حوار مع الدكتور الباحث رضوان زيادة

حاوره حسام شحادة: كانت سورية بعاصمتها-المدينة الأقدم في التاريخ- مركز توهج ثقافي وحضاري، أثرت التراث العربي والاسلامي والانساني، ومع بدايات عهد الاستقلال راحت تلمع في فضاء الثقافة السورية، أسماء أكدت حضورها المميز ومكانها اللائق عربيا ( الراحل الكبير المرحوم أنطون مقدسي، أدونيس، غادة السمان، صادق جلال العظم، والمرحوم سعد الله ونوس، والمرحوم ممدوح عدوان، حنا مينة....، الخ).
في بحر الثقافة هذا، راحت تلمع في السنوات الأخيرة أسماء شابة تقرأ في مساهماتهم الفكرية والأدبية ملامح مستقيل واعد، من هؤلاء المبدعين ضيفنا الدكتور رضوان زيادة، الذي رغب والداه أن يكون طبيبا للأسنان، حقق لهم الرغبة...لكن طموح الشاب الفكري دفعه بعيدا عن ممارسة المهنة، فكرس نفسه للبحث والكتابة.
شارك في العديد من المؤتمرات والندوات العلمية المحلية والعربية والدولية، وله العديد من البحوث والدراسات العلمية المنشورة في المجلات والدوريات العربية والأجنبية. عضو مؤسس في جمعية حقوق الإنسان في سورية. رئيس تحرير موقع www.almultaka.net
في دمشق التقته ايلاف وكان لنا معه هذا الحوار


* اليوم الكل ينادي بالديمقراطية، هل الديمقراطية حل سحري لمشكلاتنا، أم هي أفضل طريق للتعامل مع هذه المشكلات ؟.
- أكبر خطأ يرتكبه المثقفون العرب اليوم هو تصوير وتسويق الديمقراطية للمجتمعات العربية على أنها "حل سحري" لمشاكلنا، فالديمقراطية كما هو معروف ومتداول بكثرة في الأدبيات العربية والغربية "أقل الأنظمة سوءً" وهي لذلك بمعنى من المعاني لا تمتلك صيغة أو وصفة ناجزة ونهائية، وغنما تختلف اختلاف السياق السياسي والتطور الاجتماعي للمجتمعات، فدول الاتحاد الأوروبي على سبيل المثال رغم تشابهها في التطور الاجتماعي والاقتصادي وتوافقها في الإرث الثقافي والحضاري إلا أنها تختلف اختلافاً جذرياً في نظمها السياسية الديمقراطية، فبريطانيا حافظت على الملكية في حين أن فرنسا أنهتها مطلقاً وبثورةٍ دموية، أما ألمانيا فتفضل الفيدرالية وهلم جرا...
هذا الاختلاف يؤكد لنا أن الديمقراطية هي عبارة عن مجموعة من القيم تدمج في إطار الحداثة السياسية للمجتمعات تقوم على أساس حرية الرأي والتعبير والتظاهر والتجمع والتداول السلمي على السلطة والتعددية السياسية وانتخابات مفتوحة تضمن حقوق الجميع.
أما ما عدا ذلك وفي تفاصيلها الإجرائية والإدارية فإنها تختلف اختلافاً بيناً بين مجتمع وآخر. الأمر الآخر الذي أود أن أضيفة هي أن الديمقراطية لا تحمل حلولاً لمشكلاتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية المستعصية، وإنما هي المنهج الأفضل والأسلم كي توصلنا إلى هذه الحلول، ويجب مخاطبة المجتمعات بصراحة بهذه الحقيقة وهي أن الديمقراطية لا توجد فرص عمل تحد من البطالة بشكل أتوماتيكي وإنما تخلق مناخاً استثمارياً مناسباً وكفيلاً بخلق فرص عمل جديدة.هذا على المستوى الاقتصادي.
أما على المستوى السياسي فما أود قوله هو أن الديمقراطية تضعف القرار السياسي الخارجي وتحد من سرعة تأثيره وفاعليته، لأن عليه أن يمر بأطر دستورية بيروقراطية تضمن كفاءته ونزاهته وهذا من شأنه أن يحد من التمدد الخارجي لحساب الملفات الداخلية، وهذه نقطة هامة يجب أخذها بعين الاعتبار خاصةً لدى التيارات القومية العربية التي تركز في قراءتها على الدور الإقليمي والدولي للسياسات وتهمل الإنجازات الداخلية الحقيقية.

