نائب رئيس الحكومة الإسرائيلية ايهود اولمرت يبدي اهتماما لا يبديه أي مسؤول حكومي إسرائيلي آخر بتحليل تصريحات محمود عباس (أبو مازن) لعلّه يرى شيئا من ملامح اليوم التالي، أي العمل الذي سيقوم به محمود عباس في اليوم التالي لفوزه في انتخابات رئاسة السلطة الفلسطينية، فالأفعال بعد انتهاء هذه الانتخابات يجب، بحسب تمنيات اولمرت، أنْ تختلف تماما عن الأقوال، وهي لن تختلف، كما يقول، إلا إذا شرع رئيس السلطة الفلسطينية الجديد يكافح ويحارب الإرهاب.
اولمرت، الذي يخشى أنْ يصبح عباس أسير خطاباته، يفضِّل أنْ يفهم ما أظهره المرشَّح الوحيد لحركة فتح من تمسك بالثوابت الفلسطينية على أنّه جزء من اللعبة الانتخابية، ففي اليوم التالي يصبح ممكنا تمييز الجدّ من اللعب!
عباس، وفي لغة سياسية مختلفة تماما وفيما يشبه الرد على اولمرت، حدَّد وأوضح موقفه، الذي حظي بتأييد نحو 560 شخصية فلسطينية، من بينها شخصيات بارزة في منظمة التحرير الفلسطينية، وأعضاء في الحكومة والبرلمان، ومثقفون وشعراء. وكان ذلك إذ قال: لا لعسكرة الانتفاضة واستعمال السلاح من أجل التحرير؛ لأنّ موازين القوى ليست في مصلحتنا. نحن متمسكون بالحل السياسي وخيار السلام، ولا أعتقد، بكل وضوح، أنّ الحل العسكري ممكن. الطريق الوحيد هو خيار السلام.
إنّ عباس، وبخلاف ما يتمناه اولمرت، يسعى في إقناع كل معارض فلسطيني بأنّ للفلسطينيين، في الوقت الحاضر، مصلحة لا تعلوها مصلحة في إعادة السيف إلى غمده، فالفلسطينيون إنّما يقاتلون ضمن موازين قوى لا تسمح إلا بشيء واحد هو جعل قتالهم واستعمالهم للسلاح، دفاعا عن النفس وليس دفاعا عن حقوقهم القومية فحسب، مصدر خسائر سياسية (وغير سياسية) يتكبَّدونها كل يوم، كما أنّ الأهداف القومية السياسية الفلسطينية يمكن ويجب بلوغها عبر المفاوضات السياسية، وبوسائل وأساليب شتّى؛ ولكن ليس في عدادها استعمال السلاح، فهل يؤيِّد الفلسطينيون وجهة النظر هذه؟
أوّلا، لنضع جانبا مسألة السلام، ولننظر في المسألة الأهم الآن ودائما، وهي حماية وتعزيز الوحدة القومية الفلسطينية، فكل خلاف يمكن أنْ يتسبب بالنيل من قوة هذه الوحدة لا بد من درئه. وإذا كان تأييد الفلسطينيين لوجهة النظر تلك يمكن أنْ يأتي بما يحمي ويعزز وحدتهم القومية، وهو الأمر الذي نتوقَّع، فلا بأس من تأييدها ولو اتضح وتأكد، بعد ذلك، أنّ إنهاء عسكرة الانتفاضة ووقف استعمال الفلسطينيين للسلاح لم يؤدِّيا إلى السلام مع إسرائيل الذي على أهميته يظل أقل أهمية من السلام الأهلي الفلسطيني.
معنى ذلك أنّ الفلسطينيين المعارضين لوقف كل شكل من أشكال المقاومة العسكرية يمكنهم وينبغي لهم العدول عن هذه المعارضة إذا كان في عدولهم عنها تحصين لوحدتهم القومية؛ ولكن من دون أنْ يعللوا أنفسهم بوهم أنّ موازين القوى التي لا تسمح للقتال الفلسطيني بأنْ يثمر ثمارا سياسية حلوة بالنسبة إلى الفلسطينيين يمكن أنْ تسمح بحل عادل لمشكلتهم القومية عبر المفاوضات السياسية.
ٍإذا أراد بعض الفلسطينيين أنْ يقتنعوا، ويقنعوا غيرهم، بأهمية وضرورة الحل عبر التفاوض فإنّهم يستطيعون شهر السؤال الآتي: بماذا عاد علينا استعمال السلاح وسيلة للتحرير؟!؛ أمّا إذا أراد بعض آخر من الفلسطينيين أنْ يقتنعوا، ويقنعوا غيرهم، بأهمية وضرورة الحل عبر المقاومة العسكرية فإنّهم يستطيعون شهر السؤال المضاد الآتي: بماذا عاد علينا استعمال المفاوضات وسيلة للتحرير؟!.
