حوار مع الصحافي العراقي ماجد عزيزة

حاوره د.إسماعيل نوري الربيعي – تورنتو: تشوقه الكلمات نحو سواحل التفجر، ينأى بعيدا عله يستنشق الهواء العليل، لكنه يقع في مصيدة الفخاخ من الأفكار التي يراها جميلة، حتى تعن على رأسه جذوة الكتابة، فيشرع في تدبيجها، غير عابيء بما يترتب عنها من نتائج. مغامرة الكتابة التي تحط بثقلها عليه، تجعله في دائرة الملاحظة، ومن هذا تراه يغور في التفاصيل التي يراها البعض عبئاً، فيما يراها هو هما رئيسا، وشرطا رئيسا في مزاولة حرفة الكتابة.يفترش الأوراق والمسودات والدفاتر القديمة، كأنه يبحث عن الغائب التي تراءى له ذات يوم في أزقة بغداد، أو في حواري الموصل، أو حتى في شوارع تورنتو.
هو الماضي نحو مفترق الطرق الفسيحة، يناجي هوة الإحتراق في وعثاء الحروف وجمر الكلمات التي طالما أحرقت يديه، حتى عمد إلى كتم أنينه وصراخه، في ممارسة الملاحظة والترقب والترصد.ماجد عزيزة صحفي آثر الإستناد إلى شرط البوح، في زمن لا يرى في البوح سوى خروج على المألوف، ومحاولة لكسر القاعدة. عاشق حد التفان في قسمات وتفاصيل هذه السيدة المغناج، التي يدعونها صحافة، مستعد أن يقف على بابها حاملا كراسته وقلمه وكاميرته الديجيتال التي اقتناها مؤخرا. بشغف التلميذ ووجد الحالم وارتعاشة المتأمل. ومن هذا تراه وقد أمضى الشطر الأكبر من رغباته وأمانيه، مستظلا بفيء صاحبة الجلالة، يناجيها فترد عليه تارة وتتمنع عليه تارات.

* كأنه الهاجس الذي يتقمصك، وليس الحرفة، لاتفتأ ترى العالم من خلال الصحافة، ولو كنت رساما للكاريكاتير، لما ترددت لحظة من رسمك وأنت تمسك بجريدة وقد عملت فيها ثقبا من الوسط لتنظر إلى العالم من خلالها؟
- هي الحياة لدي، فبدونها لا استطيع التنفس، انا داخل اروقة صاحبة الجلالة كما السمكة داخل البحر لو اخرجتها برهة فطست وماتت، لقد صارت الصحافة عندي كوجبات الغذاء الثلاث، بل قل العشر، فهي معي من شروق الشمس حتى يأذن الله لي بأن اغفو قليلا، ثم تاتي لي اطيافا مع الشخير، ثلاثون عاما ونيف امضيتها وأنا اتعامل مع الحرف والكلمة، وأعيش ما بين الحبر والورق داخل المطابع ومع المحررين والكتاب والشعراء واصحاب اللغة والفنانين، وعمري الصحفي يمتد لأكثر من قرن، فالعائلة تمتد تاريخا طباعيا نحو العام 1919 حين أسست اول مطبعة في الموصل باسم دار السلام التي انقلب اسمها إلى الشرقية الحديثة ثم الأديب البغدادية، وتاريخا صحفيا إلى أربعينات القرن الماضي في جريدة صوت الأمة الموصلية.
حاليا وبعد ارتداء ثوب الحرية، اعيش احداث العالم من خلال الثقب الذي وضعته ( انت) وسط الجريدة، امد خلاله نظري نحو الكرة الأرضية ابحث عن كل شيء مثير، وقد تعلمت ألا اغرف الأخبار بشبكة بل بسنارة صياد، كثير من ألوقات لا يستهويني الخبر العادي، لكني أعدو وأركض مسرعا نحو الخبر المثير، وأعجب جدا بخبر الرجل الذي يعض الكلب وليس العكس.


