عذراء الحسيني ونورة الحويتي: عندما توقف سيارتك لدقائق أمام إشارات المرور يظهر لك من حيث لا تعلم طفل في عمر الزهور ويعرض عليك بضاعته البسيطة والتي عادة ما تكون مجموعة علب مناديل أو مواد معطرة للسيارة أو علب المياه الساخنة من كثرة تعرضها للشمس، وأمام توسلات الطفل واستماتته ليبيع بضاعته واراتمائه أمام السيارات تضطر لأن تسحب بعض ريالات وتعطيه ليس طمعاً في شراء ما يعرضه ولكن رأفة به وبدموعه وبسنواته القليلة التي يبدد أجملها في العمل والشقاء، ناهيك عن احتمال تعرضه للعديد من الأخطار ففي فصل الصيف قد يتعرض لضربة شمس جراء بيعه تحت أشعتها من الصباح وحتى المساء، ويكون عرضة لحوادث الدهس نتيجة صعوبة تنقله بين السيارات وكم من المرات نسمع عن حوادث راح ضحيتها أحد هؤلاء الأطفال الأبرياء.
ظاهرة عالمية
نحن في هذا التقرير أمام ظاهرة عالمية تفاقمت في الفترة الأخيرة بشكل كبير وقد اهتمت بها الدول التي تكثر فيها هذه الظاهرة لما قد ينتج عنها من مشاكل كثيرة تؤثر في حرمان شريحة كبيرة من هؤلاء الأطفال من إشباع حاجاتهم النفسية والاجتماعية، وقد أثبتت الإحصاءات العالمية أن هناك من 100- 150مليون طفل يهيمون في الشـوارع ويعتمدون على الشارع في عملهم ومأكلهم ومشربهم بدون رقيب أو إشراف من شخص مسؤول، ورغم إنه في دول الخليج العربي لا توجد إحصاءات دقيقة تبين حجم هذه المدن الرئيسية في المملكة مما دفع الصحافة المحلية إلى نشر أكثر من تحقيق وتقرير يسجل تفاقم هذه الظاهرة. وقد أجرت "الرياض" على موقعها الالكتروني استفتاء حول صحة ادعاءات هؤلاء الأطفال الباعة عند إشارات المرور وهل هم فعلاً فئة محتاجة لمد يد العون أم أنهم عصابات منظمة فقد أظهر أن 34% من المصوتين بعدد أصوات "1950" يرون أنهم فئة محتاجون فعلا وذلك من إجمالي المصوتين ومن يرى أنهم ليسوا محتاجين بنسبة 38% وبعدد أصوات "2194" صوتاً أما المشككون بين نوايا هؤلاء الأطفال ومن يقف وراءهم ولا يعلمون تحديداً هل هم فعلا من المحتاجين أم أنهم عصابات منظمة للاستجداء فقد كانت نسبتهم 28% بعدد أصوات "1555"، وفي دراسة هي تعد الأولى من نوعها في مجتمع البحث عن الأطفال الباعة في الشوارع والمتسولين وصف فيها الباحث الدكتور/ عبد الله بن عبد العزيز اليوسف الخصائص الاجتماعية والنفسية والاقتصادية للأطفال الباعة والمتسولين وطبقت على 53طفلاً متسولاً وعلى 95طفلاً من الباعة في الشوارع تمثلت النتائج في انحدار هؤلاء الأطفال من أسر تتميز بكثرة عدد أفرادها وانخفاض المستوى التعليمي والاقتصادي لرب الأسرة بسبب بأن غالبية أرباب الأسر لا يعملون كما كشفت الدراسة أن الأمهات هن اللاتي يمثلن الدور القيادي داخل هذه الأسر حيث اتضح غياب الدور القيادي للأب سواء على مستوى التوجيه أو على مستوى الاهتمام بالطفل في حالة غيابه أو تأخره مما يشير إلى قصور في البناء التنظيمي لهذه الأسر، إضافة إلى ذلك فقد توصلت هذه الدراسة إلى أن غالبية المبحوثين يعتمدون على البيع أو التسول مصدراً أساسياً للمعيشة في ظل عدم عمل رب الأسرة.
