قدم هذا القانون عضو الكونجرس اليهودي عن ولاية كاليفورنيا «توم لا نتوس« المشهور بعدائه للعرب، وتصريحاته المطالبة بالهيمنة على الدول العربية، والذي يوصف في المصادر الأمريكية بأنه عضو الكونجرس الحي الوحيد الذي نجا من الهولوكست (المحرقة) في أوروبا أيام حكم النازي في ألمانيا.
ومن المهم أن نشير الى علاقة صدور هذا القانون بسعي الرئيس جورج بوش لتجديد ولايته، ومنافسته مع المرشح الديمقراطي جون كيري على الفوز بأصوات اليهود في الانتخابات الرئاسية المقرر لها نوفمبر 2004.
وقد نقلت وكالات الأنباء أن جون كيري هتف في اجتماع انتخابي عقد في فلوريدا باللغة العبرية صائحاً «يعيش اليهود«! الرئيس الأمريكي الذي لم يتوقف عن الدعم اللامحدود للسياسات الإسرائيلية العنصرية، وموافقته الصريحة على الإبادة المنهجية للشعب الفلسطيني، والذي يأمر ممثل الولايات المتحدة الأمريكية في مجلس الأمن بأن يستخدم حق الفيتو ضد أي قرار لإدانة إسرائيل، هو نفسه الذي سارع بتوقيع القانون الذي أصدره الكونجرس بصدد معاداة السامية. ليس ذلك فقط بل أنه وقف متحدثاً أمام آلاف من المؤيدين المتحمسين قائلاً «إن الدفاع عن الحرية يعني أيضاً مهاجمة الشر الذي تجسده معاداة السامية«. موضحاً أن القانون الجديد سيسمح بوضع لائحة بجميع الأعمال المعادية للسامية في العالم، ولائحة بعمليات الرد الواضحة على هذه الأعمال.
ومن الملفت للنظر أن وزارة الخارجية الأمريكية اعترضت على القانون. وقال ريتشارد باوتشر المتحدث باسم الوزارة «أن تقارير منفصلة حول الديانات المختلفة ليست ضرورية، حيث إننا نصدر تقارير تبحث أوضاع حقوق الإنسان والحريات الدينية في أكثر من 190 بلداً«. والواقع أن قانون معاداة السامية وخصوصا في مجال الجزاءات التي تكفل للرئيس الأمريكي توقيعها على الدول التي تحدث بها وقائع معادية للسامية، مثله مثل قانون حماية حقوق الإنسان والحريات الدينية، والذي سبق للكونجرس أيضاً إصداره، والذي يعطي للرئيس الأمريكي حق إصدار الجزاءات المناسبة ضد الدول التي تخرق حقوق الإنسان، يفتقران للشرعية القانونية والدولية. فالولايات المتحدة الأمريكية بهذين القانونين تخرق قواعد الشرعية الدولية التي لا تسمح لدولة بإرادتها المنفردة بإصدار تشريعات عن طريق مجالسها النيابية، وتوقيع جزاءات وفقا لتقديرها ضد دول أخرى، زاعمة في القانون الأول خرقها لحقوق الإنسان والحرية الدينية، أو وفقا للقانون الجديد عن وقائع صحيحة أو كاذبة عن معاداة السامية.
سلوك غريب يمارسه أقطاب الإمبراطورية الأمريكية، الذين نصبوا أنفسهم أبطالاً في مقام الدفاع عن حقوق الإنسان ومعاداة السامية، في الوقت الذي تمارس فيه القوات المسلحة الأمريكية أفظع الجرائم ضد الإنسانية في العراق، وتنفذ القوات المسلحة الإسرائيلية المدعومة أمريكيا عسكريا وسياسيا خطتها في تصفية القضية الفلسطينية.
