يعيش العرب منذ عقود عصر القيادات اللاتاريخية، أي تلك العاجزة عن الارتقاء الى مستوى الاستجابة للشروط التاريخية. احتل الجمود المصور كصمود في وجه الاعداء وسياسات اللعب تحت سقوف التوازنات الدولية مكانة رئيسية في رسم lt;lt;الاستراتيجيات العربيةgt;gt; التي قامت على تمرير وقت الصراع القومي من دون أدنى محاولة لتعديل موازين القوى، مع التمسك بشعارات يعرف أصحابها قبل غيرهم استحالة تطبيقها.
كانت هذه من سمات عصر مضى. وبعد العصر القومي أو عصر نهوض الحركات والقوى القومية العربية في أعقاب حرب العام 1956، وبعد عصر المقاومة الذي أعقب هزيمة العام 1967، وبعد ثبوت فشل العصر النفطي في تجربتي الحرب العراقية الايرانية والغزو العراقي للكويت، وعدم قدرة العصر الاميركي الاسرائيلي على تجاوز كل lt;lt;النقاط الناتئةgt;gt; التي شكلتها قوى عربية على طريق التسوية بصيغتها الاسرائيلية المباشرة، يُفتتح في هذه الايام ما يجوز تسميته بعصر عربي جديد يؤدي فيه رئيس الوزراء العراقي اياد علاوي والوزير السابق للشؤون الامنية في السلطة الفلسطينية محمد دحلان دوري الرمز والموجه.
خلافا لما يبدو من النظر السريع في سيرتي حياتي الرجلين، فما يجمعهما أكثر بكثير مما يفرقهما. والعنصر الاهم في تشابههما ليس الصلات المعروفة أو المستورة مع أجهزة أجنبية أدت وتؤدي خدمات ملموسة لهما في صعودهما السياسي، ولا هو الانقلاب على الجهات المحلية التي تكفلت بوضع كليهما على أول طريق الزعامة السياسية وهما البعث الصدامي (وأجهزته الاكثر دموية على وجه التحديد) في حالة علاوي، والولاء لقيادة lt;lt;فتحgt;gt; في حالة دحلان. العامل الاهم في تشابه lt;lt;مسيرتيهماgt;gt; هو الرهان على نوع من الحتمية التاريخية. حتمية سالبة بطبيعة الحال أساسها الازمة المستعصية التي تعيشها الدول والمجتمعات العربية التي لم تنجح في بلورة أي مشروع سياسي يحشد ما تبقى من (أو ما يوصف ب) قوى حية ودفعها في سياق متناغم لتحقيق مصالحها وحمايتها.
هذه الازمة هي ما يتيح ظهور محاولات لعقلنة لاعقلانية (وفق مصطلح هربرت ماركوز) المجتمعات العربية من خلال القول ان القبول بالمشاريع الاجنبية (الاميركية أو الاسرائيلية أو غيرها) هو عين الصواب السياسي، في زمن لم يعد فيه من معنى للسياسة إلا عدم إثارة الغضب الخارجي والقبول بالمشاريع الجاهزة والمعدة سلفا.
من نافل القول ان رفع شعارات من هذا النوع يمثل مزيدا من الانحدار في الحياة السياسية العربية، ويمهد لفرض معالجة إشكاليات زائفة على العرب من نوع الدعوات الى الاختيار بين أبي مصعب الزرقاوي واياد علاوي، أو الاختيار بين الاحتلال الاسرائيلي والفوضى. مصدر هذه الاشكاليات خارجي، لكنها باتت واسعة التناول في الاوساط السياسية العربية (حتى لا نستعمل عبارة lt;lt;العقل السياسي العربيgt;gt;). هذا، في حين تلقى الاسئلة التي ربما تحمل معالجتها معنى ما بالنسبة الى الشعوب العربية، في سلة المهملات السياسية.
تثير التصريحات التي أدلى بها علاوي ودحلان في الايام القليلة الماضية قدرا غير قليل من المشاعر المتنافرة. فمن إعلان الالتزام بالقضايا العربية على لسان علاوي، الى الدعوة للحرب على الفساد والفاسدين في حالة دحلان، يقتنع المواطن العربي العادي بأنه هو ذاك المريب الذي يكاد يقول خذوني.
واذا كانت المجتمعات الغربية قد تحولت لأسباب عدة الى مجتمعات lt;lt;ذات البعد الواحدgt;gt; (بالاحالة مجددا الى مصطلح ماركوز) تخضع لسيطرة غير مرئية من قبل القوى الحاكمة عبر استخدام التكنولوجيا وخلق حاجات وهمية على المواطنين تلبيتها، فإن ما يجري اليوم في العالم العربي يمثل ترويجا لأوهام عن إمكان تحقيق النمو وحل الازمات العميقة بقيادات أفرزها زمن الغفلة العربية.