* صحافة الإغتراب أو الهجرة، تبقى تعاني من النقص ؛ في التمويل في الإخراج في التقاليد، تبقى تجربة ولكنها مرهونة بالمزيد من العوامل؟
- تجربة كان لابد منها، لإثبات الذات أولا، وقد وجدتها مذ ولجت اليها قبل ثلاث سنوات ونصف السنة، ساحة تعج بالمتناقضات، فلا قانون مهني يحددها ولا علاقة تجمع بين شخوصها، والسبب ان أغلبها ليست بيد اصحابها، بل قد اتخذها البعض ( بزنس) يقتات وأهله عليه ، فلا دخل له بمصدر الخبر ولا بالحق القانوني المحفوظ اخلاقيا لصاحب المقال، ولا حتى بحق زمالة المهنة. وهي ستبقى تعاني ما دامت لا تعمل داخل مؤسسة تحدد اخلاقيات المهنة وطرق ممارستها، وستبقى تعاني ما دامت ( مجانية ) التوزيع، وستبقى تعاني ما دام صاحب محل القصابة والبقالة يتحكم في مصيرها باعلانه. تصور يا اخي ان ( بقالا اميا) يسحب اعلانه من الجريدة بسبب رأي يخالف رايه في أحد المطربين ! لن يقوم لصحافة المهجر قائمة إلا بتآلف شخوصها ونكرانهم لذواتهم والتئام شملهم تحت خيمة واحدة تدير بعضا من شؤونهم.


*في العراق اليوم ثمة انفجار صحفي، كأنه يضاف إلى الإنفجارات التي تعصف بالعراق، نعي جيدا ضرورة التفريق بين الغث والسمين، ولكن هذا الغث الزاحف فيه من المخاطر والرزايا الكثير، كيف يمكن تلمس مستقبل الصحافة في العراق؟
- فورة بدأت بالإنكماش، وازيز بات يخبو شيئا فشيئا، لكنها كانت انفجارا صحيحا كان يجب أن يحدث، فبعد كتم الأنفاس وخنق العبارات ولجم الكلمات، قفز شيطان الكلمة مع سقوط التمثال ليهشم كل الرموز، فراح الجميع ( يخترع الصحف ويؤسسها ) كما يحلو له، فامتلأ الشارع والرصيف ورفوف المكتبات وحتى دورات المياه بالورق المطبوع، بحيث بات القاريء يشعر بالإختناق من شدة زحام العناوين، حتى بدأ البعض يبحث عن أي اسم ليسمي به جريدته، فقد انتهت الأسماء وتاهت بين بائع الكعك والميكانيكي وصاحب الحمام الشعبي، فالكل صار صاحب جريدة. لكنها كما موج البحر ياتي هادرا ثم يخبو وتخف جذوته وقوته.
لكن ذلك الكم كان اختبارا لأصحاب الشأن كي يضعوا الخرسانة المسلحة في طريق الصحافة الجديد، وامتحانا لهم في المطاولة الصحفية، فما من متطفل إلا وينتهي تطفله بزوال السبب، لهذا زالت عناوين كثيرة لصحف بعضها لم يعش إلا يوما واحدا.


* ملثمون وفاسدون، مفخخون وعبثيون، التناقضات التي يعيشها العراق، أين يمكن ترصد دور الصحفي، هذا الراصد والباحث عن العلاقات العميقة، والكاشف لها من دون رتوش أو التباسات؟
- في البحث عن سبب وجود ( التلثم والتفخيخ والتفجير والقتل والتدمير)، فما من شيء يخلق عبثا، ولو عدنا إلى سبعينات القرن الماضي لوجدنا ان نظام حزب البعث قد استعمل السيارات المفخخة في محاولة تصفية القيادة الكردية بعد فترة قليلة من التفاوض معها، ثم نذكر جميعا السيارة المفخخة التي انفجرت في شارع الرشيد واتهم فيها النظام ( المخابرات السورية )، اذن عمليات تفخيخ السيارات هي امتداد للاعمال التي مارسها النظام حين كان يحكم، وما زال يمارسها عن طريق عناصره ومرتزقته حاليا. واجب الصحفي حاليا هو تبصير المواطن، الإنسان بعواقب هذه الأعمال، وازالة الغشاوة عن عيون البعض، ومحاولة افهامه ان العنف لا يولد إلا مثله بل أقسى منه، الصحفي الآن في العراق وخارجه عليه أن يوجه قلمه شطر ترسيخ ثقافة التسامح والمحبة وقبول الآخر، وعدم بث روح التعصب والطبقية والطائفية، ونبذ ثقافة العنف وتصفية الآخر.


