جمع رئيس أوروغواي رصيداً داعماً من شعبه، وجنده في خدمة بلاده، حينما سمح للجميع بتعاطي الماريغوانا، ورفض الإقامة في قصر الرئاسة، واكتفى بالإقامة مع سيدة البلاد الأولى في منزل بسيط في إحدى القرى المتواضعة على مشارف العاصمة، وبمنطق الزاهد كشف عن فلسفته في كراهية الثراء.


القاهرة: رغم ما تؤكده المعطيات بأن رئيس أوروغواي خوزيه موخيكا يعتلي قائمة زعماء العالم الأكثر فقراً، إلا أنه يرى نفسه ثرياً أو فاحش الثراء، إذ تنصب فلسفته في هذا الخصوص على أن الفقير ليس ذاك الشخص الذي لا يجد مالاً، وإنما في الشخص الذي لا يكفيه ما يحصل عليه من أموال ويطلب الأكثر، ورغم تلك الفلسفة التي تتسم بالزهد، إلا أن موخيكا سمح لشعبه بتدخين الماريغوانا، معتبراً إن تعاطيها حرية ينبغي ممارستها من دون قيود.

وأوضح الرئيس المثير للجدل أنه لا يعيش حياة تقشف، وإنما يستمتع بحياته لاسيما أنه لا يجند كل وقته للحصول على المال، وإنما يكتفي بتحصيل ما يعيش به فقط، ويخصص بقية وقته لفعل ما يريد، مؤكداً بحسب تقرير نشرته مجلة "والاّ" العبرية، إن الحرية وارتجالية الحياة أفضل بكثير من الثراء المادي، الذي يفضي بالإنسان ليصبح أسيراً لشهوة المال.

طفولة بائسة

وتشير أوراق موخيكا الخاصة إلى أنه من مواليد 20 أيار (مايو) عام 1935، من أب ينحدر من إقليم الباسك، وأم ابنة لمهاجرين من ايطاليا، كان والده ديمتراو عاملاً زراعياً بسيطاً، لكنه فارق الحياة عام 1940، فعاش موخيكا طفولة بائسة، يخيم عليها الفقر.

وفي ستينيات القرن الماضي انضم الى حركة "توبماروس"، وهي حركة التحرير الوطني في بلاده، تتألف من مجموعة سياسيين مسلحين، استقت الرغبة في تحرير بلادها من الثورة الكوبية، ووسط هذا المناخ كان موخيكا ثائراً صغيراً في صفوف الحركة، ومارس العديد من الأنشطة العنيفة، وخدم الحركة التي ينتمي إليها بكل ما أوتي من قوة.

نهاية الستينيات وبداية السبعينيات كانت فترة مفعمة بالتوترات داخل أوروغواي، إذ فقد نظام الحكم قدرة السيطرة على الشعب، لاسيما بعد ارتفاع وتيرة الفقر بين شرائح المجتمع المختلفة، فتعرضت الدولة لموجات من أعمال العنف، وبدأ الجيش في التدخل رويداً رويداً.

تعرض موخيكا لإطلاق النار ست مرات خلال مطاردات شرطة بلاده له، وفي عام 1971 اتهم بقتل شرطي وحكم عليه بالسجن، إلا أنه تمكن من الهروب مرتين متتاليتين، فخلال عملية أمنية موسعة تم إلقاء القبض عليه وإيداعه السجن لمدة أربعة عشر عاماً كاملة، قضى عشر سنوات منها في حبس انفرادي، وأحياناً ما كانت إدارة السجن تلقيه في بئر عميق وتلقي له بقطع من الخبز ليقاوم الموت، كما حظرت إدارة السجن عينه حلاقة شعره لمدة عام كامل، إلا أنه كان بالغ الصلابة والتحمل، وفاق صبره صبر زملائه في السجن ومنهم "هنري انجلر"، الذي كان طالباً في كلية الطب، وأصيب بانهيار نفسي تام في السجن، وعن ذلك يقول موخيكا: "تعلمت كيف أبدأ من جديد في كل مرة يراودني الانهيار. وعن قوة صبره وتحمله، قالت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية: "إن موخيكا يتصدر قائمة ساسة العالم صبراً وجلداً".