* البعض يعتقد أن شرط الديمقراطية، وجود مجتمع صناعي وعلماني، وأن الدعوة لقيام ديمقراطية في مجتمع متخلف هي دعوة متخلفة ؟.
- بداية لا بد أن أسجل تحفظي على استخدام كلمة "تخلف" بوصفها كلمة تحمل مدلولات قيمية أكثر منها وصفية، وقد أبان لنا العالم الانثربولوجي كلود ليفي شتراوس أن لا معنى لهذه الكلمة في سياق التطور الحضاري للمجتمعات. لكن على العموم الديمقراطية ليست قهوة سريعة التحضير كما قال ذلك أوبير فيدرين وزير الخارجية الفرنسي الأسبق، وإنما هي حصيلة جهد سياسي واجتماعي واقتصادي، والعلمانية وفقاً لذلك بما تعنيه من فصلٍ للدين عن الدولة ليست شرطاً مسبقاً للديمقراطية، وإنما يمكن للديمقراطية أن تنمو في إطار ثقافة وبيئة متصالحة مع الرأي الآخر تقوم على احترامه، ووضع العلمانية كشرط مسبق أخاف أن يكون كوضع العربة قبل الحصان، فببيئة العلمانية في المجتمعات العربية أمرٌ ليس بالهين والميسور وانتظار الديمقراطية حتى تتحقق العلمانية هو كانتظار المطر في صيفٍ مشمس.علينا أن نعمل على ترسيخ احترام التعددية واحترام الرأي الآخر بوصفها مدخل لابد منه للديمقراطية، وكما قلت فربما تكون الديمقراطية ه المدخل لمجتمع صناعي ومتطور، فانتظار الحداثة والتطور الصناعي حتى يتحقق بفعله استجلاب الديمقراطية، عندها نكون قد دخلنا في حلقة مفرغة، لكن الأكيد أن اتخاذ خطوات سياسية ديمقراطية حقيقية سيكون أكثر سهولةً ومدخلاً لبناء مجتمع ديمقراطي وصناعي من المكوث حتى يجلب المجتمع الصناعي لدينا الديمقراطية.

* في ظل حالة العجز العربي وسيادة الحلول الأمريكية الفوقية والقسرية، هل هناك من سبيل إلى طريق عربي للإصلاح والحداثة ؟.
بالرغم من أن الديمقراطية هي النظام السياسي الأكثر قدرة على التكيف مع الاختلافات والنزاعات فإن الوصول إليها في العالم العربي ليس بهذه السهولة ومسارها يكاد يكون عصياً وممتنعاً على التحقق لا سيما بعد حدوث اصطفافات جديدة نتيجة الاستبداد السياسي الطويل الذي عاشته البلاد العربية، وهذه الاصطفافات ارتبطت معها مصالح اقتصادية فئوية ومكاسب مالية ليس من السهولة التنازل عنها عن طيب محبة وخاطر، و بحكم السيطرة التنفيذية للدولة التي ركزت جميع السلطات في يدها عبر أجهزة متعددة ومتنفذة تمكنت من إخضاع المجتمع لرغباتها وغاياتها، وانتهى المجتمع العربي إلى نموذج مهزوم أو منهك يفتقر إلى أي تنظيم حقيقي، وأضاع مركز توازنه بعدما انحسرت أهدافه إلى طموحات عاجلة في ضمان الأمن الشخصي وتحقيق الاكتفاء بالعيش، لقد تحققت إذاً القطيعة الكاملة بين النظام السياسي العربي وبين المجتمع العربي.
