حين يجري التعامل مع ما جرى ويجري في قطاع غزة بوصفه معركة ضد الفساد، فإن ذلك يعني بالضرورة أن من يديرون الأزمة هم سادة الإصلاح الذين على الفلسطينيين أن يترسموا خطاهم كي يخرجوا من النفق المظلم الذي يعيشون فيه. وحين يكون ياسر عرفات هو حامي حمى الفساد فإن معنى ذلك أن من أداروا الأزمة هم أهل العدالة والمساواة وهم من سيضعون الأمور في نصابها وسيعيدون لكل ذي حق حقه.
والحال أن الصورة ليست على هذا النحو بحال من الأحوال، فلو صح أن هناك مفسدين، وأن من ثاروا هم فئة غاضبة عليهم، فإن من حركوا اللعبة من وراء حجاب ليسوا مصلحين حتى لو كانت سمعتهم في ميدان الفساد أقل وضوحاً من الآخرين.
لا خلاف على أن غازي الجبالي وموسى عرفات وثلة من أمثالهم كانوا ولا يزالون ممن يرفضهم الشارع الفلسطيني لفسادهم المتعدد الأوجه، لكن هؤلاء بعينهم لم يكونوا مرفوضين ولم يشهّر بهم يوم كانوا جزءا من منظومة يرتاح لها الإسرائيليون ويرون فيما تفعله انتصاراً لمسار سياسي يعوّلون عليه الكثير على صعيد مستقبل دولتهم ونفوذها وهيمنتها على المنطقة.
كان هؤلاء هم سادة الموقف أيام صعود وتمدد اتفاق أوسلو، لكنهم كانوا مغفوري الذنب لأنهم كانوا يطاردون المقاومة وينتصرون للتسوية ومسار أوسلو. وقد حدث ذلك على رغم أن قصص فسادهم وصفقاتهم مع الإسرائيليين كانت أكثر شيوعاً من هذه الأيام لأن الأموال في يد السلطة كانت كثيرة، ولم يكن ثمة من يتحدث عن الرقابة المالية التي طرحت لاحقاً ، ليس حرصاً على أموال الشعب الفلسطيني، وإنما خوف من ذهاب بعض تلك الأموال إلى مساعدة المقاومة وتعزيز مسارها.
ما الذي جرى الآن كي يغدو هؤلاء مرفوضين إلى هذا الحد، على رغم أنهم كانوا على الدوام كذلك في وعي الشارع الذي كان يتداول قصصهم ومغامراتهم من دون أن يملك فعل شيء، حتى عندما كانوا يعذبون المعتقلين حتى الموت ويطلقون الرصاص على المتظاهرين العزل كما حصل أمام مسجد فلسطين في غزة في عام 1996.
واقع الحال هو أن قوة فاعلة في القطاع هي التي حركت اللعبة، ويقف على رأس تلك القوة ،باعتراف الإسرائيليين الذين يرقبون كل حركة في فلسطين، محمد دحلان الذي غدا الرقم الأكثر أهمية في قطاع غزة والرجل المرشح لخلافة ياسر عرفات بالإقناع أو بسطوة القوة.
لم يحدث ذلك لأنه الرجل الأكثر شعبية في قطاع غزة، أو حتى في أوساط حركة فتح، بل لأنه الرجل الذي يملك المال الذي يمكنه من شراء بعض كوادر الحركة التي يبدو ان معظم كوادرها من الموظفين والمتفرغين. وقد حصل خلال الأسابيع الأخيرة أن أصر دحلان على إجراء انتخابات داخلية لفروع الحركة رغم أنف عرفات فاز فيها المقربون منه. وبذلك باتت غزة رهن إشارته، وهو ما أشعره بالقوة ودفعه إلى ضرب رجال الرئيس وعلى رأسهم الجبالي، الأمر الذي دفع عرفات إلى استبدال الرجل بعدو آخر لدحلان وتابع مخلص له هو موسى عرفات، لكن ذلك لم يكن مساراً صائباً في إدارة الصراع بالنسبة لرجل محنك مثل الرئيس الفلسطيني، فبدلاً من أن يأتي برجل له قبوله الشعبي كي يسحب ذريعة الفساد من أيدي خصومه، بادر إلى تعيين رجل أكثر تمتعاً بالرفض والنقمة من قبل الشارع الغزاوي هو موسى عرفات.
هنا ينهض سؤال مصدر القوة التي يتمتع بها دحلان، والسبب الذي دفع البعض إلى المراهنة عليه. وهنا يمكن القول إن الرجل هو المشروع الأميركي الإسرائيلي لخلافة عرفات، وإذا ثبت أن مصر قد وافقت عليه فقد أصبح قاب قوسين أو أدنى من الرئاسة أو من منصب رئيس وزراء حقيقي يهمّش الرئيس وليس شكلياً على طريقة محمود عباس أو أحمد قريع. ويبقى السؤال عما إذا كان المصريون قد اختاروه أو دعموه كي يلوحوا بالعصا للرئيس الفلسطيني كي ينسجم معهم أكثر في سياق تعاملهم مع خطة الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، أم أن المراهنة عليه حقيقية وأنهم في طور التضحية بصاحبهم التقليدي بالفعل.
أما لماذا وقع الاختيار على دحلان فإن لذلك جملة من الأسباب منها قوته كرجل أمن وهيمنته على تنظيم حركة فتح في قطاع غزة، الأمر الذي سيمكنه من السيطرة على مجمل الحركة التي من دون السيطرة عليها لا يمكن لأي أحد أن يكون رئيساً. أما الأهم من ذلك كله فهو خياراته السياسية في التعامل مع الواقع الفلسطيني ممثلاً في قبوله بمسار خريطة الطريق بصرف النظر عن المآل الذي ستصل إليه، إلى جانب إصراره على خيار التفاوض ورفض العنف أيا كانت النتيجة. وهنا قد يرى البعض إن عرفات قد يقبل باستحقاقات من هذا النوع إذا ما أعيد له الاعتبار، وهو قول صحيح بالفعل، لكن الإسرائيليين بيسارهم ويمينهم لم يعودوا يثقون به من زاوية أنه يمكن أن يقبل بأي شيء من أجل دوره وحضوره، لكن قبوله بما سيعرض تالياً ليس مضموناً كما أن عودته إلى مسار العنف ولو جزئياً تبقى واردة كما أثبتت مسيرة أوسلو وصولاً إلى انتفاضة الأقصى.
من هنا يمكن القول إن ما جرى في قطاع غزة هو جزء من لعبة السياسة المتعلقة بخيارات الشارع الفلسطيني في التعامل مع المرحلة الجديدة، وحيث يريد الإسرائيليون أن يدخلوا مسار خريطة الطريق بوقف كامل للمقاومة وتفاوض لا يحمل أي احتمال للعودة إلى العنف من جديد، وهو الأمر الذي لن يتوفر إلا مع رجل مضمون مثل دحلان.
لا شك أن عرفات قد أدار اللعبة بطريقة غير مدروسة، الأمر الذي يجعل نجاته من الأزمة موضع استفهام، ذلك أن خسارة تفرده تبدو واردة، لكن فرصته في البقاء تبقى قائمة إذا ما تدارك الأمر وتحالف مع شرفاء حركة فتح ومعهم القوى الإسلامية الخائفة من خيارات دحلان. أما إذا واصل إصراره على الطريقة القائمة فسيجد نفسه معزولاً أكثر فأكثر، سيما إذا تأكد عزم المصريين على التعامل مع خيار دحلان بشكل جدي.