حوار مع الأكاديمي اللبناني سماحة الخوري (1/3)

حاوره حيان نيوف: زعمت أبحاث أكاديمية، نشرت في بلدان غربية، أن العالم الإسلامي يبحث دوما منذ زمن الفتوحات الإسلامية عن " طرف نقيض ومضاد " له، فمنذ عقود كان ينظر إلى الإمبراطورية السوفيتية على أنها " شيطان شيوعي كافر " والآن أصبح هذا الشيطان " رأسماليا متوحشا وكافرا " أي الولايات المتحدة و أوروبة ؛ فهل فعلا العالم الإسلامي هو الذي سعى إلى خلق خصومه أم أن الثقافات الأخرى فشلت في تقبل الثقافة الإسلامية؟
وخرجت من رماد هذه الأبحاث المشتعلة نظرية جديدة هي نظرية " صدام الحضارات " للمفكر الأميركي صموئيل هانتغتون، ومن بين الآراء التي خرجت من فرنسا مرحبة بما طرحه، ما اعتبره فرانسوا فوركيه- أستاذ الاقتصاد في جامعة السوربون- أن صموئيل كان على صواب عندما تحدث عن صدام الحضارات لأن تفجيرات نيويورك وواشنطن كانت موجهة ضد الحضارة الغربية. إلى أي حد تنتشر آراء مشابهة لهذا الرأي في أوساط المفكرين والمثقفين الفرنسيين، وهل يوجد من يعارضها؟
وكانت حكاية الإستشراق بلون وبريق آخر ؛ حيث رآها البعض مؤامرة فيما اتجه آخرون في منحى يعتبر الإستشراق نعمة لا نقمة ولكن حسب أغراضه. من المشروعات الاستشراقية في العالم إنشاء مدرسة اللغات الشرقية الحية في فرنسا برئاسة المستشرق الفرنسي (سلفستر دي ساسي) التي كانت تعد قبلة المستشرقين الأوروبيين: أنستطيع القول أن الإستشراق قد يكون فرنسيا وألمانيا أو بريطانيا أي لا يوجد استشراق واحد متكامل وإنما يختلف من دولة غربية لأخرى وحسب أهواء وميول المستشرقين؟
ومعلوم أن المفكر الراحل إدوارد سعيد اعتبر أن المستشرقين قد بنوا خطابهم على أساس افتراض هو وجود اختلاف جذري وتناقض حتمي بين الشرق والغرب، الشرق المتخلف المظلم التقليدي، والغرب المتقدم المستنير الحديث. إذا اعتمدنا على وصف سعيد للمستشرقين وأخذنا به، أيمكن القول أن الإستشراق يوسّع رقعة الخلاف بين الغرب والعالم الإسلامي أكثر من يقرّب بين الجانبين؟ مقابل سعي المستشرقين لدراسة العالم الإسلامي، لماذا لم تتوفر حركة إسلامية مقابلة و مكافئة حاولت دراسة الغرب بنفس القدر؟
سماحة الخوري، أكاديمي لبناني بارز، ومن الوجوه الثقافية العربية المعروفة في فرنسا، يجيب على هذه التساؤلات في حوار خاص أجرته معه " إيلاف ".
ولد البروفسور سماحة الخوري في الطيبة بلبنان عام 1948، وهو بروفسور في جامعة بوردو الثالثة ورئيس قسم الدراسات العليا ( الدكتوراه ) ومدير مركز الدراسات العربية والإسلامية في جامعة بوردو. حاصل على شهادة دكتوراه حلقة ثالثة في علم الاجتماع ( جامعة بوردو الثانية ) ودكتوراه دولة في علم الاجتماع السياسي ( جامعة تولوز ). أهم الأبحاث ومنشورات البروفسور الخوري : فلسطين – إسرائيل مقاربات تاريخية سياسية كتاب صدر عام 2003 باللغة الفرنسية، فلسطين الأرض المشتهاة كتاب صدر عام 1992 في بيروت مطبعة الرعيدي، دراسة جيوبوليتيكة عن فلسطين 1985، بحث عن الإسلام والعلمانية والحداثة منشور في مجلة علاقات عام 2002، ومجموعة أبحاث عن الإسلام والعلمنة وعن الصراع العربي الإسرائيلي نشرت في مجلات علمية أو كتب مشتركة ouvrages collectives .