وأحسب أنّ إجابة السؤالين تكشف وتوضِّح أين يكمن المأزق الحقيقي. إنّه لا يكمن في خيار الحل عبر المقاومة العسكرية مثلما لا يكمن في خيار الحل عبر التفاوض، فهذا المأزق إنّما يكمن في أنّ المسافة بين الحل العادل للمشكلة القومية للشعب الفلسطيني وبين كلا الخيارين ما زالت بعيدة، وبعيدة جدا، وإذا كان أحد الخيارين لم يستطع، حتى الآن، تقريب هذه المسافة فهذا لا يعني، ويجب ألا يعني، أنّ الخيار الآخر المضاد سيؤدي، حتما، إلى تقريبها.
على أنّ هذا التوضيح لأبعاد المأزق يجب ألا يكون سببا لليأس والإحباط بين الفلسطينيين من مؤيِّدين ومعارضين، فالفلسطينيون يمكنهم، الآن، وينبغي لهم، أنْ يظهروا ويؤكدوا استمساكهم بخيار الحل عبر التفاوض؛ ولكن في طريقة مختلفة هذه المرة.
أوّلا، من خلال اتفاقهم على أنْ يكون وقف إطلاق النار شاملا ومتبادلا؛ ثم من خلال جعل حماية وتعزيز وحدتهم القومية هدفا لا يعلوه هدف؛ ثم من خلال إنجاز إصلاح ديمقراطي يسمح للقرار المركزي الفلسطيني بأنْ يكون أكثر ديمقراطية، ويُكسِب المجتمع الفلسطيني مزيدا من الحيوية السياسية.
إنّ شحن الوحدة القومية الفلسطينية بإصلاحات سياسية وديمقراطية واسعة ربما لا يحرِّر، الآن، من الطاقة السياسية الفلسطينية ما يضمن حلا عادلا للمشكلة القومية للشعب الفلسطيني من خلال المفاوضات؛ ولكنه سيحرِّر منها ما يضمن منع الحل الشاروني من أنْ يشق طريقه إلى هذه المشكلة.

سؤال التمثيل الفلسطيني!
الآن، يعيش الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة الحالة السياسية الانتخابية بكل تأثيراتها، ومنها أسئلة مهمة عديدة، من قبيل: مَنْ يتحدث باسم الشعب الفلسطيني؟ ومَنْ يحق له تمثيل الشعب الفلسطيني سياسيا، والتفاوض وتوقيع الاتفاقات باسمه؟
إذا أردنا الطريقة غير الصحيحة في الإجابة فيمكننا القول إنّ الجواب يكمن في النتائج التي ستتمخض عنها انتخابات رئاسة السلطة الفلسطينية. وتعليلا لذلك نقول إنّ هذه الانتخابات تكمن أهميتها السياسية في كونها سمحت للناخبين الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة باختيار رئيس جديد للسلطة الفلسطينية يملأ الفراغ الذي خلَّفه موت الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في هذا المنصب، الذي هو أحد المناصب التي كان يشغلها الراحل الكبير، والذي بسبب خواصه السياسية، التي حدَّدها اتفاق أوسلو، لم يكن المنصب الذي يسمح لصاحبه بالتفاوض مع إسرائيل وتوقيع اتفاقات معها باسم الشعب الفلسطيني ونيابة عنه، فالذي فاوض إسرائيل ووقَّع معها الاتفاقات إنّما هو منظمة التحرير الفلسطينية بصفة كونها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. والفلسطينيون الذين قاموا بذلك إنّما قاموا به قبل قيام السلطة الفلسطينية، وبصفة كونهم قادة في المنظمة.
وهذا المنصب مع السلطة الفلسطينية ذاتها كان عمره السياسي من عمر اتفاق أوسلو ذاته، أي أنّه كان يجب أنْ ينتهي مع انتهاء المرحلة الانتقالية والتوصل إلى اتفاق دائم عبر مفاوضات الحل النهائي؛ لكنّ الذي حدث هو أنّ اتفاق أوسلو انتهت صلاحيته الزمنية من دون التوصل إلى اتفاق دائم؛ ثم قضت الحرب التي شنتها إسرائيل على الفلسطينيين على كل منجزاتهم ومكتسباتهم في المرحلة الانتقالية، تقريبا، فلم يبقَ من هذه المرحلة إلا ظلال من السلطة الفلسطينية، التي سيُنتخَب رئيس جديد لها الآن لعلّه يتمكن من إعادة بناء أجهزتها ومؤسساتها التي دمَّرتها الحرب الشارونية.