لقد قلت أكثر من مرة أن الوضع العربي أصبح يدور في حلقة مفرغة منذ بداية عقد التسعينيات وبعد انتهاء حرب الخليج تحديداً، فمعالم نظام دولي جديد كانت آخذة بالتشكل وانهيار عقد المنظومة الاشتراكية وصعود الديمقراطيات في أوروبا الشرقية وانهيار جدار برلين، كل ذلك لم يعني للعرب شيئاً، بل بقوا في سياساتهم التي تقوم على أساس رد الفعل، فانتهت إلى حالة مزرية تماماً أصفها كالتالي :
سلطة لا ترغب بالتغيير بل وتخاف منه، ومجتمع لا يستطيع أن يقوم بالتغيير وينتظره، فمن أين يأتي التغيير؟، لذلك فإزالة الولايات المتحدة لنظام صدام في العراق، صحيحٌ أن له أبعاد جيواستراتيجية واقتصادية ونفطية حساسة للولايات المتحدة، إلا أنه في جزءٍ منه عبارة عن كسر للحلقة المفرغة من التغيير في العالم العربي.
لكن الولايات المتحدة التي لا تعرف شيئاً عن ثقافة المنطقة وحضارتها، ولم تخطط لما ستكون عليه الحال بعد سقوط النظام العراقي تحولت إلى عامل تأزم آخر في المنطقة خاصةً بعد أخطائها المتكررة في سجن أبو غريب وغيرها.ولذلك يبدو أن مشاريع الإصلاح في العالم العرب مؤجلة إلى أجلٍ غير مسمى، وبانتظار ظهور قطب اجتماعي ديمقراطي حقيقي تحميه المجتمعات العربية يفرض تغييراً حقيقياً على الأنظمة العربية.
-في دعوات إصلاح النظام العربي، يتداخل ويختلط الوطني بما هو خارجي، بين ما هو عربي بما هو غربي –أمريكي، مما يوجب التوضيح باتجاهي التعميم والتفضيل، فكيف السبيل إلى ذلك ؟.
سيطرة الثنائيات على الفكر العربي منذ بدايات القرن العشرين كالإسلام والحداثة و الأصالة والمعاصرة والديمقراطية الاجتماعية والديمقراطية السياسية وغيرها أعاق كثيراً تطور الفكر العربي ومنع حركية المجتمعات العربية من أن تأخد مسارها الحقيقي، فأصبح الفكر العربي ينوس بين الطرفين دون أن يمتلك زمام المبادرة، وأشعر اليوم أيضاً أن طرح مشروع الإصلاح في العالم العربي بهذه الصيغة الثنائية الحدية وعبر أجهزة الإعلام الرسمية هو تمييع للقضية برمتها عبر فصمها إلى خصمين ندين لا يجتمعان، وفي هذا التفافٌ ومناورةٌ على القضية الرئيسية في العالم العربي، وهي الحاجة الفورية والآنية للإصلاح بكل مجالاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وحتى الفنية.

* تأجيل عمليات الإصلاح بحجة الصراع العربي-الإسرائيلي، والتحديات الكبرى، ودعوى" لا صوت يعلو على صوت المعركة "... ألا يحمل تبسيطاً مهيناً ومخجلاً، وفي نهاية الأمر ألا يصب ذلك في خدمة الفساد وحراسه.
- قلت أن الأنظمة السياسية العربية تحاول الالتفاف على استحقاقاتها الداخلية المصيرية عبر العودة إلى لغة قديمة باتت مستهلكة تماماً، فالصراع العربي –الإسرائيلي لا يتطلب حتماً كم الأفواه وإملاء السجون بالمعارضين ونهب الثروات العامة وغير ذلك. وانما يتطلب رؤية وطنية موحدة لهذا الصراع.
لكن هذه الأنظمة أصبحت ترى نفسها حامية للقضية الفلسطينية بالرغم من أن حدود حركتها لدعم هذه القضية أصبح محدوداً للغاية ومشروطاً بالموافقة الأمريكية والإسرائيلية ومصالحها الخاصة.لذلك أعتقد أن مثل هذه النوع من الخطاب بات مشروخاً ومن يردده أصبح لا يصدقه.

* الحديث الرسمي في سورية يؤكد أولوية الإصلاح الاقتصادي والإداري على السياسي، فهل التحولات الجيو-استراتيجية واستحقاقاتها في المنطقة تتيح ذلك ؟.
- إلى حد الآن نشهد تخبطاً اقتصاديا مريعاً بين توسيع القطاع العام وبين التحول نحو اقتصاد السوق، كما أننا لم نحصد إنجازات إدارية حقيقية كما وعدنا المسؤولون الحكوميون، كل ما نجده رزمة من القوانين والمراسيم الجديدة التي لم تستطع أن تخلق حركية إصلاحية داخل النظام.
