أثارت المقالات التي نشرناها عن التقرير الاستراتيجي الذي كتبته الباحثة الأمريكية شيريل بينار ونشرته مؤسسة راند, التي تعتبر منبر العقل الاستراتيجي الأمريكي أصداء واسعة لدي دوائر ثقافية متعددة. وربما يعود هذا الاهتمام الي ان الرسالة التي أفصحت عنها الباحثة بوضوح تام وبغير مواربة, هي أن علي الغرب ان يتدخل ـ وفقا لخطة منهجية مدروسة ـ في العملية المعقدة التي تتعلق باعادة بناء الفكر الاسلامي المعاصر, حتي تكون قيمه الأساسية متطابقة مع القيم الغربية وخصوصا قيم الديمقراطية والتعددية واحترام حقوق الانسان, وافساح المجال للمجتمع المدني بمؤسساته المختلفة, لكي يسهم في عملية التنمية من ناحية, ويكون دعامة للجهود الفردية من ناحية اخري ويقيها من هيمنة أجهزة الدولة.
والكتاب الذي أصدرته شيرلي بينار له عنوان لافت للنظر حقا وهو الاسلام المدني الديمقراطي: شركاء, وموارد, واستراتيجيات والباحثة لاتتردد في وصف مهمة الكتاب بأنها اسهام في عملية إعادة بناء الدين الاسلاميReligionBuilding علي غرار عملية بناء الأمةNationBuilding. وهذه العملية لاينبغي علي الغرب وفي مقدمته الولايات المتحدة الأمريكية الانفراد بها, بل من الضروري اصطفاء عناصر فاعلة من بين التيارات العلمانية والحداثية بل والتقليدية الاسلامية, لكي تسهم في هذه العملية المعقدة. ومن هنا يأتي العنوان الفرعي لهذا التقرير الاستراتيجي المهم: شركاء وموارد واستراتيجيات. فكلمة الشركاء تشير الي هؤلاء الفاعلين الاسلاميين الذين سيقبلون ـ لسبب أو لآخر ـ الاشتراك مع الجهود الغربية عموما والأمريكية خصوصا في عملية اعادة صياغة الأفكار الاسلامية من خلال عملية اصلاح ديني لها خطوطها البارزة, والتي تصب في النهاية في استئصال الفكر المتطرف, مما سيؤدي بالضرورة إلي تجفيف منابع الإرهاب. أما إشارة العنوان الفرعي الي الموارد فمعناها ببساطة تخصيص ميزانيات ضخمة للاتفاق علي المشروع, من خلال وكلاء يقومون بمهمة تجنيد الأنصار ونشر
الكتب وإصدار المجلات التي تحمل الفكر الاصلاحي الاسلامي الجديد! والولايات المتحدة الأمريكية لديها خبرة في تجنيد الوكلاء والأنصار والعملاء لتنفيذ مشاريعها الثقافية المخططة, التي تهدف منها إلي اعادة صياغة نسق القيم في المجتمعات العربية والاسلامية. ويمكن ان نرد هذه الخبرة الي عصر الحرب الباردة حين خاضت الولايات المتحدة الأمريكية حربا ثقافية ضد الشيوعية. وهذه الحرب موثقة توثيقا ممتازا في كتاب الحرب الباردة الثقافية الذي أصدره المشروع القومي للترجمة في المجلس الأعلي للثقافة.
وتواصل الولايات المتحدة الأمريكية اليوم ـ وخصوصا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر ـ حربا ثقافية من نوع جديد, موجهة ضد التيارات الاسلامية المتطرفة, وأصبح لديها اليوم برنامج معلن لنشر قيم الديمقراطية وحقوق الانسان. ليس ذلك فقط بل أصبح لها وكلاء رسميون ومعتمدون تغدق عليهم الأموال ليقوموا بأدوار متعددة داخل مجتمعاتهم, بعضها معلن والاخر سري, لن نعرف طبيعته الا بعد مرور عدد من السنين. ويؤكد كلامنا القرارات التي صدرت من الكونجرس الأمريكي بتخصيص منحة مالية ضخمة للوكيل الأمريكي المعتمد في مصر لتنفيذ هذا البرنامج, وإمعانا في التحدي تقرر ان تكون هذه المنحة خصما من المعونة الأمريكية للحكومة المصرية!
