التقى وزير الخارجية الأميركي في القاهرة أمس مجموعة منتقاة من شخصيات «المجتمع المدني»، مدشناً على ما يبدو، تقليداً جديداً في الزيارات الرسمية. ولا شك أن الحديث تركز على موضوع الإصلاح، فالوزير يريد أن يسمع من هذه الشخصيات ما يفترض أنه لن يسمعه من المسؤولين الذين يبلغونه مواقف الدولة من مختلف القضايا، خصوصاً ذات العلاقة بالسياسة الخارجية. أما المدنيون «غير المسؤولين»، أو بالأحرى غير الرسميين، فمن الطبيعي أن تختلف مقاربتهم للمواضيع المطروحة، ثم أن المسؤول الأميركي رغب في مقابلتهم لعله يتحسس في كلامهم ملامح تفهم أكبر لسياسات واشنطن وتوجهاتها ومبادراتها، خصوصاً أنها تستثمر في المجتمع المدني وتراهن عليه. وبديهي أن يسمع كولن باول نقداً واقعياً وهادئاً لسياسات بلاده، لكنه سيرميها فوراً، لأن هدفه من هذه اللقاءات مختلف.
في أي حال، تبقى لقاءات كهذه مفيدة لو كانت مبرمجة في إطار حوار هادف يرمي إلى تصويب التوجهات لدى كل من الطرفين. فما يتعرف إليه باول من غير الرسميين لا بد أن يكون أكثر واقعية وتحرراً من قيود المصالح والاعتبارات التي تكبل الرسميين. أما كيف يستخدمه فمسألة أخرى.
كان واضحاً أمس أن لقاءات باول و«المدنيين» استعراضية أكثر مما هي جوهرية، وقد يرى البعض فيها «اختراقاً» أو حتى تحدياً للطوق الرسمي. وقد يذهب بعض آخر أبعد من ذلك للتشكيك في هذه الشخصيات لمجرد أنها قبلت مثل هذا النمط من اللقاءات. صحيح ان أميركا بوش جعلت من كل متعاطٍ معها مشتبهاً به - ما لم تضطره وظيفته إلى ذلك - إلا أن الخوض في «الشبهات» لا ينطبق فقط على المدنيين، بل يسري أيضاً وخصوصاً على الرسميين جداً.
على العكس، يمكن الوثوق بالمدنيين والاعتماد عليهم في ايصال رسائل وأفكار لن يجرؤ الرسميون على التلفظ بها. فهؤلاء «غير الرسميين» يعيشون في مجتمعهم ويعرفون معاناته، وإذا كانت لهم ميزة، فإنهم مدعوون لشرح ما يعرفونه بعيداً عن أقنعة الوظيفة. كما انهم إذا تكلموا بوحي ضمائرهم أولاً، وهو ما نفترضه، فإن باول وسواه قد يندم على الوقت الذي أضاعه معهم، ولا بد أن يشعر بالخجل مما ارتكبته وترتكبه سياسات الولايات المتحدة. أما إذا دخلوا بأجندات خاصة وشخصية، فإنهم قد يحصلون بعض المصالح، لكنهم سيؤكدون عندئذ انهم في وادٍ والمجتمع المدني في وادٍ آخر، وهو ما حصل في بعض الحالات خلال السنوات الأخيرة من دون لقاءات معلنة مع وزير أميركي أو أوروبي.
من شأن أي ممثلين للمجتمع المدني في أي بلد عربي أن يعرفوا أنهم باتوا مرشحين للقاء مسؤولين أميركيين، وأنهم مدعوون للبرهنة على أنهم يتمتعون بصدقية قد لا تتوفر عند الرسميين. فصفتهم المدنية أصبحت تلقي عليهم «مسؤولية» أكبر من تلك التي يدعيها «المسؤولون». ولقاءاتهم مع الأميركيين قد تساعد ولو ببطء على تصويب بعض التوجهات الأميركية، لأن موضوع «الاصلاح» خضع أميركياً لكثير من المساومات والالتفافات والخدع. هناك حالات ديكتاتورية عربية عديدة استطاع أصحابها ان يفاوضوا الأميركيين وينالوا منهم ارضاءات، ولم يفكروا في مفاوضة شعوبهم للهدف ذاته، وكأن الاصلاح شأن أميركي بحت. من شأن «المدنيين» العرب أن يُفهموا محاوريهم الأميركيين أن الاحتيال في الاصلاح يعني دفع المجتمعات الى مستنقعات أكثر كارثية.
لعل أهم كذبة «اصلاح» ترعاها الولايات المتحدة، ولم يتردد المستر باول نفسه في تغذيتها بسخرية ولامسؤولية، هي تلك المستخدمة مع السلطة الفلسطينية. لا يمكن إلا أن تكون الخارجية الاميركية مدركة، بفضل التقارير المفصلة التي تتلقاها، ان احتمالات الاصلاح معدومة في ظل سلطة عطّلها الاسرائيليون ونهبوا مؤسساتها وكومبيوتراتها وشلّوا حركتها وبعثروا قواها الأمنية والسياسية والاقتصادية وسجنوا رئيسها وأهانوا ويهينون رموزها. فعن أي اصلاح تتحدث واشنطن إذاً؟ انها تلعب فقط اللعبة التي اتاحها لها شارون وعصابته. هذا نموذج لا بد أن «المدنيين» نبهوا اليه، اذ لا يمكن الحديث عن حقوق الانسان مع وزير ترعى دولته انتهاكاً اسرائيلياً مبرمجاً لحقوق الانسان الفلسطيني. فهذا وحده يفقده صفة التحدث عن الاصلاح في مصر أو في سواها من الدول العربية. اما الاصلاح نفسه فبات واجباً وطنياً لمصر ولسواها، يتساوى في ذلك ان يتحدث عنه أو لا يتحدث عنه باول مع شخصيات «المجتمع المدني».