العمل السياسي أفضل الطرق للتغيير

وفي عام 1985 بدأ موخيكا حياته من جديد، بعد مرور 12 عاماً من الديكتاتورية العسكرية، إذ تم إطلاق سراحه، وعلى حد قوله، أضافت له سنوات السجن مفهوماً جديداً للعالم، وبات على يقين بأن الطريق الأوحد للتأثير والتغيير ينبع من العمل السياسي، فانضم وصديق له لتنظيمين يساريين، أحدهما "حركة الاشتراك الشعبي"، وهي حزب منشق عن حزب "الجبهة العريضة"، الذي يتألف من عدة أحزاب يسارية صغيرة، ولعبت الكاريزما ورغبته الحثيثة في التغيير دوراً كبيراً في منحه شعبية واسعة وقوة بين أبناء شعبه.

في تلك السنوات بزغت في أميركا الجنوبية شمس حمراء، وانتعش التوجه الاجتماعي، وفي عام 2004، تحولت كتلة موخيكا الى اكبر كتلة في حزب "الجبهة العريضة، حينما تألفت من 300 ألف صوت، وتم تعيين موخيكا وزيراً للزراعة والصيد، وساعد رئيس بلاده في حينه "تابارا واسكس" في إجراء إصلاحات دمجت تركيبات اجتماعية مع أساسيات السوق الحرة. حينئذ غيرت أوروغواي اتجاهها، وهبطت معدلات البطالة والفقر في الدولة، ورفعت الاستثمارات الداخلية والخارجية مستوى البلاد الاقتصادي، ونظراً لأن الدستور في أوروغواي لا يسمح بانتخاب رئيس جديد للبلاد، طالما أن رأس النظام لا يزال في السلطة، فطن الجميع إلى أن موخيكا هو الخليفة المنتظر للرئيس واسكس.

فاز موخيكا في انتخابات بلاده الرئاسية نهاية عام 2009، وفي الأول من آذار (مارس) 2010، تولى مهام منصبه، وفي أعقاب فوزه الساحق في الانتخابات، أعلن أنه لن ينتقل للإقامة في قصر الرئاسة الفاره بالعاصمة، وإنما سيواصل الإقامة في منزله البسيط وفي قرية اقل بساطة مع سيدة البلاد الأولى السيناتورة "لوسيا توبولنسكي"، التي تتبرع هي الأخرى براتبها من الحكومة للشعب.

رجل الشعب ونصير البراغماتية

لم يغيّر موخيكا نمط حياته بعد تولي الرئاسة حتى ولو بقدر طفيف، وعن ذلك قال مازحاً: "إذا طلبت من الشعب أن يعيش في المستوى عينه، الذي أعيش فيه، لكان الشعب أول من قتلني"، فزعامة موخيكا شعبوية، فالجميع يلتف حوله لأنه يرى فيه رجل الشعب، الذي أصر على تحويل بلاده من الراديكالية المتطرفة إلى البراغماتية، واثبت أن موقعه على قمة هرم السلطة، يلزمه بالإصلاح.

وعن نفسه يقول: "أبدو وكأنني رجل هرم وغريب، لكن ذلك هو اختياري وليس فرضاً من أحد"، وشهد على نفسه حينما قال إنه سيظل مقاتلاً شرساً رغم وصوله لسن الثامنة والسبعين، ولم يختلف ذلك عن شراسته في القتال حينما كان في الثامنة عشرة من عمره.

ويميل للطاقة الخضراء، ويعتزم خلال السنوات المقبلة أن تعتمد بلاده على الطاقة الخضراء بنسبة 45%، بينما سيعتمد على 30% من الطاقة على توربينات الهواء، ما يضع اوروغواي على رأس قائمة الدول المنتجة للكهرباء اعتماداً على سرعة الرياح.

ووجه موخيكا الحديث لأبناء شعبه متسائلاً: "إنكم ترغبون في أن نكون في مصاف الدول الغنية، أليس كذلك؟، تخيلوا معي كيف الحال إذا امتلك الهندي على سبيل المثال أموالًا وثروات لا تقل عن نظيره الألماني، هل كان من الممكن أن يتبقى لنا أوكسجين لاستنشاقه؟".

وشن موخيكا هجوماً لاذعاً ضد مؤتمر "راو" الذي نظمته الأمم المتحدة، وتساءل مستنكراً: "هل تتوافر الموارد العالمية اللازمة لوضع ثمانية مليارات إنسان في مستوى يضاهي سكان الدول الأغنياء، فالعالم في حاجة للعدالة أكثر من أي شيء آخر".