مصير مجهول
عندما اصطفت السيارات عند إحدى إشارات المرور خرج طفل صغير من بين المارة يطوف بالسؤال ويمسك بيده طفلة يبدو أنها في الخامسة من عمرها، بشرتها فاتحة اللون وشعرها أشقر لم تمر عليه أسنان المشط ولا يد العناية، كانت تساق المسكينة لمصير مجهول ودرب لا تعرف نهايته وبدا واضحاً عليها الإعياء والإجهاد من كثرة الوقوف تحت أشعة الشمس الحارقة وأسقطت رأسها أمامها لتنظر فقط لموضع قدمها أو ربما هي تغمض عينيها ... حاولت أن أحدثها بغية أن أرى عينيها البريئتين ولكن الأمر صعب عليها لأن النافذة أعلى من أن تصل إليها رقبتها الرقيقة، وأخوها الصغير أيضا يحاول إخفاءها خلف ظهره وكأنه بهذا يمنع أي حوار معها، سألته عن اسمه فلم يجب أعدت السؤال عن خوفه من رجال مكافحة التسول ولم يجب أيضاً وبدا عليه التملل والضجر وكأنه يريد لأسئلتي المتبعة نهاية.
في الجهة الأخرى من الشارع طفلان الأول يبدو أن عمره في الحادية عشرة والثاني يصغره بقليل وكل منهما له مكانه الخاص أو إشارته التي لا يتعدى عليها أحد غيره وأخذا يسألان أصحاب السيارات باستعطاف سألت الصغير هل أنت سعودي فهز رأسه اجابة على سؤالي. ما أسمك؟ عبد الله. هل تدرس يا عبدالله ؟ نعم في الصف الرابع. من يدفع بك إلى هذا العمل ؟ أنا .. والحاجة. أليس في عملكم هذا خطورة ؟ لا أبداً .. وهو يمد يده بانتظار المقسوم.
@ في الأسواق الشعبية يتسول الكبار والصغار وتختلط عليك الأمور ما بين المحتاج والمحتال، أفزعني طفل صغير رث الثياب متسخ البدن اختلطت جروحه بملامح وجهه لي ..ألتصق بي في ترحم وتودد وهو يتلعثم بكلمات كلها دعاء لي في سبيل أن أنقذ حاله وانتشله من فقره !!
قلت له : لماذا تتسول وأين أهلك رد على الفور أبي توفي وامي مع أخوتي الصغار الجائعين وينتطرونني لكي أجلب لهم الطعام .. أليس هناك رجال أمن يمنعونكم ؟ لا .. هناك متسولون كبار يؤذوننا.
@ مكي وعيسى ومجموعة من الأطفال كانو يقفزون من إشارة إلى أخرى يبيعون الماء. مكي يقول بأن أبي "شيبة" وأمي حرمة فكيف يشتغلون ؟!
ونحن شباب فبعد المدرسة نجتمع عند إشارة المعارض للبيع فهناك سيارات كثيرة تذهب لمعارض السيارات وبعد العشاء كل واحد منا يأخذ نصيبه ويذهب لبيته. وهل تشترون عبوات المياه بأنفسكم ؟ لا .. فهناك شخص كبير نعرفه يشتري الماء بكميات كبيرة ويبردها ويوزعها علينا وبعد البيع نأخذ نسبة.
@حتى في سوق الخضار يعمل ويبيع الأطفال، التقينا بثلاثة أطفال افترشوا رصيف السوق لبيع التمر والبطاطس وينادون بأصوات مرتفعة، اقتربت منهم وأخذ كل واحد يعرض بسعر مغرٍ لكرتونه الفليني .. سألت الصغير الذي كان في شرود من أين أنت ؟ فسكت ينظر إلي وهو مبتسم فأنقذه الكبير من جزيرة فرسان. وهل أنتم مقيمون في الرياض؟ نعم ونأتي للسوق مع بعضنا. ألا ترى أن وجودكم في هذا الطريق وعلى الرصيف ليس نظامياً ؟ نعم أنا أعرف ولكن محد داري، وفي سوق الخضار الخميس والجمعة مسموح.
@ مقابل مبنى المحكمة العامة نافورة جميلة رأيت بها صبية يمارسون هواية السباحة باستمتاع !!
علي، ابراهيم، يوسف و آخرون أصحاب جميعهم من "مالي" كل يوم جمعة يأتون لمزاولة هذه الهواية المحببة إلى قلوبهم فلا يهم المكان أن كان في نادي أو نافورة الشارع أو حتى في أي بقعة ماء. يقول إبراهيم أن أهالينا لا يعلمون أننا نسبح هنا .. ولا يسألوننا على الإطلاق أين ذهبنا وماذا فعلنا!! ولا أحد من رجال الأمن يمنعنا. أحد الصغار عندما هم بخلع ملابسه حتى ينضم مع رفقته صادف مرور أحد المواطنين فنادى عليه مستنكراً فعله : أهذه الحضارة يا أولاد. فرد عليه الصبية بنظرة بها استغراب وهم يتمتمون بكلمات لم أفهمها.تركتهم وأنا أتساءل إلى متى تستمر هذه المناظر المحزنة، وأين المسؤولون عن سبل المعالجة؟.
