ترسم التطورات الاخيرة في الضفة الغربية وقطاع غزة صورة مأساوية للحالة الفلسطينية الراهنة. ولا تكمن المأساة في الخلاف السياسي، ولا في نقد القيادة الفلسطينية بذاته، بقدر ما تكمن في العمليات العميقة الجارية وراء التفاصيل والكليشيهات التي تجذب انتباه الاعلام. وقد لا يدركها المحللون، وقد يدركها ويشخصها بعضهم من دون ان يكون بوسعهم البوح بها فيتحول التعامل معها الى همس وثرثرة وانتاج أمزجة سياسية. وعلى كل حال، حتى عندما ينشر التشخيص فقد يغمره فيضان المعلومات والتفسيرات، أو يذروه اعصار الاعلام الباحث عن نسبة مشاهدة، “ريتنج”، تساوي بين الغث والسمين، على وزن: كلها آراء تعكس أهدافا خفية، وكلها مصالح... ويسهم هذا المزاج في تحييد المجتمع عن السياسة في مرحلة نضال لا تستوي فيها السياسة من دون تورط المجتمع وقواه الحية مباشرة فيها.

وتتلخص عناصر الصورة المباحة والمسكوت عنها لشدة إباحتها بما يلي:

1- لم تنته معركة كامب ديفيد لا عربياً ولا فلسطينياً، رغم انها انتهت “اسرائيلياً” اذ حسمت ضد نهج باراك في كامب ديفيد وقبلها، وضد نهج أوسلو. وهما للتذكير والتدقيق نهجان مختلفان. وقد اختلطت خصومة نفس التيارات الفلسطينية حول أفكار كامب ديفيد مع مسألة اشراكها أو عدم اشراكها في عملية صنع القرار، جرياً على عادة العرب في الرضا والمناكفة. واستمرت نفس القيادات المختلفة في نصب الكمائن لبعضها بعضا طيلة الفترة الماضية منذ بدأ الانتفاضة من دون ان يردعها وعيها لتقاطعات اجندتها مع الاجندة “الاسرائيلية” والامريكية المثابرة ومع بعض الاجندات العربية غير المثابرة. ولم ترتدع عن هذه التقاطعات القائمة عن سبق الاصرار حتى في مرحلة تصعيد امريكي و”اسرائيلي” ضد الشعب الفلسطيني.

2- تتم مصادرة شعار الاصلاح في كثير من الحالات من قبل عناصر وقوى لم تشارك في الفساد فحسب بل هي نتاج الفساد على أنواعه. وللأسف الشديد لم تدرج على لسان السياسة الفلسطينية بعد اسئلة تشخيص الفساد السهلة من نوع “ما دام دخلك الرسمي هو كذا فمن اين لك هذا؟” اللهم الا كنكات وطرائف تروى من قبل المتذمرين وتحولت الى جزء من ثقافة الناس الدارجة المحكية، أو كيف يجوز ان يتدخل قادة أجهزة أمنية في السياسة المباشرة أو أن يتحولوا الى نجوم اعلاميين أو ان يناقشوا مصير القيادة والرئيس الذي عينهم أو أوفدهم مع قوى أجنبية أوفدوا اليها ليس بقوة شخصهم بل بفعل الوظيفة التي عينوا فيها؟

لقد تم اختطاف شعار محاربة الفساد وتعميمه بحيث يختلط الحابل بالنابل، وبحيث يتم تيئيس الناس من الفساد ومن المعركة ضد الفساد باعتبارها معركة فاسدة بحد ذاتها، أي معركة نفوذ. لا شك ان شعار محاربة الفساد يحظى بشعبية، ولكن غير الفاسدين وغير المستفيدين في السلطة الفلسطينية وخارجها يتركونه للفاسدين يصادرونه لأن الأوائل يخشون من التبعات السياسية لخوض هذه المعركة، أو ببساطة يخافون... من دون مفعول به.

