يستنكر بعض المعلقين السياسيين ميل مسؤولين عرب، أو دعوتهم إلى الاستفادة من الخلافات في العلاقات الأوروبية الأمريكية. يعتقد عدد من هذا البعض أن التجربة السابقة في محاولة أكثر الدول العربية الاستفادة من الصراع بين الكتلتين السوفييتية والغربية لم تفرز سوى الجمود السياسي واستمرار التخلف والاستبداد. ويرى عدد آخر أن الدعوة الراهنة، أي بعد انتهاء الحرب الباردة، إلى الاستفادة من الخلافات بين دول أوروبية والولايات المتحدة محكوم عليها مسبقاً بالفشل المؤكد لأن الخلافات وهمية، وإن وجدت، فتافهة. إذ إن أمريكا مسيطرة والغرب متوحد حول ادعاء انتصاره على كافة الأيديولوجيات. المستنكرون العودة إلى اللعب على الكبار يستنكرون لأنهم يلاحظون زيادة في غوغائية أو في قلة نضج صانعي السياسات الخارجية العربية التي تسلك هذا المنحى، وأكثرية بينهم تتصرف بانتهازية وسذاجة فتحصد نتائج مهينة وفي الغالب سلبية. وقد سمعت أحد المستنكرين يصف السياسيين الذين يفكرون في الاستفادة من خلافات الدول العظمى بأنهم لا يتمتعون بأخلاق حميدة لأن أمريكا كريمة معهم وحامية لهم ولا تتوقع منهم الشر مقابل حسناتها.
ما لا يعرفه الكثيرون أن سياسة الاستفادة من تنافس القوى العظمى قديمة. وقد ذهب بعض علماء العلاقات السياسية والدولية إلى القول بأن هذه السياسة تكاد تكون طبيعة ثابتة للعمل الدولي لدول الشرق الأوسط. فقد مارسها مشاهير المماليك عندما تعاملوا مع “الدول - المدن” الأوروبية واستخدموها لدعم مكانتهم في مواجهة الخلافة في بغداد وغيرها. وأبدع في التعامل بها سلاطين الإمبراطورية العثمانية، ومن بعدهم مارسها معظم حكام الدول العربية التي حصلت على استقلالها مع انحسار الإمبراطوريتين الفرنسية والبريطانية ودخلت في علاقات مع الدولتين العظميين خلال الحرب الباردة. ولا يوجد في واقع الأمر ما يرجح كفة المعارضين لهذا الأسلوب في ممارسة السياسة الخارجية أو كفة أنصاره الذين يؤيدون العودة إلى هذه الممارسة.
ومع ذلك فقد اشتد الجدل مؤخراً بين الفريقين بعد أن خرج من يقول إن الامتناع عن ممارسة اللعب مع الكبار منذ أن فرضت الولايات المتحدة نفسها قطباً أوحد عاد بأسوأ العواقب على المنطقة العربية بأسرها، وكذلك العالم الإسلامي. ولا ينقص أصحاب هذا الرأي الحجج، فالمكانات الدولية لكافة الدول العربية والإسلامية وصلت إلى حدود دنيا غير مسبوقة حتى في أيام الاستعمار، أي قبل أن تصبح ذات سيادة واستقلال. ناهيك عن الطريقة التي تقاد بها دول العالمين العربي والإسلامي إلى مؤتمرات لا صوت لهم فيها ولا رأي، واستمرار تدهور الحقوق والقضية الفلسطينية، وتشريع قوانين مخصصة لمحاسبة دول عربية وفرض عقوبات عليها وعقد مؤتمرات قمم دولية لحثها على إصلاح ذاتها والتخلي عن بعض تقاليدها وتغيير مفاهيم وممارسات دينية لا يتناسب بعضها وحاجة “إسرائيل” إلى استمرار التوسع وحاجة أمريكا إلى ترسيخ الهيمنة، رغم أن كثيراً من المفاهيم الأخرى التي لم تمتد إليها دعوة الإصلاح تستحق الأولوية وتسبق المفاهيم التي اختارت أمريكا و”إسرائيل” تغييرها. أحد أهم الأسباب في كل هذه الانهيارات في المكانات العربية أن العرب صاروا من دون نصير دولي.