المسيرة الأكاديمية الأمريكية
والواقع ان شيريل بينار في كتابها المهم تمثل حلقة من سلسلة طويلة من البحوث الأكاديمية الأمريكية التي ركزت علي الاسلام وخصوصا بعد قيام الثورة الايرانية عام1979. فمنذ هذا التاريخ وربما قبله بقليل انشغلت الدوائر الأكاديمية الأمريكية بما أطلق عليه الصحوة الاسلامية, فعقدت عشرات المؤتمرات وكتبت مئات الكتب في محاولة لاستكناه طبيعتها, وتحديد آثارها بالنسبة للعالم الغربي, علي أساس ان هذه الصحوة بما سيترتب عليها من تغييرات سياسية محتملة في طبيعة النظم السياسية الحاكمة في العالم الاسلامي, قد تضر ضررا بليغا بالمصالح السياسية والاقتصادية والثقافية الأمريكية.
ويمكن القول إن المسيرة الأكاديمية في دراسة الاسلام كانت طويلة حقا وزاخرة بالتحولات منذ الاهتمام بالصحوة الاسلامية حتي التركيز علي الارهاب الاسلامي عقب أحداث سبتمبر2001. وفي غمار هذه المسيرة التفت مبكرا بعض الباحثين الأمريكيين وعلي رأسهم ليونارد بايندر في كتابه المهم الليبرالية الاسلامية الصادر عام1988 الي التيار الوسطي الاسلامي, وأهمية تنميته, ومن هنا أطلق عليه الليبرالية الاسلامية. ونجد فيه فصولا اضافية عن عدد من ابرز المفكرين الاسلاميين من أول سيد قطب الي علي عبدالرازق, مع التفاتة خاصة لطارق البشري باعتباره يمثل ـ في وقت نشر الكتاب ـ رمزا صاعدا لهذه الليبرالية الاسلامية.
وقد عبر هذا التيار الوسطي عن نفسه في الوثيقة التي حررها الدكتور كمال أبوالمجد باسم عشرات من المثقفين الاسلاميين, وهي بعنوان رؤية اسلامية معاصرة. واذا كان كتاب بينارد قد صدر عام2003, فقد صدر بعده كتاب مهم في صميم الموضوع هو كتاب رايموند بيكر اسلام بدون خوف الصادر عام2004.
غير ان كتاب بينارد يختلف بشكل جوهري عن كتب بايندر وبيكر, لأنه في الواقع تقرير استراتيجي مقدم للادارة الأمريكية لتشخيص الحالة الاسلامية, وتقديم تصنيف للتيارات الاسلامية, وصياغة توصيات للعمل في مجال إعادة بناء الدين الاسلامي بحسب تعبيرات الباحثة.
والباحثة تنطلق من عدة مقولات أساسية أهمها ان هناك في الوقت الراهن صيغا متنافسة للاسلام, تتصارع حتي تكون لها السيادة الروحية والسياسية, مع ما يصاحب ذلك من نتائج خطيرة بالنسبة لباقي العالم.
مثال ذلك لو انتصر التيار المتطرف الذي يقوده أسامه بن لادن زعيم تنظيم القاعدة وأصبح هو المسيطر علي وعي ووجدان المسلمين في العالم الاسلامي, فإن ذلك يمثل مخاطر هائلة بالنسبة لاستقرار الدول الاسلامية ذاتها, وبالنسبة للغرب خصوصا, وهو الهدف الأساسي الآن للارهاب الاسلامي.
ومن هنا ترتب شيرلي بينار علي هذه المقولة الأولي نتيجة مهمة, وهي انه من الضروري القيام بجهود أكاديمية وبحثية لفهم الصراع الأيديولوجي الدائر داخل العالم الاسلامي, والتمييز بين التيارات المتنافسة داخل الفكر الاسلامي الراهن.
