قامت النظرة السياسية الحديثة على رؤية ريبية سلبية للطبيعة البشرية: يمكن تلمس ذلك من خلال الكتب الثلاثة التي سيطرت مفاهيمها على الفكر السياسي في فترة ما بعد العصور الوسطى، أي كتاب ميكيافللي "الأمير" (1513)، "الليفياثان" (1651) لتوماس هوبز، و"ما العمل؟" (1902) للينين.
تتخلل كتاب ميكافللي فلسفة ضمنية، تحكم منظوراته كلها، ترى أن كمية الشر أكثر من الخير في الإنسان وأن الإنسان موزع بين الطبيعة الإنسانية (= القانون) وتلك الحيوانية (= القوة) مما يفرض على السياسي عندما يفكر في الوصول للسلطة، وكذلك أثناء ممارستها وفي عملية الحفاظ عليها، أن يأخذ بالاعتبار كل ذلك، الشيء الذي، حسب ميكيافللي، يحكم مجمل العملية السياسية. فيما يرى (هوبز) أن "الإنسان ذئب" وأن هناك جانباً وحشياً قوياً في الإنسان أكده (فرويد) في ما بعد يأتي من ميوله الطبيعية التي تنحو نحو الاستئثار والتسلط، وأن الإنسان لو ترك لطبيعته لأصبح هناك صراع للكل ضد الكل، حيث تأتي شرعية الدولة، والقانون معها، من كونها تخلق قوة وقائية وضابطة لذلك من أجل منع الميول الطبيعية للإنسان من أن تأخذ مداها المدمر، مما يمكن ـ والمقصود الشيء الأخير ـ أن يمنع قيام أي مجتمع يستطيع فيه الأفراد أن يكونوا مسيطرين على أجسادهم وممتلكاتهم المادية. بينما أكد (لينين) على أن الطبقة العاملة لا تستطيع بوعيها الذاتي أن تصل الى أكثر من الوعي النقابي، وأن وعيها السياسي الطبقي لا يمكن أن تحصل عليه إلا من خارجها، أي من "طليعة منتظمة في إطار حزب"
كان ذلك تجاوزاً للمفاهيم السياسية، الآتية من العصور القديمة أو الوسطى، والتي كانت تحدد العملية السياسية من خارجها، أي إما من الأخلاق أو من الدين، ولو أن الأخير يقوم على فكرة ضمنية ترى الله مجسداً للخير فيما الإنسان لا يستطيع أن يكون خيراً إلا إذا اتقى الله واتبع نواهيه وتجاوز وحدّ من طبيعته، التي تحكمها "النفس الأمارة بالسوء": هذا أدى الى أن الفكر السياسي الحديث يحدد السياسة من خلال ذاتها، أي عبر مطابقتها للمسار الاجتماعي للإنسان والذي يحكمه ـ أي هذا المسار ـ منظور المصلحة، حيث تأتي السياسة، بوصفها تعبيراً عن قوة قائمة أو محاولة من أجل تحصيلها، كوسيلة للحفاظ على المصلحة وتعزيزها أو من أجل الوصول اليها لصالح فئة أو طبقة اجتماعية محددة، أو أكثر، أو لصالح الأمة إذا اجتمعت طبقاتها وفئاتها على ذلك، فيما تتم عملية تحقيق المصالح عبر رؤية، ترى الهدف، إلا أنها تسعى اليه عبر رؤية لتوازن القوى وفق المراحل المؤدية للوصول الى ذلك الهدف.
سيطر ذلك على الفكر السياسي في البلدان المتقدمة، ولو ظهرت مقاومات لم تنجح مثل كتاب جان جاك روسو "العقد الاجتماعي" (1762) الذي بنى نظرته للسياسة على أساس أن الطبيعة البشرية هي خيّرة بالفطرة والأصل، وقد قدمت الليبرالية، في معسكر اليمين، وكذلك الماركسية (بفرعيها الشيوعي، والاشتراكي الديموقراطي) على اليسار، مفاهيم للتاريخ، والاقتصاد والاجتماع ساعدت على ترسخ تلك النظرة للعملية السياسية الآتية من ميكيافللي وهوبز، مما أدى الى انتصارها، على الصعيد العملي والمفاهيمي، فيما لا تظهر، هناك، مقاومات لذلك إلا في محاولات أكاديمية، لا تملك تأثيراً فعلياً في الوسط السياسي، تحاول ربط أو وضع منظور أخلاقي للسياسة.
لم يصل المجتمع العربي الحديث، بعد، الى ترجيح وتغليب ذلك المفهوم للسياسة القائم على المصلحة والقوة، الشيء الذي يحدد أسس وطريقة الوصول للهدف السياسي الذي يرسمه مبدأ تحدده الايديولوجية المعنية، وإنما ما زال المفهوم السائد للسياسة، عربياً، هو ذلك القائم على اختلاط وتداخل النظرات الحقوقية والأخلاقية عند رؤية العملية السياسية، فيما لم يكن ساستنا العظام، مثل (عمر) و(معاوية) و(عبد الملك بن مروان) و(أبو جعفر المنصور) بعيدين عن ذلك المفهوم السياسي المنتصر، حالياً، في الغرب.
يعطي ذلك صورة عن مدى النقص وعدم القدرة على تلبية فهم الوقائع (الأمر الذي هو أساسي في تشكيل المواقف والممارسة السياسيتين) الذي يعانيه المفهوم السائد، عربياً، للسياسة، الشيء الذي لا يشمل قضايا السياسة الخارجية، فقط، بل يمتد الى عملية تقييم السياسات الداخلية والأفكار السياسية، حيث لا تقيّم السياسات والأفكار عبر حامليها الاجتماعيين ومدى مطابقتها للتناقض الاجتماعي الرئيس في مكان وزمان محددين، ولا عبر النتائج التي تولّدها سواء في السلب أو في الايجاب (الشيء الذي هو سائد في البلدان، المتقدمة)، وإنما عبر مطابقتها لـ"الحق" أو "الباطل" (أو لأي ثنائيات يمكن أن تقام: الحداثة ـ التقليد، التنوير ـ الظلامية... إلخ)، وكذلك عبر ما تحويه من مضامين، وبغض النظر عن مدى قدرة هذه المضامين لأن تقوم بوظيفية ايجابية في المجتمع المعني أو في مرحلة سياسية محددة أم لا، فيما تعاني مفاهيم السياسة العربية من عدم القدرة على فهم معايير العملية السياسية المزدوجة (أو أكثر) وفق المكان والزمان (تعامل واشنطن مع البرزاني الأب والابن وبين الأخير وأوجلان).
السياسة هي، كمفهوم وممارسة، تكثيف كلي ملخص لرؤية فلسفية وللميراث الثقافي زائد البنية الاقتصادية ـ الاجتماعية، وذلك في مكان وزمان معينين: من هنا، فإن خلل وعيوب المفهوم السائد للسياسة، عربياً، يعكس ويعبر عن نواقص خطيرة في كافة مجالات الحياة العربية، وإن حصول ذلك لدى أمة، تمر بمنعطف مفصلي كهذا الذي يعيشه العرب الآن، يفرض تحدياً دقيقاً على كل المعنيين بالعمل السياسي.