غير أن هذا السلوك الأمريكي الذي يكشف بلا جدال عن الخضوع المطلق للابتزاز الصهيوني بشكل عام، وللوبي اليهودي الأمريكي بشكل خاص، يحتاج لفهم دواعيه وأسبابه الى إلقاء الضوء بشكل علمي على الطرق المدروسة التي يستخدمها اليهود للنفاذ الى أعماق الكونجرس الأمريكى، بالإضافة إلى وسائل متعددة أخرى ثقافية وتعليمية وإعلامية. ونظراً للأهمية الكبرى للنتائج السياسية والاقتصادية والثقافية التي يمكن أن تنتج عن تطبيق هذا القانون بالنسبة لدول العالم عموماً وللدول العربية والإسلامية خصوصاً، حاولت أن أتتبع المقدمات التي أدت الى أن يصدر الكونجرس هذا القانون بطريقة شبه إجماعية.
وتبين لي من البحث أن هناك شهادتين قدمتا للكونجرس عن معاداة السامية في أوروبا وذلك في 22 أكتوبر عام 2003، قدمها دافيد هاريس المدير التنفيذي للجنة الأمريكية اليهودية، والأخرى لبول جولدبرج مستشار الأمن القومي للجنة الأمريكية اليهودية وذلك في 16 يونيو عام 2004 وكان موضوعها. «كيف يمكن للحكومات أن تكافح معاداة السامية في منطقة منظمة الأمن والتعاون في أوروبا«.
ويلفت النظر في البداية أن كل من دافيد هاريس وبول جولدبرج قدما في بداية شهادتهما وصفا مطابقا للجنة الأمريكية اليهودية باعتبارها «منظمة العلاقات الإنسانية الأولى في أمريكا، وعدد أعضائها125000 ألف عضو ومؤيد ولها فروع في 33 مدينة عبر الولايات المتحدة الأمريكية، ولها أيضاً برامج ومكاتب في أجزاء أخرى في العالم، بما فيها أوروبا، ومكاتب في كل من برلين وجنيف وبروكسل.
ومعنى ذلك أن هذه اللجنة تمتد بأذرعها كالأخطبوط في ثلاث وثلاثين مدينة أمريكية بالإضافة الى أقطار أخرى في أوروبا، وهي بذلك من خلال برامجها وندواتها ومنشوراتها، تروج لوجهة النظر اليهودية في الأحداث العالمية، بالإضافة الى وظيفتها الرئيسية، وهي الدفاع المطلق عن السياسات الإسرائيلية، والنقد العنيف لكل من ينتقدها، ليس ذلك فقط بل المطالبة بعقابه.
ولدينا في هذا المجال حادثتان بارزتان: الأولى ما تعرض له المفكر الاستراتيجي الفرنسي المعروف بونيفار باسكال، حين أصدر كتابه الشهير «من يجرأ على نقد إسرائيل؟« الذي ترجمه الى العربية الكاتب الصحفي أحمد الشيخ، حيث طالبت الدوائر اليهودية في فرنسا بفصله من عمله كمدير لمركز الأبحاث الاستراتيجية، بل إن باسكال نفسه قرر في مقابلة معه أجراها أحمد الشيخ أنه أخفى أطفاله فترة من الزمان خوفاً على حياتهم وحياته.
والحادثة الأقرب التي نقلتها وكالات الأنباء منذ أيام، هي التصريحات التي أدلى بها نائب رئيس هيئة الإذاعة الفرنسية، والتي قرر فيها أن إسرائيل دولة عنصرية وليست دولة ديمقراطية كما تزعم هى، أو كما تزعم الدوائر الأمريكية.
وقد أجبر الرجل على تقديم استقالته، وحاولت الحكومة الفرنسية تبرئة نفسها من هذه التهمة الخطيرة وهي مجرد انتقاد السياسات الإسرائيلية، مقررة أن تصريحاته لا تعبر عن الموقف الرسمي الفرنسى، وخصوصا أن وزير الخارجية الإسرائيلي كان في زيارة لإسرائيل في محاولة لرأب الصدع بين بلده وبينها، بعدما صرح شارون من قبل أن اليهود الفرنسيين يتعرضون لاضطهاد، وأن عليهم مغادرة فرنسا فوراً والهجرة على إسرائيل.
