بتكليف من المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل درست الأكاديمية الوطنية للعلوم موضوع حظر سيارات الديزل في المدن الألمانية الذي يثير جدلًا حكوميًا حادًا منذ أشهر.

إيلاف من برلين: هدد الاتحاد الأوروبي بحظر سيارات الديزل في 70% من المدن الألمانية، بسبب تجاوزها الحد الأقصى للمواد الضارة في أجوائها. وإذ يقترح البعض حظر سيارات الديزل من دخول مراكز المدن، ويقترح البعض الآخر جعل النقل في مراكز المدن الألمانية الكبيرة مجانيًا، قررت رئيسة الحكومة الألمانية اللجوء إلى العلماء للفصل في الموضوع.

توصل الباحثون من الأكاديمية الوطنية للعلوم في ليوبولدينا (قرب مدينة هاله/شرق)، في تقرير لهم نشر أخيرًا، إلى أن حظر أو تحديد سيارات الديزل لن ينقّيا أجواء المدن. كما انتقد التقرير خطط الحكومة الألمانية التي تركز على خفض انطلاق غاز ثاني أوكسيد الكربون من عوادم السيارات، وتنسى نسبة ذرات السخام المنطلقة منها.&

ويرى العلماء أن ذرات السخام الصغيرة أخطر بكثير من الغازات، لأنها تمس صحة البشر مباشرة. إذ تخترق جزيئات السخام الحاجز المناعي في القصبات الهوائية، وتستقر في الجهاز التنفسي، لتسبب أخطر الأمراض السرطانية. ويقدر الاتحاد الأوروبي وفاة 300 ألف أوروبي سنويًا جراء المضاعفات الناجمة من انتشار ذرات السخام في الجو.

وصف العلماء إجراء حظر سيارات الديزل بالقصير الأمد، الذي لا يلبّي الدعوة إلى أجواء صحية مستديمة في المدن، ودعوا إلى إجراءات تحقق هدف البيئة الصحة المستديمة.

الحد الأقصى للتلوث غير واقعي
في الحقيقة، فإن المستشارة ميركل قررت البحث في موضوع حظر الديزل بعدما تلقت رسالة من نقابة أطباء الرئة الألمان تشكك بالحد الأقصى للغازات وذرات السخام الذي تعتمده الدولة في تقدير مدى تلوث أجواء المدن.

ويبدو أن العلماء في الأكاديمية الوطنية للعلوم يتفقون مع الأطباء، إذ أفادوا في تقريرهم أن الحد الأقصى لغاز أول أوكسيد النتروجين، المحدد بـ 40 ميكروغراما في كل متر مكعب من الهواء، غير واقعي.

وأشاروا إلى أن تلوث الجو في ألمانيا يتراجع بالتدريج، وأن إجراء مثل قانون حظر سيارات الديزل في المدن لن يسرع في تصفية هذه الأجواء في ظل المسببات الأخرى للتلوث، وأن وضع خط محدد بين "التلوث الخطر" والتلوث "غير الخطر" متعذر من الناحية العلمية. ولهذا فإن المزيد من التشدد، أو تقليل الحد الأقصى للتلوث، لن يفيدا أجواء المدن الملوثة كثيرًا.

ومعروف أن الحكومة الألمانية قررت الرد على تهديدات الاتحاد الأوروبي بمنع سيارات الديزل في 10 مدن ألمانيا ملوثة الأجواء بطريقة بيئية دبلوماسية. إذ تقدمت الحكومة الألمانية إلى المفوضية الأوروبية باقتراح لجعل النقل العام داخل المدن الألمانية مجانيًا بهدف تقليل انبعاث غازي ثاني أوكسيد الكربون والنتروجين وذرات السخام من عوادم السيارات.&

وهو مشروع مشترك شاركت في تقديمه وزيرة البيئة الاتحادية بابرا هيندريكس ووزير النقل الاتحادي كريستيان شميدت ووزير دائرة المستشارة بيتر التماير. ويرى الثلاثة أن المشروع يخفف العبء المالي والبيئي عن المواطن، خصوصًا أن 70% من المدن الألمانية قد يشملها حظر سيارات الديزل الأوروبي خلال السنوات المقبلة.

اقترحت الحكومة الألمانية أن تبدأ تجربة النقل المجاني في الحافلات والترامات والمترو في مدن ألمانية معيّنة، بينها العاصمة السابقة بون ومدن أيسن وهيرنبيرغ ورويتلنغن ومانهايم.