3- هنالك خلط كارثي بين قوى المقاومة المسلحة وبين عشرات الجماعات المسلحة التي بدأت تتحول الى ميليشيات لغرض الدفاع عن النفس داخليا على مستوى فصيل وجماعات متخاصمة في فصيل ومن دون فصيل، وحتى على مستوى العائلة غير المنظمة في فصيل أو في تيار في فصيل، أو لغرض تقاسم النفوذ بمعناه الشارعي، أي “الخاوة” والسيطرة على الاحياء (مناطق النفوذ بمعناها البائس) وغيرها. ويحركها الشعور أنه فيما يضحي شباب ويناضلون ينشغل آخرون بجباية رسوم حماية وأتاوات وعمولات وفي ترتيب وضع ابنائهم الخ. هنا تختلط النقمة بالشعور بالأحقية على هذه “الغنائم” و”الضرائب” الرثة مثل كل شيء. ولسان حالها يقول إنه اذا كان هناك من لديه الحق باستخلاص أو عصر المنافع من المجتمع في عملية “إعادة توزيع قسرية للثروة” فهم اولئك الذي وضعوا دمهم على أكفهم، ومنهم من يتعرض يوميا للاغتيال. وهذا استنتاج كارثي فعلاً مؤداه حالة قاعدية غير مؤهلة لمقاومة الفساد بل هي امتداد للفساد. ولكن يجب الاستدراك والتأكيد ان الحالات النضالية، حتى غير المنظمة والمعرضة لحكم الاعدام “الاسرائيلي” الشامل، ما زالت بمجملها بعيدة عن الفساد والمشاركة فيه، ولكن غياب البنية التنظيمية الواضحة يسهل تبني اسماء من دون مسمياتها واصدار البيانات باسمها.

وتخلط التحالفات الجزئية والكاملة بين افراد من نخب السلطة، سابقين وحاليين، وبين الميليشيات الى درجة يصعب عرضها في مقالة. ولا اعتقد أن هنالك ما يبرر مثل هذا العرض على جاذبيته التي تكاد تكون بوليسية، فلسنا بصدد اعداد قطعة أدبية تصور عبثية الحالة. ولكن لا بد من بعض الملاحظات ذات المغزى السياسي:

يتضمن السؤال الاول قضية وهمية. ومع ان اجابة الكاتب القاطعة بالنفي معروفة فإن هذا لا يعني أن السؤال: هل كان على الفلسطينيين قبول افكار باراك وكلينتون في كامب ديفيد؟ هو سؤال حقيقي لأن هذه الخيارات ليست قائمة حالياً، وهي لم تكن قائمة أصلاً. وإزاء ما يقوم به المستوطنون حاليا ضد شارون يسهل تخيل ما كانوا سيفعلونه ضد باراك ولأسباب أوجه بكثير. ونصعب على أنفسنا السؤال اذ نذكر أنه يستطيع من شاء ان يحرجنا فيدعي أن المسألة مسألة نهج، والنهج الذي رفض هذه الافكار في كامب ديفيد ما زال قائما حياً يرزق، ويرزقنا الازمة تلو الاخرى، اذ يفوت الفرصة تلو الاخرى. ونحن نقول ان المصيبة ليست في النهج بل في غياب نهج، في عدم وجود نهج. والدليل ان نفس القوى التي حضت همساً وعلناً، سراً وسفوراً على قبول افكار كامب ديفيد وعدم تفويت الفرصة السانحة استطاعت ان تتعايش مع من رفضها في نفس السلطة الفلسطينية قبل ان تشتد الحملة الدولية عليها وعلى رئيسها. بل وزاود بعض المتفقين مع افكار كلينتون وباراك في بداية الانتفاضة بكثافة اعلامية لنيل رضا الشارع بكلام يعرف الجميع، ما عدا الجميع، انه لا يؤمن به و”لا يعتقده” رغم الإكثار من عبارة “انا اعتقد...” و”في الحقيقة...”. كان ذلك قبل أن يستشعر بمجسات الانتهازية السياسية الحساسة “تعب المجتمع الفلسطيني”. لا ليس هنالك نهج. بل هنالك تقاطع مثابر بين السعي للوصول الى أكبر قسم من كعكة السلطة التعيسة المتعوسة مع استعجال مسألة التسوية ولو كان ذلك على حساب الموقف، وفي بعض الأحيان على حساب تفاصيل ثانوية كان بالامكان اقناع حتى “اسرائيل” بقبولها.