* عن فسحة الحرية، وعن شرط الكتابة، جاءت المرحلة الجديدة، فهل الأمر يحتاج إلى تأهيل لتقبل الجرأة في الطرح، هل يمكن التواقف مع شروط النقد الموضوعي، من دون الإستناد إلى ثقافة سل الخناجر؟
- هجمت رياح الحرية على زملاء القلم داخل الوطن الأم بعنف، أي ان ريح الحرية هي التي جائت اليهم ، اما نحن الذين غادرنا خارطة الوطن منذ زمن، فنحن الذين ذهبنا اليها، ونهلناها قطعة قطعة، لهذا فزملاء الكلمة في الداخل ( ليس جميعهم بالطبع) قد هبت عليهم عاصفة الحرية فجأة، وهم مؤهلون للجرأة، فهي ( أي الجرأة) تلبسهم كالثوب، لكنها كانت مخفية تحت ثياب القهر والتسلط وخوف العاقبة، فلا تأهيل لتقبل الجرأة أبدا، فهي سائل يسري مع الدم، وقد تفجرت شرايين اجزاء الجسم، وخرج السائل بشتى الألوان، ليصبغ صفحات الجرائد. ولم أسمع بزميل استل سيفا بدل القلم، أو تأبط مدفعا بدل الورق، أو حمل رشاشا بدل الكاميرا. فلماذا ثقافة الخنجر ؟

* بين الذاتي والموضوعي، يقع البعض من الصحفيين في فخ تصفية الحسابات الشخصية، حتى لتتحول بعض الصحف إلى منبر للإبتزاز لهذا الطرف أو ذاك، عن نبل رسالة الصحفي، عن تقاليد المهنة والاعتبارات الأخلاقية فيها؟
- اعوذ بالله من تصفية الحسابات عن هذا الطريق، ورغم أن البعض يضطر للرد على منتقديه، أو متهميه زورا، إلا أن هذه الساحة ( الصحافة) يجب أن تبقى للمتلقي، ولآ يستغلها الصحفي ويجيرها لنفسه. ان الصحافة سلطة شعبية تنهض برسالتها بحرية واستقلال من أجل تأمين وممارسة حرية الرأي والفكر والتعبير والنشر والحق في الاتصال والحصول على المعلومات الصحيحة ونشرها وتداولها كحقوق أصيلة غير قابلة للمساس بها،
وتسهم الصحافة في نشر الفكر والثقافة والعلوم والارتقاء بها، ثم انها وسيلة للرقابة الشعبية على مؤسسات المجتمع من خلال التعبير عن الرأي والنقد ونشر الأخبار والمعلومات في إطار من الدستور والقانون مع احترام المقومات الأساسية للمجتمع وحقوق وحريات الآخرين ، وحرية الرأي والتعبير مكفولة لكل مواطن في البلدان الحرة، وله أن يعبر عن رأيه بكافة الطرق كالقول والكتابة والتصوير والرسم وغيرها من وسائل التعبير، أن غاية العمل الصحفي ليست مجرد القيام بعمل صحفي، تماماً كما أن علم الجراحة لا يسعى فقط الى تمزيق المريض وخياطته، غاية الجراحة هي المداواة والشفاء. كذلك، فان غاية الصحافة أكثر من مُجرّد نقل الأنباء وكتابة القصص الإخبارية، وان كانت المهارة والكفاءة لذلك ضرورية، على غرار الجراحة. إن هدفها له علاقة بأمر أساسي أكثر هو خدمة المجتمع وتحقيق مصلحته.إن السعي الدؤوب للحصول على الأخبار وتقديمها بصورة مستقلة هو الطريقة التي تخدم بها الصحافة الصالح العام، وهو مفهوم يتجاوز الأنظمة السياسية. كذلك، فان الصحافة ليست غاية في حد ذاتها، بل هي الوسيلة المهنية التي يستطيع بواسطتها المراسلون والمحررون خدمة الصالح العام. انهم يحققون ذلك بتأمين الأخبار والمعلومات التي يحتاجها الناس الأحرار لاتخاذ القرارات السياسية، والإقتصادية، والإجتماعية، والشخصية. هكذا افهم مهنتي التي لبستها بارادتي، وصارت جزءا مني وستيقى معي حتى آخر نبضة.