التركيز على تقليل أول أوكسيد النتروجين لا يحقق الهدف
كتب العلماء أن ذرات غاز أول أوكسيد النتروجين في الجو تفاقم أمراض الرئة، وتفاقم تلوث ذرات السخام في الجو، إلا أن مزيدًا من التشدد في حالة هذا الغاز لن يحقق الهدف. وينبغي التركيز والتشدد في ذرات السخام الصغيرة والكبيرة التي تنطلق من السيارات، لأن ذرات السخام الملوثة تهدد صحة الإنسان وتفاقم أمراض الرئتين والقلب والدورة الدموية.

لن ينقي منع الديزل في مراكز المدن&أجواء هذه المدن، وهو قرار يشمل مناطق صغيرة من ألمانيا، كما إنه إجراء موقت لا يحبذه علماء الأكاديمية الوطنية للعلوم.

فالسيارات، ورغم اعتبارها الملوث الأول للجو، لا تنفرد في قفص الاتهام. فإنتاج مصادر الطاقة، والصناعة والزراعة والطيران والنقل البحري... إلخ من مسببات التلوث. ورغم أهمية هذه العوامل الملوثة، فإن الإجراءات القانونية لا تطاولها بالشكل الذي يطاول السيارات. ويكشف تقرير الدائرة الاتحادية للبيئة حول التلوث في مركز مدينة شتوتغارت أن حصة السيارات والنقل عمومًا لا تتعدى النصف من هذا التلوث.

وأثبتت دراسة لدائرة البيئة الاتحادية أن الصناعة أكثر تلويثًا للأجواء من السيارات. كما إن الصناعة مسؤولة عن 33 في المائة من الأضرار البيئية، والسيارات والنقل عن 20 في المائة، وتتوزع النسب الأخرى بين التلوث الآتي من البيوت (16%)، ومن محطات الطاقة... إلخ.

طرق مختلفة للقياس
انتقد الباحثون عدم توحيد طريق قياس تلوث الجو بذرات السخام والغازات الضارة بالبيئة. فلكل بلد طرقه الخاصة، كما لا توجد معايير محددة حول مستوى وضع جهاز القياس، وعلى أي أرتفاع، وفي أي منطقة، وفي أي تقاطع طرق... إلخ، وتلعب هذه العوامل دورًا مهمًا في تغيير قياس نسبة التلوث بين مدينة وأخرى ودولة وأخرى. لذلك دعا العلماء الألمان إلى نظام قياس موحد للتلوث على المستوى العالمي.

لا يعتبر قسر السكان على التخلي عن سيارات الديزل لمصلحة سيارات البنزين من الحجم نفسه واستهلاك الطاقة "غير النظيفة" نفسه لا يعتبر الحل البعيد المدى، بل على الحكومة أن تركز على استبدال سيارات البنزين والديزل بالسيارات التي تستخدم الطاقة البديلة.

ويعوّل علماء الأكاديمية الوطنية للعلوم، في الوضع الحالي، على تطوير تقنيات تخليص محركات الديزل والبنزين من الملوثات، وعلى إشاعة النقل الكهربائي، أكثر من التعويل على أساليب الحظر ورفع الأسعار وغيرها.

المناطق البيئية في مراكز المدن لم تنفع
كانت مدينة كولون، أكبر مدن الراين، أول مدينة تطبق نظام المنطقة البيئية "المنزوعة الغاز" في مركزها عام 2007، وهي مناطق تحظر فيها السيارات القديمة والآليات غير المزودة بمرشح للسخام.&

وحذت مدن كبرى أخرى حذو مدينة "الدوم"، لكن أجواء هذه المدن بعد مضي 10 أعوام لم تتحسن كثيرًا، الأمر الذي دفع العلماء الألمان إلى البحث عن الملوث الحقيقي لأجوائها.

وذكرت دائرة البيئة الاتحادية في آخر تقرير لها حول المدن أن المناطق البيئية التي فرضت حول المدن، وزيادة كثافة الأحزمة الخضراء حول مراكز المدن، لم تقللا كثيرًا ذرات السخام في أجواء هذه المدن. والأهم أنهما لم تؤديا إلى رفع المدن الألمانية الكبيرة من القائمة الأوروبية للمدن الأوروبية الملوثة. الجدير بالذكر أن 20 بروفيسورًا من 12 تخصصًا ساهموا في كتابة تقرير الأكاديمية الوطنية للعلوم.
&