حوار مع الباحث اللبناني سماحة الخوري (2/3)


حاوره حيان نيوف: سماحة الخوري، أكاديمي لبناني بارز ، ومن الوجوه الثقافية العربية المعروفة في فرنسا. ولد في الطيبة بلبنان عام 1948 ، وهو بروفسور في جامعة بوردو الثالثة ورئيس قسم الدراسات العليا ( الدكتوراه ) ومدير مركز الدراسات العربية والإسلامية في جامعة بوردو. حاصل على شهادة دكتوراه حلقة ثالثة في علم الاجتماع ( جامعة بوردو الثانية ) ودكتوراه دولة في علم الاجتماع السياسي ( جامعة تولوز ). هنا الحلقة الثانية من حوارنا معه:


•إذن، كيف سيكون صراع القرن الحادي والعشرين؟
- نعتقد أن صراع القرن الحادي والعشرين لن يكون صراعا بين حضارتين هما الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية. فالعالم الإسلامي غير متراص ؛ هو مجموعة عوالم، والغرب بدوره مجموعة شعوب وحضارات ومعتقدات اجتمعت وتوافقت على سلم من القيم الإنسانية الكونية ( حقوق الإنسان، العلمنة، الديمقراطية، العدالة.. ). الصراع اليوم ليس صراعا بين العالمين الإسلامي والغربي بقدر ما هو بين تيارات فكرية دينية متحفية جامدة تنشط على الساحة العربية الإسلامية وتيارات مماثلة لها، صورة طبق الأصل عنها، تنشط على الساحة الأميركية والإسرائيلية. أيديولوجيا هذه التيارات، سواء أكانت عربية اسلامية أم اميركية إسرائيلية، تبدو متماهية متطابقة، أيديولوجيا أحادية ( شر، خير / إسلام، مسيحية ). الخلل الوحيد في هذا الصراع الصدامي يكمن على المستوى التكنولوجي و الآلة الحربية حيث أن المعسكر الأميركي الإسرائيلي يمتلك أسلحة دمار شامل. لمزيد من الدقة والتوضيح نشير إلى أن أيديولوجيا هذه التيارات الأميركية الإسرائيلية تتجاوز في استهدافاتها العالم العربي الإسلامي ساعية إلى إضعاف وتغييب الآخرين كل الآخرين بمن فيهم أوروبا الغربية وبشكل خاص فرنسا. تمييزنا هذا بين المقاربات الأميركية والأوروبية سيغضب البعض ولن نفاجأ إن اعترض واتهمنا بالإعجاب المفرط بالنموذج الحضاري الأوروبي متسلحا بنقاط التقاطع بينهما. نرجو أن لا يفوت هؤلاء الغاضبين المحتجين أنه من الأجدى أن يعترض المعترضون على استبدادية الخلط والتعميم والاختزال ( شرق، غرب / إسلام، مسيحية / حضارة غربية، حضارة اسلامية، مجتمع مؤمن، مجتمع ملحد وكافر )، بين المقاربات الأميركية والأوروبية لا علي التمييز بينهما. فالخلط والتعميم داعم لأيدولوجيا " صدام الحضارات " وللمعسكر الأميركي، ومجحف بحق الحضارة الأوروبية، يرتكز على مفهوم ونظريات أصبحت من الماضي، و مردوده سلبي على مستقبل الحضارة العربية والإسلامية. إنه يشرع الأبواب أمام التيارات والإيديولوجيات الإسلامية الأحادية الراغبة بتحويل الحضارة العربية السلامية إلى مجرد حضارة " نص " رافضة كل مفاهيم العصرنة والحداثة، كالديمقراطية والعلمنة وحقوق الإنسان وتحريره من ألبنة الدين بحجة أنها مفاهيم غربية لا مكان لها في الشرق، بينما هي بالواقع إنجازات حضارية كونية لخدمة المجتمعات والشعوب.


*كيف يمكن أن تصف التباعد الحاصل بين الإسلام والغرب بعد أحداث أيلول (سبتمبر)؟
- لا أعتقد أن أحداث أيلول قد أدت إلى تباعد بين الإسلام والغرب الأوروبي. هذه الأحداث عمقت الهوة بين الإسلام والمعسكر الأميركي على اعتبار أنها تدخل في إطار " صدام الحضارات". إنها الشرارة التي استغلتها الولايات المتحدة لخوض حربها ضد ما سمته بالإرهاب مختزلة البشرية وحضاراتها بمعسكرين متصادمين : معسكر "التمدن والحضارة" تقوده أميركا مع بعض الحلفاء، ومعسكر " التوحش والتخلف " المتمثل في " الإرهاب " العربي والإسلامي وبالدول التي تسانده أو تؤويه.