إذ بقيت البيروقراطية الإدارية والإعلامية والسياسية على نهجها.أما الملف السياسي فهو الأكثر سخونة وطريقة تعاطي النظام لسوري معه لا توحي بأنه يقرأ التحولات والتغيرات الدولية والإقليمية بشكلٍ جيد. لذلك أقول أن النظام السوري لا يلعب على الأولويات الاقتصادية والإدارية والسياسية كما يدعي، وإنما يماطل من أجل تأجيل الاستحقاق المصيري القائم على أولوية الإصلاح السياسي بوصفه رافعة ومحرك ودينامو رئيسي لأي عملية إصلاح قادمة.

* منذ خطاب القسم الرئاسي وتوقعات الإصلاح في سورية لا زالت مشوبه بالأمل والقلق، فهل ما تشهده سورية مجرد تدابير احترازية مؤقتة، أم أن هناك برنامج إصلاحي يعكس رؤية عميقة للتحديات والاستحقاقات السورية ؟.
- ما نفتقده في سورية أصبح واضحاً وهو غياب فريق إصلاحي يقود برنامجاً إصلاحياً، وبالتالي كل ما هو موجود عبارة عن "ميديا" وإعلام، ومجرد إعلانات لا تستند على برنامج واضح المعالم والقسمات. وبالتالي هذا يشكك إن كان النظام السوري يرغب فعلياً في الإصلاح ؟
فمثلاً يفترض قبل الوصول إلى بلورة مثل هكذا برنامج القيام بعدد من الإجراءات الإنسانية التي لم يعد هناك أي مبرر لتأخيرها وهي إطلاق سراح جميع السجناء السياسيين وتسوية أوضاع المفقودين والمغتربين، هذه الخطوات يمكن أن تخلق زخماً إصلاحياً يساعد على بلورة جهود رسمية وغير رسمية باتجاه الوصول إلى رؤية وطنية جامعة للإصلاح، وهذه ليس بالأمر الصعب.
المشكلة لدينا في سورية أن الجميع يتحدث في الماضي بحكم وطأة ثقل هذا الماضي علينا، وما لم نتخلص من عبئه لن نتقدم إلى الأمام.فسورية في الخمسينيات الخارجة من استعمار شديد الوطأة والأثر اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً لم يمنعها من اتخاذ مبادرات دولية باحثة لها عن موقع فيها وراغبة في الإسهام في الحضارة الإنسانية بمعناها الواسع عبر الإسهام في تأسيس الأمم المتحدة وتأسيس منظمة التجارة العالمية والإسهام في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وتأسيس جامعة الدول العربية وغيرها، فسورية الخمسينيات التي تسعى كي تسهم في الحضارة الإنسانية العالمية هي اليوم لا تعرف كيف تلملم ذاتها وكيف تحفظ أدوارها.إنها مفارقة علينا التأمل جميعاً فيها.

* في سياق آخر، في مواجهة أية هزيمة، وأمام كل فشل، أصابع الاتهام توجه دائماً للمثقف..ألا تعتقد أن القطيعة بين المثقف وصانع القرار هي أساس كل فشل ؟.
- السؤال المتكرر حول العلاقة بين المثقف و السلطة يتجدد مع تجدد الأزمات السياسية التي يكون أحد طرفيها أحد العاملين في الحقل الثقافي على تعدد فروعه و مجالاته، فالمثقف يشكو باستمرار من سطوة السياسي و تعديه على مجاله التداولي، أما السياسي فلا يأبه للمثقف أو وجوده و يتشكك في مدى حاجتنا إليه.و اختلاف الغايات و المطامع يلعب دوراً في خطاب كل منهما الذي يتوجه به إلى الآخر أو إلى الجمهور بحكم مراهنة كلا الطرفين على المخيال العام. فالمثقف يرغب في تحطيم سلطان الدولة التي تتكلم باسم (أنا ربكم الأعلى) ليعلي سلطان المثقف صاحب الحق في النقد والرفض، وصاحب القدم الطولى في الدفاع عن حرية الإنسان، وعلى حد تعبير أحد المثقفين فإن كوجيتو ديكارت يجب أن نقرأه لا بلغة الذات كما هو الكوجيتو مع ديكارت، وإنما لنكتبه بلغة الحرية( أنا حر إذن أنا موجود) وذلك تأكيداً على حق المثقف الأزلي في التعبير عن رأيه.