وحدة معالجة التسول والبيع
وقد أصدر الأمير سلمان بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض منذ ستة أشهر مضت أمراً بإنشاء وحدة معالجة انتشار ظاهرة الأطفال الباعة عند الإشارات المرورية ويشارك في عمل هذه الوحدة عدد من مندوبي الجهات المعنية ممثلة بإمارة منطقة الرياض ووزارة العمل والشؤون الاجتماعية وذلك بعد تصاعد المخاطر التي تلحق بهؤلاء الأطفال بسبب تنقلهم بين الإشارات وإعاقتهم لحركة المرور وما قد يتعرضون له جراء استنشاق عوادم السيارات واحتمال انخراطهم في أي نوع من الانحرافات، إضافة للحد من هذه الظاهرة وعلاجها بأسلوب أمني واجتماعي.
غرامات مالية
وعن كيفية معالجة وضع المقبوض عليهم والعقوبات والإجراءات المطبقة بحقهم أوضح الأستاذ فهد بن عبد الله التويجري مدير الوحدة في حديث سابق لـ "الرياض" بأن السعوديين المقبوض عليهم تقوم وزارة العمل بدراسة أوضاعهم والحالة الاجتماعية ويؤخذ عليه غرامة قدرها 200ريال للمرة الأولى وتضاعف العقوبة عند تكرار المخالفة وفقا لما ورد بالمادة 3من لائحة الغرامات والجزاءات عن المخالفات البلدية وفي حالة عدم إمكانه تحصيل الغرامات في حينه يؤخذ عليهم وعلى أولياء أمور الأطفال منهم التعهد بتسديدها، ويسلم الأطفال منهم لأولياء أمورهم بعد أخذ التعهدات اللازمة عليهم بعدم العودة إلى ذلك وعند تكرار المخالفة للمرة الثالثة تقوم وزارة العمل بتحديد الجهة المختصة برعايتهم، أما الأجانب فهناك أنواع أولاً : ( الاجانب المقيمون إقامة نظامية ) يتم علاجهم وفق الآتي : يؤخذ على المقبوض عليهم غرامة قدرها 200ريال للمرة الأولى وتضاعف العقوبة عند تكرار المخالفة وعند تعذر تحصيل الغرامة في حينه يؤخذ عليهم وعلى أولياء أمور الأطفال منهم تعهد بتسديدها وتتخذ الجوازات الإجراءات النظامية بحق الكفلاء، ويسلم الأطفال منهم لأولياء أمورهم بعد أخذ التعهد اللازم عليهم بعدم العودة إلى ذلك، و إلا سيتم ترحيله مع أفراد عائلته وعند تكرار المخالفة للمرة الثالثة يرحل مع ولي أمره، أما ( الأجانب المقيمون إقامة غير نظامية ) يتم ترحيل الطفل المقيم إقامة غير نظامية بعد التحري عن عائلته من قبل الشرطة، وإذا لم يعثر على أسرته ولم تعرف هويته يودع إحدى دور الرعاية الاجتماعية. ثالثاً : ( الذي لا يحملون الجنسية السعودية ويحق لهم التنقل والعمل بدون كفيل ) يؤخذ في المرة الأولى غرامة قدرها 200ريال وتعهد بعدم تكرار المخالفة وعند تكرار المخالفة للمرة الثالثة تقوم وزارة العمل والشؤون الاجتماعية بتحديد الجهة المختصة برعايتهم.
وقفة
ونتساءل في نهاية هذا التحقيق الذي سبقه كما قلنا العديد من الوقفات الصحفية وأشبعته المقالات والتحقيقات حقه من التناول متى ستنتهي ظاهرة الأطفال الباعة والمتسولين خصوصاً بأن الدراسات تشير أن عدداً لا يستهان به من هؤلاء الأطفال لا تتجاوز أعمارهم التسع سنوات أي في سن الدراسة، والمحزن أننا نشاهد بعضهم في الفترة الصباحية في وقت يفترض أن يكونوا مع أقرانهم داخل المدرسة، فضلا عن المخاطر النفسية والانفعالية فعادة ما نراهم قلقين ومتوترين وفقدانهم لأبسط حقوقهم مثل اللعب وشعورهم بعدم الأمان والظلم وتعرضهم لحوادث السيارات أو الأمراض الصدرية كما أنهم للأسف الشديد يتعرضون لسخرية واستغلال بعض ضعاف النفوس من المارة وانحصار مستوى الطموح لديهم في توفير لقمة العيش.