* وعلى الصعيد الأوروبي؟
- بالنسبة لأوربة ولفرنسا بشكل خاص فإننا لم نلحظ أي تباعد بين الإسلام والشعب الفرنسي بعد أحداث أيلول. فالحضارة الفرنسية لا تقوم على مقاربات أحادية و لا تنكر على الآخر إنسانيته وثقافته وحقه بالحياة محاولة إلغائه. فالآخر، أي المسلم، يشكل شريحة حضارية اقتصادية ثقافية وسياسية مهمة داخل المجتمع الفرنسي. السياسية الفرنسية وتعاطيها مع قضايا العالم العربي و الإسلامي مبنية على أسس ذات أبعاد إنسانية، ثقافية واقتصادية، تعززها وتحضّها رؤية حضارية متوسطية لا تخاطب الغرائز ولا تسعى لبناء نمط أمني إمبراطوري ينفي على الآخر حقه بالحياة. من فضائل السياسة الفرنسية أنها رفضت انجرارها في سياق السياسة الأميركية سواء أكان في الموضوع العراقي أم في الموضوع الفلسطيني.


*وإذا أردنا أن نضع مجموعة من الأسس والنقاط تؤسس لانطلاقة حوار إسلامي – غربي، بنظرك ماذا يجب أن تكون هذه النقاط والأسس؟
- أما بالنسبة لموضوع الحوار الإسلامي الغربي فنحن نعتقد أن الحوارات الدينية لا تثمر ولا تنتج أي إنجاز حضاري لخدمة البشرية. علينا أن نؤسس لحوار جديد مبني على أسس ومرتكزات حضارية لا دينية صرفه. فغذاء ووقود الديانات السماوية الثلاث التناحر والتصادم فيما بينها , وكل منها يتسلح بحقائق وإيديولوجيات مطلقة. بذور الصراع بين هذه الديانات طالت ارثها التاريخي وترتيبها الزمني. فاليهودية تزعم أنها الركن الأساسي والمدماك الأول في بناء وحدانية الله. الإسلام يزعم أنه خاتمة الديانات وباسط سلطان الحقيقة الكاملة المكملة، من اتبع هداه وحده على الصراط المستقيم. أما المسيحية فهي تقر بمن سبقها أي اليهودية ولا تقر بشكل كامل ومماثل بمن جاء من بعدها أي بالإسلام. فحوار الديانات لا جدوى منه لأنه ينطلق من نصوص أحادية لا تعرف إلا الأضداد : الخير الشر، الأبيض الأسود، ولا يعترف بالألوان الوسطية. وحده حوار الحضارات يؤسس لعلاقات ايجابية بين الشعوب. وبفضل هذه العلاقات لا بفضل الحروب الدينية وإيديولوجياتها، نحقق أمن البشرية. حوار الحضارات القائم على أسس احترام الأنماط المختلفة من سلوك ومعتقدات وتفكير الآخرين يبقى دوره ركنيا وأساسيا في بناء الصيغة المؤسسة للعلاقات غير الساخنة بين الشعوب والمجتمعات، خاصة بين العالم الإسلامي والغرب. هذا النمط من الحوار يؤدي، كما يقول الباحث والمؤرخ يوسف الأشقر،" إلى بلورة الوجدان الاجتماعي في داخل المجتمعات، والوجدان الإنساني الشامل بين المجتمعات، وهم أهم الإنجازات والضمانات الأمنية لاستمرار البشرية جمعاء ".