إن الخلاف بين المثقف والسياسي ينبع من اختلاف طبيعة الدور الذي يقوم به كلٌ منهما، والمجال الذي يتحرك ضمنه أيضاً. فالمثقف ينطلق في سؤاله من العقل الذي يجعله نقطة بدءه ومجال حدوده، ربما يجهد نفسه في إيجاد الطريقة المثلى لإيصال فكرته وتوضيح بيانه، إلا أنه لا يكترث كثيراً بعدد قراءه ومناصريه، مع أنه غالباً ما يخفي في سريرته رغبة في أن يصبح مشهوراً كأبطال الشاشات الصغيرة والكبيرة، وأن يصبح معروفاً أينما حل وارتحل. إلا أن ما بين رغبته الدفينة تلك وحقيقة نخبويته الواقعية يبقى ينوس بينهما راغباً في الأولى وقانعاً بالثانية، أما السياسي فينطلق في سؤاله من رغبة المثقف المضمرة وهي زيادة عدد أنصاره ومحازبيه ورفع رقم جمهوره ومصفقيه، لا يقف كثيراً عند جلاء الفكرة وبلورتها وتوضيحها لأنه لا يرغب منها إلا أن تكون صلة الوصل بينه وبين مؤيديه، على عكس المثقف الذي تمثل الفكرة بالنسبة إليه غاية بحد ذاتها، يبقى يتأمل فيها، يزيد وينقص منها كما يسبر النحات تمثاله بعينيه في كل لحظة، وإذا كانت الفكرة لدى المثقف مقدسة وغير قابلة للنقد أو النقض إلا بناء على أسس عقلانية محضة، فإن السياسي غالباً ما يرهن قداسة الفكرة بقدرتها على جلب أكبر عدد من الأنصار، فهي تتغير وتتحول بل ويتبنى السياسي اليوم عكس ما دعا إليه البارحة، إن كان في ذلك حشد أرقامٍ جديدة من الجماهير . فالمثقف ينظر إلى الإنسان كذات مفكرة تتلمس باستمرار نصوع الفكرة وجلاءها وتترقبها، أما السياسي فإنه يتعامل مع الجماهير كالكرة التي يتقاذفها ألسنة الخطباء كما في مسرحية يوليوس قيصر لشكسبير.
يترفع المثقف عن جمهوره الذي يصفه بالغوغائية والعشوائية والهمجية، أما السياسي فيقبل عليه ليندغم فيه وليتلمس رغباته ومتخيلاته، ففي تبنيها ما يجعله ناطقاً باسمها ومعبراً عنها، وإذا كان السياسي وفق التوصيف السابق نقيض المثقف، فهل تراه يلتقي النقيضان أم يجتمعان؟. لذلك على السياسي أن يدرك باستمرار نقص إمكانياته فيما يتعلق بضخ الأفكار الجديدة وتقديمها، وأن يقتنع المثقف أنه لن يتمكن بأن يصبح نجماً تلفزيونياً أو بطلاً سينمائياً لأن رغباته لا تتفق مع رغبات رواد الأبطال والنجوم. و هذا يدفعنا إلى تأسيس علاقة جديدة تقوم على الاتصال والانفصال بين الطرفين بما يضمن آليات الالتقاء ويحجب رغبات التماهي، وبذلك نكون قد ارتقينا من تجسير الهوة إلى التقاء الغايات التي مع وجودها يتحقق الخير العام وتضمن المصلحة العام باستمرار إمكان وجودها وتحققها.

* الكتابات العربية عن الحداثة وما بعدها، إلى أي مدى تعبر عن حاجة موضوعية في ثقافتنا ونسيجنا الفكري والاجتماعي ؟.