ولمزيد من التوضيح نقول إنّ منصب رئيس السلطة الفلسطينية قد تحدَّدت سلطاته وصلاحياته بالخواص السياسية للسلطة الفلسطينية ذاتها، فهو لا يملك من السلطات والصلاحيات إلا ما يسمح له، وللسلطة، بإدارة شؤون الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة بما يتفق ومرحلة الحكم الذاتي، فهذه السلطة ليست دولة، كما أنّها لا يمكن أنْ تقوم مقام منظمة التحرير الفلسطينية مثلما لا يمكن أنْ يقوم الجزء مقام الكل، والفرع (المؤقت) مقام الأصل.
وعلى هذا الأساس فحسب، يتوجّه الناخبون الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم في انتخابات رئاسة السلطة الفلسطينية. ما معنى هذا؟
إنّ له معاني كثيرة، منها أنّ أي مرشَّح لرئاسة السلطة الفلسطينية من خارج منظمة التحرير الفلسطينية وهيئاتها القيادية العليا، لا يحق له أنْ يخاطب الناخبين ببرنامج سياسي انتخابي يشتمل على التزامات وشعارات ووعود أكبر كثيرا من المنصب الذي ترشَّح له، فليست السلطة الفلسطينية (ولا رئيسها بالتالي) هي التي يحق لها أنْ تتحدث باسم الشعب الفلسطيني بأسره، وأنْ تفاوض وتوقِّع الاتفاقات باسمه، حتى يحق لأي مرشَّح أنْ يقول إنّه إذا ما انتُخِب سيحل مشكلة اللاجئين ومشكلة القدس الشرقية وغيرهما من المشكلات الكبرى بما يتفق والثوابت الفلسطينية.
كان ينبغي لكل مرشَّح أنْ يعلم، أوّلا، أنّه مرشَّح لمنصب لا يملك من السلطات والصلاحيات، ما يسمح له بتأدية دور سياسي وتفاوضي هو، أصلا، لمنظمة التحرير الفلسطينية، وأنّه لا يملك الحق في ذلك ولو انتخبته الغالبية العظمى من الناخبين الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة؛ ثم كيف يجوز له أنْ يضرب صفحا عن حقيقة أنّ أحدا من ملايين اللاجئين الفلسطينيين لم يشارك في الانتخابات، ولم ينتخبه بالتالي.
لا أشكّ في أنّ المرشَّح محمود عباس (أبو مازن) هو الذي سيفوز في انتخابات رئاسة السلطة الفلسطينية لأسباب عديدة أهمها أنّه المرشَّح الوحيد لحركة فتح؛ ولكنني، في الوقت نفسه، لا أعتقد أنّ رئيس السلطة الفلسطينية الجديد، أي محمود عباس، سيُفاوض إسرائيل، ويوقِّع اتفاقات معها، بصفة كونه رئيسا منتخبا للسلطة الفلسطينية، فهذا المنصب، وحده، لا يمنحه من الشرعية الفلسطينية ومن السلطات والصلاحيات ما يسمح له بالقيام بهذا الدور. هذا الدور سيؤدِّيه عباس بصفة كونه رئيسا لمنظمة التحرير الفلسطينية، وبما يتفق وقرارات هيئاتها القيادية العليا.
في انتخابات رئاسة السلطة الفلسطينية إنّما ينتخب جزءا من الشعب الفلسطيني، هو الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة، مَنْ يتولى (مع غيره ممن سيُنتخَبوا في انتخابات المجلس التشريعي) إدارة شؤونهم بما لا يتعارض وحق منظمة التحرير الفلسطينية في قيادة وتمثيل الشعب الفلسطيني بأسره، وفي أنْ تفاوض باسمه توصلا إلى حل مشكلته القومية بكل جوانبها وأبعادها.
على أنّ هذا الحق لا يتأكد ويتعزز ويرتفع فيه منسوب الشرعية الفلسطينية إلا عبر حقن المنظمة بإصلاح سياسي وديمقراطي وتنظيمي يستطيع، في غياب الانتخابات الفلسطينية العامة لأسباب موضوعية، أنْ يسقي صفتها التمثيلية بمزيد من ماء الحياة. هذا الإصلاح هو ما يجب إنجازه بعد انتهاء الانتخابات في الضفة الغربية وقطاع غزة.