*صعد في بداية التسعينات نجم مصطلح سياسي جديد هو " صراع الحضارات " والذي تشرّب ونما فكريا على يد العديد من المنظرين في الولايات المتحدة : هل ثمة مجال للاعتقاد بأن الغرب شكّل حضارة خاصة به والعالم الإسلامي والعربي يعيشان في حضارة أخرى وبالتالي انهار مفهوم " الحضارة الإنسانية الواحدة "؟
- ليس من قبيل الصدفة أن تنشأ مقولة " صدام الحضارات " في بداية التسعينات على يد بعض المنظرين في الولايات المتحدة مثل صموئيل هانتغتون Samuel Huntington وبرنار لويس Bernard Lewis . فبداية التسعينات شهدت نهاية الاتحاد السوفيتي وإلغاء الضوابط والمرجعيات الأمنية وتفرد الولايات المتحدة بصنع النظام العالمي الجديد القائم على العولمة حيث يزداد الأقوياء قوة والضعفاء ضعفا، والأثرياء ثراء والمتخلفون تخلفا – هذه المتغيرات متداخلة أدت إلى اختزال المرجعيات الأمنية بمرجعية واحدة وحيدة تتحكم بمصائر الشعوب وتخضع المجتمعات لسلطان الرعب ومن ثم تحولها إلى مساحات مستباحة ومذلولة ومتفجرة لا خيارات أمامها إلا خيارات الطريق المسدودة واللجوء إلى العنف، وأحيانا العنف المفرط. فمنذ منتصف التسعينات بدأت مؤشرات هذا الانفجار تظهر من حين لآخر، وتصاعدت وتيرة الكلام عن الإرهاب وطرق مكافحته والتصدي له. فتكاثرت مراكز الأبحاث والدراسات المختصة بشؤون الحرب وتحديد خطوط النار. وفوق كل ذلك، تم سلفا تحديد الإرهابيين المحتملين وقام بعض مراكز القوى الدينية والسياسية في أميركا بحملة واسعة ضدهم على الصعيد الثقافي والديني. كما انبر بعض المنظمات والفرق الدينية المتغلغلة في المجتمع الأميركي، بمباركة من إسرائيل وبدعم من التيارات المبشرة بنهاية العالم، فوضعت لائحة اعتباطية بأسماء الدول المارقة وأكثريتها (خمس دول من أصل سبع) إسلامية أو عربية.


*وماذا عن نظرية "صدام الحضارات" الآن؟
- أعتقد أن نظرية "صدام الحضارات" رغم هشاشتها وعبثيتها، لا تزال تحظى بتأييد البعض ممن يشكلون فسيفساء المذاهب والفرق التوراتية الدينية في الولايات المتحدة الأميركية على اعتبار أنها مقولة توحي بأن العلة تكمن في الحضارة الإسلامية وبالتحديد في الدين الإسلامي. وبالعودة إلى سؤالك الأول، أظن أن الكلام عن حضارة إنسانية واحدة هو كلام بحاجة إلى مزيد من الدقة والتوضيح. بإمكاننا التحدث عن مدنية إنسانية واحدة، وأقصد بالمدنية ( la civilisation ) كل المظاهر التكنولوجية – الآلية – المادية وهي ذات طبيعة عقلية لا تتميز بصفة محلية ولا تحد من انتشارها الحواجز الجغرافية، السياسية والأيديولوجية. بينما من الصعب علينا التحدث عن حضارة ( culture ) إنسانية واحدة لأن الحضارة تتمايز عن المدنية في كونها تقوم على تأكيد الأصالة الروحية – الدينية – الفلسفية والعاطفية المخزونة والدفينة عند الفرد والمجتمع. بتعبير آخر، وكما يقول ماكيفر Maciver، الحضارة هي نحن أما المدنية فهي ما نستعمل. فالحضارة تتمثل في الفنون و الآداب والديانات والأخلاقيات وكل مظاهر التعبير عن الروح العميقة للفرد والمجتمع بينما المظاهر التكنولوجية والسياسية والاقتصادية والآلية هي المدنية كما يذهب إلى الاستنتاج الفرد فيبر Alfred Weber .


*ألم تتمكن العولمة من تحويل العالم إلى قرية واحدة؟
- قد يرد البعض علينا بالقول إن العولمة قضت على هذه المعطيات بإزالتها الحواجز السياسية والاقتصادية وتحويلها العالم إلى " قرية " ذات حضارة واحدة. الواقع أن العولمة لم ولن ترسم حضارة إنسانية واحدة. العولمة تستطيع فقط أن تؤمن للولايات المتحدة الأميركية الاستفراد بالمرجعية الأمنية وقيادتها والإمساك بالدول الصغيرة ورسم سياساتها الاقتصادية والثقافية وإذلالها. العولمة اختصرت عامل الزمن، ولم ولن تختزل الحضارات بحضارة واحدة من نسجها وحياكتها. فالآلة الحربية الاستعمارية كانت في الماضي، وحتى منتصف القرن العشرين، بحاجة إلى عدة سنوات و أحيانا إلى عقود من الزمن لإخضاع بعض الشعوب والدول، بينما اليوم بإمكان الآلة الحربية الأميركية أو الإسرائيلية تدمير وحرق هذه الدول خلال ساعات أو أيام معدودة. العولمة إذاً اختصرت عامل الزمن بتكنولوجياتها المتطورة وبرهنت عن خلل حضاري في استعمال هذه التكنولوجيا وإخضاع المجتمعات والشعوب لسلطان الرعب والقهر والإذلال. التطور الآلي التكنولوجي (مدنية) يستلزم تطورا في كيفية استعماله (حضارة) وإلا يتحول من حلم بالرفاهية إلى كابوس، من نعمة إلى لعنة. ففي خلال دقائق معدودة، كما يقول الباحث والمؤلف يوسف الأشقر، قد تستطيع عملية إرهابية يقوم بها مجموعة أفراد، تستعمل فيها أسلحة دمار شامل، وتقتل الألوف من الأبرياء في مدينة اميركية، فتهدد الأمن العالمي وتتطور إلى كارثة إنسانية شاملة. هكذا تتحول العولمة إلى " عولمة رعب "، كما حصل بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، حيث بدأت المخاوف من "صدام الحضارات" والتبشير بحروب من نمط جديد قائم على دوافع دينية غرائزية.