- من المعروف أن غالبية طروحات ما بعد الحداثة استمدت مشروعيتها من الأزمة التي تعيشها أفكار الحداثة المتمثلة في العقلانية والتنوير والتقدم والعلم..... إلخ، هذه المفاهيم التي انطلقت من عصر الأنوار ثم عملت الحداثة على ترسيخها وتأصيلها كتقاليد غربية عريقة القدم، إلا أن هذه الأقانيم بحسب ما يرى فريدريك جيمسون أحد روّاد ما بعد الحداثة قد تحولت مع الحداثة إلى صنميات معيقة للتفكير ومنيعة أمام النقد ومحصنّة ضده، مما جعلها تترك وتخلّف آثار تهميشها ونفيها لمفاهيم أخرى بحيث انحصرت العقلانية وضاقت إلى حدود التفكير الأرسطي، وأصبحت العقلانية تهمة لكل طريقة أو وسيلة ترغب بالخروج عن الأدوات العلموية التي خلقتها الحداثة.
فالحداثة غربياً تعرّضت لنقدٍ جذري استهدف تقويض أسسها كما عبر جان فرانسوا ليوتار أحد أبرز دعاتها وأول من بشّر بنهاية السرديات أو الحكايات الكبرى، وكان ذلك فاتحة لإعلان نهاية الأيديولوجيات. إن ما بعد الحداثة كما يرى جيمسون ترث الحداثة وتقف على أنقاضها، وتعد فكرة زعزعة المركزية الغربية من أهم الأفكار التي روجت ما بعد الحداثة لها وعملت على ترسيخها عن طريق توجيه السهام المتكررة لها، وإن كانت هذه الأفكار تعود عملياً إلى فلاسفة ٍ آخرين لم يُعتبروا تصنيفياً من مفكري ما بعد الحداثة كلود ليفي شتراوس وميشيل فوكو وجاك دريدا وغيرهم.
لكن نقد الحداثة وإظهار أزمتها لم يقتصر غربياً على تيار ما بعد الحداثة كما يبدو للوهلة الأولى. بل إن الدخول إلى ثنايا الخطاب الغربي الفلسفي المعاصر يلحظ اتجاهات متباينة تماماً في أصولها وأفكارها. غير أنها تُجمع في حديثها عن "أزمة الحداثة"، فهابرماز يرفض ما بعد الحداثة قطعاً بيد أنه يرى أن مشروع الحداثة نفسه لم يكتمل وما زال ناقصاً ولسنا بحاجة إلى القفز في مجهول ما بعد الحداثة، أما عالم الاجتماع الفرنسي آلان تورين فكان من الأوائل الذين درسوا الحداثة وفقاً لتجليات أزمة أقانيهما النظرية التأسيسية المتمثلة في العقلانية والفردية والتنوير، وهو ما دفع أيضاً الفيلسوف الفرنسي جياني فاتيمو إلى الإعلان عن " نهاية الحداثة " وولادة حداثة من نوعٍ جديد ربما يُطلق عليها ما بعد الحداثة.

* لكن السؤال كيف كانت انعكاسات ذلك على الفكر العربي وحواراته وتياراته ؟.
- من الممكن القول أن الفكر العربي انقسم تجاه ظاهرة ما بعد الحداثة إلى تيارين خصمين، الأول اتجه نحو الرفض المطلق للفكر ما بعد الحداثي، بحجة أصوله الغربية لدى البعض، وبحجة اختلاف المسار التاريخي بين التجربتين العربية والغربية لدى البعض الآخر. سيّما وأنها ترافقت مع سيطرة مفهوم العولمة كونياً وترسخ آليات السيطرة واقتصاد السوق عالمياً، مما جعل البعض يقرأ في ما بعد الحداثة " أيديولوجية النظام العالمي الاستعماري الجديد "على حد تعبير المفكر المصري عبد الوهاب المسيري، كما أن ما بعد الحداثة لا تعني سوى " منطق الربح والهيمنة وفوضى السوق، كما وتبقى في النهاية دعامة أيديولوجية لمجتمعات الوفرة والاستهلاك ".
