لا يصدق ابناؤنا ان معاناتنا، عندما كنا في مثل اعمارهم، كانت بحجم ما نقوله ونرويه ونعلمه لهم واكثر وبالتأكيد فان ابناءهم لن يصدقوا ما سيقولونه لهم حول معاناتهم هم فهذه هي سنة الحياة فنحن ايضا كنا نستكثر الامور عندما كان يروي لنا اباؤنا واجدادنا ما عانوه من شظف العيش وقسوته عندما كانوا صغارا بلا طفولة.
يبرم ابنائي شفاههم عندما اقول لهم ان اول «روضة» مدرسية ذهبت اليها كانت ظلال شجرة بلوط كبيرة معمرة وان «الاقساط» التي كنا ندفعها لـ«خطيب» الروضة يوميا وفي كل صباح كانت رغيف خبز وبيضة واحدة وان هذه الاقساط كانت ترتفع في الشتاء بزيادة «قرمية» من الحطب في كل يوم الى جانب رغيف الخبز والبيضة.
ان الشجرة التي كانت اول «روضة»!!! اذهب اليها لا تزال موجودة وان صورة «الخطيب» بعمامته الانيقة ولحيته المشذبة لا تزال تقفز من قاع الذاكرة لتتجسد حقيقة امام عيني كلما مررت بالطريق الذي اصبح معبدا تعبره عشرات السيارات يوميا ولعل اهم هذا الذي يتجسد امام عيني هو صورة ذلك «الخطيب» وهو يتابع هز «مطرق» الرمان امام انوفنا طوال اليوم ولا يتورع من ان يخبط خبطا عشوائيا اذا شعر بأي همهمة ولو خافتة بينما كنا نحن الطلبة نتحلق حوله في جلسة دائرية نفترش فيها ارضا ترابية حمراء لا يوجد ما هو اجمل من رائحتها في الصباح الباكر حيث قطرات الندى تبلل جبينها كما تبلل قطرات عرق الخجل جبين غادة حسناء.
لم تكن اعمار طلبة هذه «الروضة» متقاربة فهناك من تجاوز الخامسة عشرة من عمره وهناك من لا يزال في الخامسة او السادسة واذكر ذات يوم خريفي اغبر ان الغيوم السوداء تلبدت فجأة في السماء فهطلت امطار غزيرة تبعتها عاصفة «بَرَد» شديدة فهرب الطلبة من «روضتهم» كيفيا كالطور المذعورة ولانني كنت من بين اصغر هؤلاء سنا فقد حملني قريب لي وهو من هذه «الروضة» ذاتها وكان عمره اربعة اضعاف عمري وبقي يركض مترنحا حتى اوصلني الى حيث كان اهلي يضربون بيت الشعر الى جانب بيت اهله.
انتقلنا من تلك «الروضة» الجميلة الى اول مدرسة ابتدائية تُفتتح في القرية فتعرفنا الى الالواح الغرانيتية و«الطبشور» الجيري الابيض والمقاعد الخشبية وبدل ذلك «الخطيب» الذي كان شيخا في غاية القسوة والعنف اصبحنا نلتقي في كل صباح استاذا جميل المظهر جميل المخبر لا يحمل لا «مطرق» رمان متوحش ضربته لاذعة ومؤلمة ولا حتى «عصا» قصيرة حنونة ورحيمة.
لم ندم طويلا في هذه المدرسة إذ ما ان تجاوز اول فوج الصف الرابع حتى تفرق طلابه ايدي سبأ فانا التحقت بمدرسة النصر الثانوية التي كانت تتبع للقوات المسلحة والتي كان مديرها ابو مأمون الخصاونة رحمه الله الرحمة الواسعة ومن هذه المدرسة انتقلت الى «المدرسة الاعدادية» في عمان التي اصبح اسمها كلية الشهيد فيصل الثاني بينما انتقل اخرون الى مدرسة المفرق والى مدارس اخرى في الزرقاء.
في احدى العطل المدرسية الربيعية التقينا احد اصدقائي وانا في قريتنا العزيزة وبعد انتهاء العطلة المدرسية توجهنا في الصباح الباكر مشيا على الاقدام وقطعنا اكثر من عشرة كيلومترات حتى وصلنا الى قرية «الرُّمان» القديمة المعروفة على أمل ان نأخذ من هناك «باص» جرش ونذهب الى عمان لألتحق انا بمدرستي الداخلية في العبدلي ويتوجه هو في «باص» اخر الى الزرقاء.. ولقد انتظرنا.. وانتظرنا ولم يأت «باص» جرش فقررنا ان نكمل مشوارنا سيرا على الاقدام لعل ان تلحق بنا حافلة او نصادف سيارة وبقينا نسير.. ونسير ونحن نلتفت الى الخلف بدون اي جدوى الى ان وصلنا الى صويلح في ساعات الظهيرة.. فهل يصدق الابناء هذا؟