والهدف من ذلك ان يتمكن القادة السياسيون الغربيون ـ وفي مقدمتهم بطبيعة الحال الأمريكيون ـ من تحديد الشركاء الاسلاميين المناسبين, والعمل معهم لمكافحة التطرف والعنف والارهاب, وتشجيع قيم الديمقراطية علي الطريقة الغربية والأمريكية.
وتلتفت الباحثة بذكاء إلي أن الفكرة التي مؤداها أن العالم الخارجي عليه أن يرعي ويدعم صيغة ديمقراطية للإسلام كانت متداولة منذ عقود, غير انها ـ كما تقول ـ اكتسبت أهمية خاصة عقب الأحداث الارهابية التي وقعت في11 سبتمبر2001
وتقرر الباحثة الأمريكية أن هناك اتفاقا عاما بين صناع القرار الغربيين علي أن هذا النهج الذي يتمثل في تنمية وتدعيم صيغة للاسلام الديمقراطي يعد نهجا بنائيا, لأنه يخدم في الأساس المصالح الغربية.
ولو وضعنا في الاعتبار ان الدول الأوروبية تجابه ظاهرة التطرف الاسلامي داخل مجتمعاتها نفسها بحكم وجود أقليات اسلامية كبيرة العدد فيها, لأدركنا ان الاهتمام بهذا الاتجاه لايتركز في الولايات المتحدة فقط, ولكنه موجود منذ عقود في أوروبا, التي شهدت في مجال التفاعل بين الأقليات الاسلامية فيها وقيم الحضارة الغربية مشكلات شتي تصاعدت في بعض الحالات, تمثل أحداث عنف مؤسفة, كما أنها تجسدت في حالات أخري في صورة مواجهات ثقافية عنيفة, مثل المعركة الدائرة في فرنسا مع السلطة الفرنسية حول مشكلة الحجاب, بعد صدور تشريع فرنسي يحرم ارتداء الرموز الدينية اليهودية والمسيحية والاسلامية في المدارس العامة وأماكن العمل.
وتري الباحثة الأمريكية أن الفكر الاسلامي المعاصر يزخر بإيديولوجيات متنوعة, وتوحي بأفعال سياسية متعددة, وبعضها ولاشك في ذلك معاد للاستقرار العالمي وضد مصالح الدول الغربية, وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية.
ومن هنا ـ فيما تري الباحثة الأمريكية ـ يصبح تدعيم تيارات بعينها داخل الفكر الاسلامي تدعو لنظام اجتماعي أكثر حداثة وديمقراطية, وتنزع الي التعامل السلمي مع الآخر مسألة بالغة الأهمية.
وهي تنطلق من تشخيص الأزمة الراهنة في الاسلام والتي تراها تعود الي سببين. الأول هو الفشل في التحقق لعدم تطبيق مبادئه المثالية, والثاني هو الاخفاق في التواصل مع التيار الحضاري الأساسي العالمي. وقد ترجمت الأزمة عن نفسها بمشاعر الاحباط السائدة لدي جماهير المسلمين نتيجة دوام حالة التخلف وفقدان الفاعلية من ناحية, وكنتيجة لازمة لفشل الايديولوجيات القومية بل وفشل الثورات الاسلامية في تحقيق الحرية للجماهير, وتوفير الحد الأدني من العدالة الاجتماعية, والحفاظ علي الكرامة الانسانية.
ويختلف المسلمون حول أسباب الأزمة, وما الذي سببها, وكيف يمكن تجاوزها.
أما بالنسبة للغرب فإن السؤال ـ كما تقرر شيرلي بينار ـ أي إيديولوجية عليه ان يدعمها, وفقا لأي أهداف محددة وواقعية, وبأي أسلوب؟ هذا السؤال هو مانعرض لإجابته في المستقبل القريب.
التعليقات