هذا التيار الذي أخذ موقفاً قصوياً من مفهوم ما بعد الحداثة عن طريق رفضه المسبق له، لم ينظر إليه وفق طاقته النقدية والتشغيلية التي تمكننا من نقد الغرب عبر أدوات الغرب ذاتها، فما بعد الحداثة استطاعت زعزعة المركزية الغربية عن استقرارها وقوضت مفهوم التمركز اليقيني، ومن شأن مثل هذه الأدوات والمفاهيم إذا أحسنا استخدامها أن نتمكن من خلق سيرورة ذاتية خاصة بنقد الحداثة لدينا وفي الغرب بحيث نمتلك إرث الحداثة استيعاباً وإدماجاً.
لكن وفي مقابل هذا التيار نشأ تيار آخر مضاد في الفكر العربي رأى في ما بعد الحداثة " فضاءً فكرياً جديداً ومغايراً " أخذ ينبثق ويتشكل. وهذا الفضاء ليس مجرد امتداد للحداثة على الصعيد الوجودي ولا هو مجرد تأويل لها على الصعيد المعرفي، وإنما هو اختراق لفضائها وتفكيك لمنطقها، وخروج على نماذجها "وأبرز من يمثله المفكر اللبناني علي حرب .
أما الإدعاء بأن تمثل قيم ما بعد الحداثة الفوضوية والعدمية في المجتمع العربي سيكون ذا مردود سلبي أو أثر تدميري، سيّما وأن قيم الحداثة ذاتها كالعقلانية والتنوير والعلمية لم تترسخ في المجتمع العربي فإنه ليس من الضروري أن نمر بالأطوار ذاتها التي مرت بها المجتمعات الغربية الحديثة، كما أن الأمر هو على عكس ما يُظن، أي أن استثمار الأدوات المفهومية لفكر ما بعد الحداثة، قد يُفسِّر تعثر مشاريع التحديث والعقلنة في العالم العربي.

بعض أعماله:
-حقوق الإنسان العربي (بالاشتراك)، بيروت:مركز دراسات الوحدة العربية، 1999.
-مسيرة حقوق الإنسان في العالم العربي، بيروت ؛الدار البيضاء:المركز الثقافي العربي، 2....
-الإسلام والفكر السياسي:الديمقراطية –الغرب-إيران (محرر ومشارك)، بيروت ؛الدار البيضاء:المركز الثقافي العربي، 2....
-محاضرات في حوار الحضارات(بالاشتراك)، دمشق:مركز الدراسات الثقافية العربية-الإيرانية، 2..1.
-صدى الحداثة:ما بعد الحداثة في زمنها القادم، بيروت ؛الدار البيضاء:المركز الثقافي العربي، 2..3.
-العرب وتحولات العالم:من سقوط جدار برلين إلى سقوط بغداد(حوار مع برهان غليون)، بيروت؛الدار البيضاء:المركز الثقافي العربي، 2..3.
-الإسلاميون والمسألة السياسية (بالاشتراك)، بيروت:مركز دراسات الوحدة العربية، 2..3.
-سؤال التجديد في الخطاب الإسلامي المعاصر، بيروت:دار المدار الإسلامي، 2..4.
-خطاب التجديد الإسلامي :الأزمنة والأسئلة (بالاشتراك)، دمشق:دار الفكر، 2..4.وقد ترجم إلى اللغة الإنكليزية (Islamic Reconstruction Discourse :The Times and The Questions).
-الجولان في صراع السلام (إعداد وترجمة)، دمشق :دار الأهالي، 2..4.
-أيديولوجيا النهضة في الخطاب العربي المعاصر، بيروت:دار الطليعة، 2..4.
-نحو مجتمع مدني في سورية:حوارات"منتدى الحوار الوطني"(محرر ومشارك)، باريس:أوراب للنشر، 2..4.
-الإصلاح في سورية بين السياسات الداخلية والتحولات الإقليمية والدولية (محرر ومشارك)، جدة:مركز الراية للتنمية الفكرية، 2..5.
-المثقف ضد السلطة:حوارات المجتمع المدني في سورية، القاهرة:مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، 2..5، قيد النشر.
-السلام الداني :المفاوضات السورية-الإسرائيلية، بيروت :مركز دراسات الوحدة العربية، 2..5، قيد النشر.
-الإسلام في عالم متغير :سياسات الإصلاح الإسلامي بعد 11 أيلول (بالاشتراك)، دمشق:دار الفكر، 2..5، قيد النشر.