المخرج من الازمة السياسية الخانقة التي بلغها لبنان هو في اقامة الدولة الحديثة. يتشبث الدولتيون بفكرتهم هذه مؤيدينها بشواهد عن آثار سلبية تركتها اعوام من الهيمنة السورية على جمهورية ما بعد الطائف وتعمق الطائفية وغياب الاجماع الوطني حول أي شأن من الشؤون العامة.
ترتكز فكرة الدولة كحل للمعضلة اللبنانية على إضعاف الكيانات الجمعية ما دون الدولة المتشكلة كطوائف وولاءات عشائرية ومناطقية، لمصلحة اعادة ضم المواطنين كافراد خالصي الولاء لمؤسسة يتمتعون فيها بقدر متساو من الحقوق والواجبات؛ أي الغاء الوسائط التي تقف منذ قرون بين الفرد اللبناني والسلطة السياسية الاعلى في النطاق الجغرافي المحدد.
لا يخفى ما لهذا التصور من ايجابيات في لبنان واستطرادا في المنطقة العربية الخاضعة لحكم اقليات طائفية وسياسية يزداد افتقارها الى الشرعية بمرور الوقت الفاصل بين الحاضر ولحظة التأسيس وتلاشي وزن اساطير التكوين الاولى ومبررات الاستحواذ الفئوي على الحكم. يتيح القول بقيام الدولة الحديثة كاتحاد للافراد الاحرار الواعين لمصلحتهم في الانضواء تحت سقف كيان سياسي موحد، القفز فوق مسائل الهوية والطائفة والعدد والهواجس الديموغرافية المتجذرة في هذه البقعة من العالم. ويمنح شعورا بالطمأنينة الى وجود حل جاهز وقابل للتطبيق فور ازاحة حكومات الاقليات المتسلطة الفاسدة والسماح بوصول افراد يستمدون شرعية الحكم من صناديق الاقتراع لا غير.
لكن مشكلة هذا التصور المستند الى آليات وتاريخ تطور الدولة في اوروبا وصولا الى الدولة الامة، تجاهله لمفهوم مختلف تماما يتعلق بنشوء الدول في الشرق العربي الاسلامي. وكمدخل لفهم قصور الدولتيين عن تدبر التصور القابل للحياة في هذه البلاد، يمكن الرجوع الى موقفهم المندد بكل ارث السلطنة العثمانية بل بها كدولة وشكل حكم وادارة واقتصاد من خلال رد كل الموبقات الى ما تركه lt;lt;العثملليgt;gt;.
لا تنقص السذاجة هذا النوع من النقد للدولة العثمانية التي ينبغي التأكيد على انها كانت آخر دولة وفية لتراث نشوء الدول في الشرق بصفتها اتحادا للعصبيات تحت ظل العصبية الاقوى. ولا يمكن فهم اهمية الدولة العثمانية من دون العودة الى التفسير الخلدوني لنهوض وانهيار وتتابع الدول والامم في الشرق، هذا بغض النظر عن توافق هذا التفسير او تعارضه مع التفسيرات الاكثر منهجية وlt;lt;ماديةgt;gt; التي كان ابدع ما استطاعت اقتراحه، الغاء الهويات القائمة والمعترف بها شعبيا، كسبيل الى انتاج هوية مشكوك في قناعة أي طرف من اطراف المجتمع العربي المعني، بها.
وغني عن البيان ان هذا النوع من الاقتراحات انتهى في التربة العربية واللبنانية الى اعادة انتاج اشكال رثة من الدول التي موهت انتماءاتها الطائفية والمذهبية الاقلوية بايديولوجيات منتزعة بقلة بصيرة محزنة، من كتاب الدولة الاوروبية الحديثة، ومن دون ان تتمتع في الوقت ذاته بشرعية التمثيل القائم على اتحاد العصبيات (بالمعنى الخلدوني). وها نحن في مأزق العاجز عن الاعتراف بواقعه والتعامل معه كما هو والحالم بدخول ملكوت دولة ليس له النصيب الكافي من مكوناتها.
إذاً، يزعم انصار الدولة انهم وجدوا الترياق لعلة الطائفية والمذهبية بالذهاب ابعد واعمق في استنساخ التجربة الاوروبية. لكنهم بقولتهم هذه يكونون في واقع الامر يمهدون الطريق امام تجربة مريرة اخرى من الصراع بين الهويات والمخاوف والهواجس الراسخة.