وأيا ما كان الأمر فيمكن القول «أن الشهادة الأولى أمام الكونجرس لدافيد هاريس قدمها الى اللجنة الفرعية عن الشؤون الأوروبية المتفرعة من لجنة العلاقات الخارجية بالكونجرس، في حين أن شهادة بول جولدبرج الأحدث (في 15 يونيو 2004) قدمت الى لجنة هلسنكي بالكونجرس.
ومعنى ذلك أن ممثلي اللجنة الأمريكية اليهودية لم يتركوا أي منبر داخل الكونجرس والذي تتعدد لجانه إلا وغزوه، بناء على معرفة دقيقة بطريقة عمل الكونجرس، وكيفية تنظيم جلسات الاستماع، والتي عادة ما تكون مصدراً لأفكار ومقترحات بصدد إصدار تشريعات جديدة.
ولو أجرينا مقارنة بين الشهادتين لقلنا أن شهادة دافيد هاريس التي قدمت في 22 أكتوبر 2003 هي الجديرة بالتحليل المتعمق لأنها تتضمن توصيفا ملفتا لأسباب معاداة السامية وطرق مكافحتها.
وكان الرجل من الذكاء بحيث أنه في صدر شهادته حاول الربط بين مصير اليهود ومصير الإنسانية جمعاء! فقد قرر أن نظرية فلسفية يهودية تمت صياغتها منذ عام1906 مبناها أنه في كل مرة يتعرض اليهود لتهديدات، فإنه ليست هناك أي أقلية أخرى يمكن أن تكون آمنة على نفسها. ويضيف أن الخبرة التاريخية تثبت أن هناك علاقة ارتباطية بين ارتفاع معدلات معاداة السامية في أي مجتمع ومعدلات عدم التسامح والعنف ضد الأقليات الأخرى. بل إنه يزعم بكل صفاقة أن معاملة اليهود في أي مجتمع هي «البارومتر« الصحيح لقياس حالة الديمقراطية والتعددية فيه!
ويبالغ أكثر من ذلك ليقرر أن اليهود - وإن لم يسعوا على ذلك - أصبحوا هم الحراس الذي يشيرون الى مواضع الخطر قبل أن تلحق بالآخرين.
ويقرر دافيد هاريس في شهادته الهامة أمام الكونجرس أن اليهود كافحوا عبر قرن كامل ضد معاداة السامية من خلال التأكيد على مبادئ الديمقراطية واحترام القانون والتعددية، وعن طريق تمتين العلاقات بين الجماعات العرقية والدينية، مع مراعاة إلقاء الضوء على هؤلاء الذين يدعون لعدم التسامح أو يمارسونه.
غير أنه قد لوحظ أنه في العقود الثلاثة الأخيرة وخصوصاً في أوروبا أنه تصاعدت موجات معاداة السامية سواء بالطرق التقليدية المعروفة تاريخيا، أو بطرق جديدة مستحدثة.
والسؤال الذي يطرحه: لماذا تصاعدت معدلات معاداة السامية في أوروبا وفي الدول العربية والإسلامية، وهل صحيح أن ذلك بسبب السياسة الإسرائيلية المطبقة ضد الشعب الفلسطيني، كما تزعم أصوات أوروبية متعددة، بالإضافة الى الإجماع العربي والإسلامي على ذلك..؟
سنحاول في المرة القادمة عرض وتفنيد نظرية دافيد هاريس التي قدمها في شهادته أمام الكونجرس، والتي حاول فيها تبرئة الدولة الإسرائيلية من تهمة العنصرية الموجهة لها، ومن إثم الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها في مواجهة الشعب الفلسطيني.