ولا يعكس سلوك جهات السلطة الفلسطينية المعارضة للتسرع في قبول الشروط “الاسرائيلية”، أو المكبلة تاريخياً بقيود دور مختلف وعقلية مختلفة، أو غير المدعوة للتسوية أصلا، نهجا اكثر مثابرة. إذ استمر التمسك بشعرة معاوية وهمية لم يعد لها وجود في العلاقة مع “اسرائيل” وامريكا، لأن السلطة بالشكل الذي انتجته اتفاقيات اوسلو قد فقدت وظيفتها بالنسبة للولايات المتحدة و”اسرائيل” وذلك عندما رفضت أن تكون مرحلة نحو تصفية، وليس حل القضايا التي عرفها نهج أوسلو كقضايا الحل الدائم. وفيما بعد اتفق بوش وشارون على نشوء حاجة لكيان سياسي فلسطيني بشروط اخرى تماماً تفرض فرضاً، أو يتم تشجيع قيادة فلسطينية تقبل بالدور الجديد في عملية مقايضة مع تغيير المواقف المتعلقة بالحل الدائم. لقد توقفت السلطة مادياً ومعنوياً منذ فترة طويلة عن ان تكون حركة تحرر، ولكنها لم تصبح دولة. وفقدت وظيفتها وشخصيتها ودورها من دون أن تكتسب دوراً جديداً يحظى بشرعية وطنية أو ديموقراطية. ودخلت في طور الأزمة، أزمة الهوية التي لا تلبث ان تطور اشكاليات أخلاقية، وأزمة غياب الاستراتيجية بغياب استراتيجية اوسلو. وقد كانت الأخيرة رغم رفضنا لها استراتيجية على الاقل. وتم الانتقال الى “استراتيجية الانتظار”، وهي ليست استراتيجية. وتعمق مزاج انتظارِ تطورٍ ما في أمريكا و”اسرائيل” في فشل محاولات المراضاة التي وصلت قمتها في وثيقة جنيف. كما تشعب مزاج الانتظار في اتجاهات متناقضة بين وثيقة جنيف والتنافس مع حركة حماس بشكل غير منظم في اطر قاعدية تحمل السلاح. وفي غياب استراتيجية مقاومة موحدة ومدروسة يتم تبني تكتيك في المقاومة يزاود على حماس حتى في فترات وقف اطلاق النار، وفي غياب استراتيجية تسوية، بسبب رفض “اسرائيل” للتسوية يتطور وحده تكتيك تفاوضي يزاود على اليسار الصهيوني بحيث بدت امامه لغة محكمة لاهاي كأنها لغة جبهة رفض فلسطينية. وليس غريباً أن تؤدي هذه الفوضى الى حالة ضياع وفقدان معنى بشكل جذري يهز أساس البنيان، وليس مستغرباً أن يتم التعبير عن ذلك في التسيب على مستوى استخدام العنف الداخلي وهو الوجه الآخر للتسيب على مستوى الحوارات والمسارات التفاوضية التي يتم الخلط بينها منذ اوسلو بشكل مستمر كما أكدنا عدة مرات. ألم تبدأ عملية اوسلو كحوار غير ملزم؟ الا تحسب كل عملية مسلحة كجزء من مقاومة الاحتلال حتى لو حكمت بالفوضى والتنافس الداخلي؟

ما زلنا نقول ان حسم هذه المسألة تتطلب استراتيجية سياسية تفرز استراتيجية مقاومة موحدة، وأن هذا الامر يحتاج الى اطر سياسية موحدة تعمل الى جانب السلطة كمؤسسة تعنى بشؤون المجتمع الفلسطيني وعناصر استمرارية حياته على الارض. وحدها اجواء الاستراتيجية الموحدة ووحدة القوى السياسية في مرحلة تحرر وطني كفيلة بإضعاف ثقافة الميليشيات وتهميشها. وهنا يجب التمييز بشكل واضح بين الحاجة الماسة لالتزام السلطة الفلسطينية ورئيسها بضمان الأمن للمواطن، وبين محاولة خلط تطلع المواطن الشرعي لهذا الامن واستغلال ذلك لجعل “أمن اسرائيل” جزءاً لا يتجزأ من الصورة بمبرر مفاده ان من يقاوم “اسرائيل” خارج عن القانون، ويجب فرض القانون عليه. فاذا تم تبني مقاومة موحدة تأخذ بعين الاعتبار عوامل النجاح والفشل يصبح بالامكان الحديث عن مقاومة ضد الاحتلال “الاسرائيلي” يغطيها المجتمع وتخطط بشكل واعٍ لكي لا تتناقض داخليا مع أمن المواطن الفلسطيني والالتزام بالمحافظة عليه.