*هل يمكن مواجهة العولمة وهي على درجة كبيرة من القوة؟
- لا أحد يستطيع أن ينفي التعدد الحضاري أو يسعى لإلغائه، كما أنه ليس بمقدور أحد الوقوف بوجه العولمة التي تتمثل في " ضغط الزمان والمكان ". فالعولمة - إن أحسنت استخدام الوسائل والتكنولوجيات بطرق حضارية وبمنأى عن تحكم اللوبيات الدينية وعن العقل الإمبراطوري - كانت عولمة محمودة ينبغي عدم التصدي لها لا بل يجب دعمها والإقبال عليها لأنه من المفترض أن ينتج عنها تقارب حضاري ومساحات حضارية متناغمة متحاورة بعيدة عن التصادم، تؤمن بتعدد الألوان لا اللون الواحد. العولمة حتى إشعار آخر هي مشروع نظام عالمي سياسي – عسكري واقتصادي، و هي عولمة إمبريالية متنكرة لحضارات الشعوب جاءت من الماضي من زمن الإمبراطورية الرومانية. العولمة الراهنة بنظر الولايات المتحدة الأميركية تقوم على مبدأ القوة، ترفض الشراكة وحوار الحضارات، تقمع الآخرين، لا تقيم علاقات معهم إلا علاقات القوي مع الضعيف والغالب مع المغلوب. إنها عولمة إمبراطورية تصادم الآخرين لأنهم " برابرة ".

إذن، مقولة " صدام الحضارات " تهدد مستقبل البشرية وحروبها مدفوعة بغرائز لا حدود لها، لا تعرف المهادنة، وقودها لا تنضب. متى اندلعت تحولت إلى عملية انتحارية غير مرهونة بمكاسب سياسية أو اقتصادية أو جغرافية تقسم البشر إلى عالم الخير وعالم الشر. تبدأ مع الآخر البعيد ولا تلبث أن تطال الآخر القريب داخل المجتمع الواحد. فظاعة وحجم الجريمة في الدعوة إلى هذا النمط من الحروب يتبين لنا حين نعرف الوسائل والأسلحة التدميرية المتوافرة في عصرنا عند بعض الدول والجماعات.

*هل ترى أن صراع القرن الحادي والعشرين سيكون صراع ثقافتين وحضارتين هما الغربية والإسلامية حيث لكل منهما نظرته الخاصة لمجموعة القيم الإنسانية والآخر؟

- أولا نأمل أن يشهد القرن الحادي والعشرين صراعا حضاريا لا " صداما حضاريا ". حاليا الصراع ليس محصورا على الإطلاق بين مجموعتين من القيم الإنسانية : غربية وإسلامية. الصراع الحضاري موجود داخل كل المجتمعات. فإذا كان " صدام الحضارات" يؤدي إلى هدم الهيكل على رؤوس الجميع، فإن الصراع الحضاري يؤدي إلى تحسين الأنماط المتنوعة من السلوك والتفكير والتعاطي مع الآخرين عن طريق الاتصال والتفاعل الاجتماعي.

*حبّذا لو تلقي الضوء على مفهوم الصراع الحضاري؟
- الصراع الحضاري هو نقيض "صدام الحضارات". إنه يعترف بالتنوع والتعدد لا بالإنكار والإلغاء. إنه ممانع ورافض لتصنيف البشرية إلى مجتمعات وأديان خيّرة وأخرى شريرة. ففي داخل كل مجتمع وكل دين يوجد صراع حضاري. من هنا بإمكانه أن يقفز فوق الصراع الدائر منذ نهاية السبعينات بين التيارات الأصولية والتيارات العلمانية داخل المجتمعات العربية والإسلامية. حتى في المجتمع الإسرائيلي يجري صراع بين تيارات دينية متطرفة وتيارات علمانية، بين تيارات لا تتورع عن تشبيه العرب ب " الديدان " أو بالإرهابيين، وتيارات تسعى للسلام. هذا يعني أن إنقاذ البشرية وتطوير المجتمعات لن يكونا بانتصار شعب على آخر ودين على دين، بل بانتصار وغلبة حضارة التنوير والنهضة على حضارة المتاحف الجامدة التي تسعى لعودة الإنسانية أشواطا إلى الوراء إلى عصور الحروب الدينية وعالمها المحكوم بالأضداد والتصادم. تجدر الإشارة هنا إلى أنه لم يحصل في تاريخ البشرية أن دينا واحدا أو مجتمعا منغلقا على ذاته، بدون صراع و بدون تفاعل مع غيره من المجتمعات، أنتجا حضارة نهضوية أو تنويرية.

الحلقة الثانية

الحلقة الثالثة