المسجد الأقصى في خطر أكثر من أي وقت مضى! الخطر الذي يتهدّده يتجاوز بالتأكيد ما تعرّض له يوم أضرمت فيه نيران التطرّف عام 1969. ذلك أن تقنيات التخريب باتت أكثر يسراً وفتكاً من يومها، في حين اتسعت مخيلة المتربّصين به، جموحاً وعصابية، مقدار ما تجذّرت إرادة الاستفزاز والحقد وباتت تجد صدى جدياً لها في جهاز الدولة الاسرائيلي نفسه، وفي ظلّ مناخات شديدة الرجعية. ان المناخات الاحيائية والرؤيوية التي وجدناها في غير مكان، وهي تقحم التقليعات التقنية في المرامي البدائية حيناً، أو تشغّل التقنيات الحديثة بوسائل بدائية لتحقيق مكسب تدميري أعلى حيناً آخر، هي نفسها المناخات التي تجعل المسجد الأقصى في خطر اليوم.
المسجد الأقصى في خطر. بعض الخطر الذي يتهدّده ناشئ بالضرورة عن التداخل الافتراضي بين مشهديتي دكّ تماثيل بوذا في باميان من قبل ميليشيا الطالبان وتهاوي برجي التجارة العالمية في نيويورك، ناهيك عن متفرقات تنقل إلينا يومياً، من هنا وهناك، من الهند حتى البوسنة وصولاً الى اسطنبول، وتتمثل بالاستيلاء على دور عبادة وتغيير وجهتها أو حرقها وإزالتها أو تدنيسها. لقد عنى صدام الحضارات أول ما عنى حرباً على الصروح الثقافية والدينية في العالم، بما ينذر بتضخم مهمة اليونسكو في السنوات والعقود المقبلة.
تجد حركات تدمير الأقصى وبناء الهيكل قاعدة آمنة لها في ظل دولة منهمكة بتثبيت أقدامها سياسياً وديموغرافياً في اليهودا والسامرة. وحين نجد فيلسوفاً (فرنسياً) من نوع شمويل تريغانو وهو يؤكد على حق اسرائيل في ضمّ الضفة كاملة لأن الدولة اليهودية في حدود الرابع من حزيران 1967 كانت خارج نفسها، ومغتربة عن ذاتها، ولأن الصاعدين الى وطنهم الموعود لم يتحملوا مشقة السفر كي يكتفوا بالمرابطة على حدوده، فلا عجب أن نجد منهم من كان أكثر غلواً وتصميماً، وهم يؤكدون أنهم لم يتحملوا مشقة السفرة غير المريحة والاقامة غير الآمنة كي يقيموا في دولة صهيونية تخجل من إعادة بناء الهيكل.
كان الحرم القدسي في السنوات الأخيرة عنواناً لأزمتين كبيرتين: الأولى حين امتدت أعمال التنقيب من تحته بما يهدّد أساساته، في ظل حكومة نتنياهو، والثانية حين دنّس أرضه أرييل شارون وفيلقه، في ظل حكومة باراك. هل يترك ارييل شارون كرسي الحكم بعد سنوات دون أن ترصّع تجربته بتعريض مادي ورمزي بالمسجد الأقصى؟
لم تتمكن مفاوضات الوضع النهائي من التداول جدياً في أمر جعل القدس القديمة ديزنلاند ابراهيمية تقية يؤمها حجاج من مختلف المذاهب والأعراق. ضاعت النقاط الأكثر تقدّما التي كاد يسود الاتفاق عليها في كامب ديفيد أو طابا، وبدلاً من أن يثبت مشروع يوسي بيلين أقدامه في اسرائيل، بدا مشروع يوسي بيلين كما لو كان يحاول تثبيت أقدامه في المناطق الفلسطينية، كما لو كان يوسي بيلين هو البديل المقترح عن عرفات.
وكما حدث تقارب جدي بين الليكود والعمل في الأشهر الأخيرة، ثمة تقارب موضوعي يلوح في الأفق بين يوسي بيلين، يسار اليسار الاسرائيلي، وبين غوش ايمونيم وأمناء الهيكل، فكلاهما يدخلان جديداً على المعادلة الاسرائيلية الفلسطينية: يوسي بيلين يُقترح منذ وثيقة جنيف كبديل موضوعي عن عرفات، في حين يجري التلويح بغوش ايمونيم وأمناء الهيكل وكاهانا حي كجماعات إرهابية مصمّمة قد يصل بعضها الى إعداد قنابل بشرية مضادة، فيكون موعدنا مع كليبات مشابهة لتلك التي يبثها الزرقاوي وجماعته، وهي تزف إلينا بشرى انحطاط الصراع أكثر فأكثر، الى مستوى رجعي مثير للاشمئزاز.