وكما آن الأوان لطرح وسلوك واضحين بهذا الشأن، كذلك آن الأوان لطرح مسألة الفساد التي يُتاجَر بها اكثر مما ينبغي لدى شعب مسحوق ومجتمع فاقة لديه ميل طبيعي للاعتقاد ان كل مسؤول أو مؤسسة هو فاسد. وهذا غير صحيح اطلاقاً. الفساد في الحالة الفلسطينية كما في حالة الكيانات السياسية هو حالة تجمع بين النفوذ الاقتصادي والسياسي لغرض الاثراء أو الاستفادة السياسية، أو اشتراط خدمات، هي بمثابة حقوق للمواطن، بالاستزلام والولاء السياسي لغرض تعزيز النفوذ، وخلط بين الحيز الخاص والحيز العام... ولسنا بحاجة الى الإسهاب في هذا الأمر. ولكننا نذكر ايضاً بالفساد القائم لدى الدول الممولة وموظفيها الذين يربطون التمويل بالولاء السياسي وبالمواقف، كما يربطون بين الخدمات والصلات الشخصية، ويدعمون هذا التيار السياسي ويغضون النظر عن فساده لأنه مندفع نحو التسوية، في حين كانوا يغضون النظر عن فساد ذاك، ويقسمون الناس بموجب هذا كله الى معتدلين ومتطرفين.

ولا شك ان مسألة الفساد القائمة قبل قيام السيادة هي مسألة اخطر بكثير من الفساد القائم في الدول اذ يؤدي الى احباط شديد في مرحلة يحتاج فيها الشعب الى الأمل من أجل النضال والتضحية. وحتى لو لم يؤد غياب الفساد الى تحسن وضع المواطن مباشرة وبالضرورة، تبقى مكافحته جزءاً من مهام حركة التحرر، اذا كانت قائمة!! ويكفي أن يجيل المواطن المُطالَب بالتحمل والصمود النظر من حوله وتلتقط حواسه الخمس المدببة نتيجة الشعور بالظلم اجندات أخرى لدى مسؤولين واقربائهم وانسبائهم لا علاقة لها بالاجندة النضالية لكي تنشأ أزمة أخلاقية ومعنوية تطاول جوهر المسألة برمتها على وزن: لماذا؟ ومن أجل ماذا؟ وماذا يعني التحرر من الاحتلال؟ واذا انتشرت هذه الاسئلة تنشأ مصيبة معنوية حقيقية. تخطط “اسرائيل” وتنفذ على الأرض الفلسطينية المحتلة حلولاً من طرف واحد. ويطالب الفلسطينيون بالتكيف مع حدودها. وقد اطلقت رصاصات هذه المعركة الأولى. ولا شك أن هنالك علاقة وثيقة لا يرقى اليها شك أي باحث اجتماعي جدي بين الحصار المفروض على غزة واغلاقها على شكل معسكر اعتقال وبين تطور ديناميكية “غيتو” ومعسكر اعتقال فيها، بما فيها أشكال من العنف الداخلي وتقسيم مناطق النفوذ داخل المعتقل. حالة اكتظاظ المقموعين على رقعة أرض صغيرة في حالة حصار. وكما ان هنالك قطاع غزة Gaza Stripمحاصراً فإن “اسرائيل” تعد العدة لانشاء قطاعات محاصرة في الضفة الغرب West Bank Strips . قطاعات محاصرة وليس قطاعاً واحداً. وهي محاصرة بفعل تعرجات الجدار ونقاط التفتيش.

ومجرد نشوب الأحداث الاخيرة في غزة في ظل مواصلة “اسرائيل” سياسة القمع والاغتيالات في الضفة وغزة وبناء الجدار في الضفة دليل على ان هذه المسألة الاخيرة، أي العنف الداخلي المفروغ منه في العلوم الاجتماعية في ظل الحصار، لم تدرس بعناية ولم يتم استيعابها بشكل عميق لغرض الاستعداد لها ومواجهتها بسياسة يتبناها المجتمع ومؤسساته. وهذه مسألة وجودية وليست مسألة رفاهية كما نكرر منذ سنوات عن مسألة الاستراتيجية الموحدة والقيادة الوطنية الموحدة عندما ناقشنا مسألة المقاومة والتفاوض. ولكن هل للكلام من معنى؟ كم مرة كتبنا هذا الكلام بصيغ مختلفة؟ وماذا لو توقعنا ان ما حصل سوف يحصل، فقد توقعه لارسن من منطلقات تكاد تكون مناقضة، أو ربما علم أو أعلم به قبل وقوعه.