ويستخدم هذا الفريق كافة الحجج ليثبت أن العرب والمسلمين خاسرون منذ أن توقفوا عن ممارسة هذا الأسلوب والاستفادة من صراعات الكبار ومنافساتهم. ففي العالمين العربي والإسلامي حربان ناشبتان أهلكتا آلاف العرب والمسلمين ودمرتا الكثير مما كان قائماً ولم تشيدا أي جديد، فضلاً عن أن عقدين في ظل هذه السياسة لم يتحقق خلالهما قفزة واسعة نحو الرخاء أو الاستقرار أو العلاقات الطيبة بين دول الإقليم، ولم تحل قضية الفلسطينيين ولم يتوقف نزيف دمائهم وخسائرهم، ولم تعم الديمقراطية الحقيقية التي وعد بها القطب الأوحد وشن حربين بذريعتها، ولم يصبح الإقليم جزءاً من غرب عصري ولم يصل إلى حافة الانطلاق نحو التقدم التكنولوجي والعلمي. المؤكد، كما يقول هؤلاء، أن الإقليم بكامله من أقصى أطرافه في جنوب آسيا ووسطها إلى أقصى أطرافه على شواطئ الأطلسي وحدوده مع أوروبا وإفريقيا، اكتسب ثقافة أشد تطرفاً وأكثر تشدداً وصار العنف أسلوب تعامل سياسي يتقدم على أساليب أخرى كثيرة. وبدت الخسارة أشد ما يكون في السيادة الوطنية إذ اتضح أنه في ظل غياب قطب آخر يوازن نفوذ القطب الأوحد وهيمنته فقدت دول المنطقة قدراً عظيماً من حرية إرادتها وقدرتها على التصرف المستقل في الشؤون الخارجية والداخلية، وهو ما نراه بوضوح في عدد كبير من الدول العربية كما في باكستان وإندونيسيا ونيجيريا، بينما كان أحد أهم أهداف سياسة الاستفادة من تعدد الأقطاب والتنافس بينهم حماية الاستقلال الوطني والمشاركة في حماية السلام العالمي وكانت هدفاً للدول المستقلة حديثاً حين اجتمعت في باندونج، وبعد ست سنوات عادت فاجتمعت في بلغراد عندما نضج القادة وتبلورت الفكرة. وفي الشهور القليلة الماضية أبدع قادة البرازيل وجنوب إفريقيا والهند فكرة جديدة تتناسب مع الظروف الدولية الراهنة، ولم تجد دولة عربية واحدة لها مكاناً في هذا التجمع الناشئ من دول واعدة قررت أن تنتزع من مجتمع القادة العظام حقوقاً لها ومكانة.
المثير للاهتمام أن الجدل ذاته، مع اختلافات، يدور الآن في معظم عواصم دول الاتحاد الأوروبي. إذ إنه بعد عقدين، العقدان ذاتهما اللذان وقع فيهما ما يشبه الإذعان لقطب أوحد في كثير من أنحاء العالمين العربي والإسلامي، يفتح الأوروبيون عيونهم على حقيقة كالصاعقة، وهي أن الغرب غربان وليس غرباً واحداً. فمنذ عقد أو أكثر، طلع عليهم وعلينا، فرانسيس فوكوياما بنبوءة أن الانسجام بين دول الغرب ومجتمعاته سيكون كاملاً، فقد وصل التاريخ، حسب رأيه، إلى نهايته، وانتصرت الليبرالية الغربية، وتوحد الغرب على شرعية واحدة، ولن يحدث، بعد الآن (تاريخ إعلان نهاية التاريخ)، أن تشكك دولة غربية في شرعية دولة غربية أخرى، كما كان يحدث في القرن العشرين وأدى إلى حربين عالميتين.
فتح الأوروبيون عيونهم على حقيقة أن الأمريكيين يريدون شيئاً مختلفاً واكتشفوا أنهم، أي الأوروبيون، على عكس نبوءة فوكوياما، يحملون كثيراً من الشكوك في شرعية القوة الأمريكية وشرعية قيادتها للغرب. لقد قامت شرعية قيادة أمريكا للغرب على أعمدة ثلاثة، وكلها أعمدة انتصبت في سياق وجود إمبراطورية شيوعية سوفييتية خلال الحرب الباردة. أول هذه الأعمدة هو التهديد العسكري السوفييتي لأوروبا الغربية، والاقتناع بأن أمريكا هي الأقوى والأقدر على صد هذا التهديد، ثانيها التهديد الأيديولوجي، أي الشيوعي، وأهلية الولايات المتحدة لقيادة الأيديولوجية المضادة، ثالثها وجود روسيا متشبثة بهذين التهديدين للغرب، التهديد العسكري والتهديد الأيديولوجي. إذ كان هذا التشبث والتصميم من جانب روسيا وتأكيدها المستمر على نواياها التوسعية، الضمان الأعظم لحماية أوروبا من هيمنة أمريكا ومحاولاتها فرض إرادتها على الدول الأوروبية وإخضاعها لمشيئتها.
بمعنى آخر بينما كانت أمريكا في حاجة لإنعاش أوروبا اقتصادياً ومساعدتها على التوحد سياسياً لتساعدها على الوقوف ضد الزحف الشيوعي العسكري والأيديولوجي وإخراج القوات السوفييتية من أوروبا الشرقية والوسطى، كان لأوروبا مصلحة في الوجود السوفييتي في وقت خرجت فيه ضعيفة من الحرب العالمية الثانية، وكان لها مصلحة في القوة الأمريكية لحمايتها من الخطر السوفييتي. وبفضل هذا التوازن بين القطبين الأعظمين استطاع شارل ديجول من ناحية وفيلي براندت من ناحية أخرى الاستمتاع ببعض الاستقلالية والحرية في الحركة الدولية.