهة نظره. وهناك تفاصيل اخرى حول هذا النوع من الكتابة، وهي تفاصيل الميت بها لوحدي، اذ لم اعثر على اي مصدر حديث او قديم يتصدى له. اجمل ما في " التقرير " انه احيانا يحتوي على تعليقات متنوعة، حول بيت من الشعر او اية قرانية او حكمة او خبر او حادثة.. او، في نسيج كتابي جديد، احيانا يطلق عليه "التحرير" واشهر هذه التحريرات: " تحرير اقليدس " للطوسي، الذي ذكره بروكلمان في كتابه عن الادب العربي. حسنا هذه هي التجربة التي انطلقت منها كتابة "تقرير" هو عبارة عن تلاقي عدة اصوات، باعتبارها نصوص، ازاء حدث معين او ظاهرة معينة: وسائل الاعلام المرئية والمسموعة من جانب، وخطب المعممين والفلاسفة والساسة والشعراء واللطميات والزنجيل من جانب اخر، والاصداء في الشوارع الخلفية من جانب ثالث: كون مكتظ بالاصوات والاراء، لايمكن ان يلم به الا تقرير من النوع الذي اتكلم عنه، وسأضرب مثلا: في خضم القتال ودوي المعارك بين جيش المهدي والقوات الايطالية، بين مؤيد ورافض، سرعان ما يطلع الراي الذي ليس علاقة بالرفض او القبول: كون مرمي لوحده وله قانونه الخاص الغير مفهوم لكن الموجود: يرتفع فجأة، من بيت في زقاق صوت "مسجل" وهو يصدح: "ظنيت ما احبك؟ لا والنبي لالالا"، فيأنس به الغادي والرائح: يبدو المشهد امامك، ان كنت فنانا، بحاجة الى "تلبية" فنية خاصة لتجسيمه، لايستوعبها بتقديري الا هذا النسيج من الكتابة، والا فهناك وسائل واساليب اخرى، لكنها لاتعطيك نفس الحرارة التي يبعثها تقرير عادل كمال.
ولذلك كنت الاقي - ولازلت - صعوبة في كتابة كل تقرير جديد، ذلك انه لابد - في كل مرة - من اطار فني، اسلوب، موضوع، يتناسب مع نص - نصوص الشوارع الخلفية المفتوحة على احتمالات لانهائية، فكل شىء في الشوارع الخلفية او في الواجهات يمكن ان يكون موضوعا صحفيااو ادبيا، لكن ليس كل شئ يصلح لان يكون تقريرا، الا في حالة ان تكون ملما بدرس حياة باكملها، فالشوارع الخلفية لطرق تهريب الاسلحة ودخول الارهابيين، على اهميتها كنص، الا انه غير مرئي او مسموع بالنسبة لي، وحتى لو توفر المصدر الامين لهذا النص، فلن اجازف بكتابة تقرير فاقد حرارة تجربتي، وبالتالي فاقد للحرارة التي نوهت عنها في مداخلتك.
حسنا هذا - ببساطة - ما عنيته في التقرير، من اول سطر كتبته، ولا ازعم اني نجحت تماما في تجسيده، ولا اريد - بالمناسبة - ان ابشر به: انها تجربتي وانا كفيل بالاخلاص لها، ومن ضمن اخلاصي ان ابتكر الصيغ الفنية للتعبير عنها، ولو لم يأت ما يخص " التقرير " في سؤالك، لبقي الامر بيني وبين نفسي، فأنا اكثر الناس ابتعادا عن النظريات او التنظير، في الحقل الادبي خاصة، وكل قناعاتي التي رسيت عليها جاءت من تجربتي، لامن الاخر، اي اخر. ربما من اجل ذلك اخترت الشوارع الخلفية، لانني سوف ازيد الواجهات فسادا، لو نثرت عليها غبار تجربتي، او لو دخلت اليه احاملا باقة الحندقوق - استعارة من الرائع حسب الشيخ جعفر. هكذا اظن اننى ضربت اكثر من عصفور بحجر حين كتبت " تقاريري "، عندما حولت الدلالة في كلمة تقرير من حقلها الاجتماعي المعروف الى حقل معرفي او ثقافي اخر، وهو الحقل الذي يناسبها، خاصة بعد طوينا عصرا، وبدأنا عصرا اخر، اتمنى ان نكون جديرين بمحنته.
ان تقارير الشوارع الخلفية، محاولة لترسيم الواقع كما هو على الارض، وهذا الترسيم يجب ان يبدأ، من وجهة نظري، بكشط الطلاء – دموع الابرياء - عن جدران الواجهات، لتبين الحسرات والشهقات التي اطلقها الهامشيون، حين تحولت جثثهم الى حجر اساس، ارتفعت فوقه جدران المعابد والزقورات والقلاع والجسور والقصور. لاازعم اني نجحت، لكنى حاولت وساستمر، اللهم اشهد