* كيف تفسر اهتمام الغرب بالحضارة العربية ومتى بدأ هذا الاهتمام؟ اهتمام الغرب بالحضارة العربية قديم جدا. هذا الاهتمام لم يكن صدفة فالدين الإسلامي وبالتحديد الفتوحات العربية أثارت دهشة وإعجاب المؤرخين الغربيين نظرا لما ترتب عنها من نتائج ومعطيات. ما هي أبرز هذه المعطيات؟
-المعطى الأول هو انتشار الدين الجديد واللسان العربي في ديار واسعة امتدت في أواسط الهند وتخوم الصين شرقا إلى شواطئ المحيط الأطلسي وتخوم فرنسا غربا. فالحضارة العربية قد تكون حازت على اهتمام الباحثين الغربيين لكونها حدثا تاريخيا مهد الطريق لنشوء نمط جديد من العلاقات بين الشعوب والمجتمعات. هذا النمط الحضاري العربي وضع حدا للنمط الإمبراطوري الذي كان يقطع شرايين التواصل بين الشعوب ويقيم الجدران والخطوط الآمنة العازلة ( lines ) المحمية بقوة الجيوش الإمبراطورية. المعطى الثاني، الذي أثار اهتمام الغرب بالتراث العربي الإسلامي بمختلف جوانبه التاريخية والدينية والأدبية والفلسفية، هو دخول العرب إلى اسبانيا. وإذا كان القرن السابع الميلادي قد فتح الباب أمام الغرب للاهتمام بالحضارة العربية، فإن فتح الأندلس عام 711 قد جعل هذا الاهتمام يتطور ويرقى إلى حالة الاتصال المباشر بين الغرب والتراث العربي. أما المعطى الثالث، الذي جدد اهتمام المؤرخين ورجال الفكر الغربيين بالحضارة العربية، هو الحروب الصليبية. فعندما تجاوزت هذه الحروب منطق الدفاع عن النفس لتصل إلى مستوى العنف الخالص، وبعد قرون من الاتصال الصدامي بين أوروبا والديار العربية والإسلامية، تبيّن للأوربيين أنهم مازالوا يجهلون الكثير عن الحضارة العربية والعقيدة الإسلامية، فانكبوا على دراستها. لاشك أن هذا التحول في نظرة الغرب الأوروبي والمضي قدما في مضمار البحث عن مزيد من المعلومات عن الحضارة العربية سعيا وراء تكوين رؤية متكاملة عن الشرق خاصة بعد فشل الحملات الصليبية وخروج العرب نهائيا من اسبانيا عام 1492، استدعى نشوء الإستشراق.


*هناك آراء متعددة ومتضاربة فيما يتعلق بالاستشراق وأغراضه. ما هي وجهة نظرك بهذا الاختلاف حول الإستشراق؟
- برأينا إذا كان لا يجوز اعتبار أن كل ما كتبه المستشرقون يتصف بالبراءة ويجسد الحقيقة كل الحقيقة، فإنه لا يجوز أيضا إطلاق الأحكام المبرمة والتعسفية على هؤلاء الذين أغنوا بأبحاثهم العلمية الحضارة العربية. للأسف بعض الكتاب العرب اختزلوا حركة الإستشراق والمستشرقين وجمعياتهم ومجامعهم وجهدهم العلمي بمؤامرة لتشويه التراث العربي والإسلامي وترويج الفكر الاستعماري. فالأستاذ حسان السباعي ووالده مصطفى السباعي يعتبرون أن اهتمام المستشرقين والمستغربين ( أي العرب الذين حصلوا على شهادة دكتوراه من معاهد الإستشراق ) لم يقتصر على دراسة التاريخ الإسلامي وتشويهه، بل تعداه إلى الدراسات الإسلامية من فقه وتفسير، فحرفوا النصوص حينا و أساؤوا فهمها حين لم يجدوا المجال لتحريفها. وصف حركة الإستشراق والمستشرقين " بمؤامرة يهودية- مسيحية " -كما فعل الدكتور مصطفى السباعي -هو باعتقادنا تجنّ على الحقيقة.


* كباحث أكاديمي حبّذا لو تلقي الضوء لنا على أهداف وأغراض الإستشراق؟
- أهداف وأغراض الإستشراق عديدة و متنوعة. منها ما هو علمي بأهداف نبيلة، منها ما هو لخدمة مخططات سياسية استعمارية، منها ما هو لخدمة مصالح تجارية اقتصادية ومنها ما يبغي مساعدة أجهزة مخابراتية. الحقيقة أنه مهما قيل وكتب عن الغاية المنشودة من الإستشراق علينا الإقرار بأن هذه الحركة ساهمت كثيرا في تقريب المسافات بين حضارات حوضي البحر الأبيض المتوسط وعززت مواقع الحضارة العربية في أوروبا وخاصة في فرنسا. فلا يجوز تغييب أو تجاهل مساهمة المستشرقين في إحياء التراث العربي و الإسلامي ونفض الغبار عنه باستخدامهم منهجيات علمية نقدية في تحليلهم للنصوص العربية وتركيزهم على جدلية العلاقة القائمة بين الواقع وهذه النصوص.

يتبع

الحلقة الأولى