انتصر الفلسطينيون على أنفسهم، فالرئيس عرفات ورئيس وزرائه قريع صفعا شارون وكل مَنْ يقف معه في السعي إلى جرّ الفلسطينيين إلى الاقتتال المحرَّم إذ اتفقا على سدّ ثغرة الدفرسوار الفلسطينية التي كان يمكن أنْ تنفذ منها كل الشرور الشارونية.
لقد تعرّض العقل السياسي للفلسطينيين لحرب إعلامية وسياسية وفكرية، قادها بوش وشارون وآخرون أقل شأنا ووزنا، واستهدفت جعل الفلسطينيين ينظرون إلى بقاء الصلاحيات الأمنية في يد الرئيس عرفات على أنّه مصدر لكل الشرور والكوارث، فبقاؤها هو الذي أدّى إلى استفحال الإرهاب الفلسطيني، الذي أغلق تماما باب المفاوضات، وأرغم حكومة شارون على الشروع في بناء الجدار الأمني مع كل ما يلحقه بالفلسطينيين من أضرار؛ ثم أرغمها على إعداد خطة لانفصال إسرائيل من جانب واحد عن الفلسطينيين، بدءا بانفصالها عنهم في قطاع غزة؛ كما أدّى إلى إحباط كل الجهود والمساعي التي بُذلت من أجل تنفيذ خارطة الطريق حتى اضطرت إدارة الرئيس بوش إلى أنْ تفعل كل شيء من أجل تدجين خطة شارون، وجعلها مدخلا إلى تنفيذ الخريطة في وقت لا يعلمه سوى الله!
وبعد كل هذه الشرور وقع الشر الأخير، فبقاء الصلاحيات الأمنية في يد الرئيس عرفات قد شرع يقوّض الأمن الداخلي للفلسطينيين أنفسهم حتى بات تنازله عنها هو السبيل الوحيد لدرء كارثة الاقتتال والحرب الأهلية عن الفلسطينيين ولا سيّما في قطاع غزة، ولقيام سلطة أمنية فلسطينية جديدة، موَّحدة وقوية، تحت قيادة وزير داخلية قوي، فيُملأ الفراغ الأمني الذي يُخلِّفه الانسحاب الإسرائيلي من القطاع، وتقوم أجهزة ومؤسسات الدولة الفلسطينية المقبلة!
اللعبة ذاتها، التي لعبوها في بعض الدول العربية، نراها تُلعب، الآن، في قطاع غزة، فالإرهاب، الذي تقاعسوا في مكافحته ومحاربته عندما كان يُمارس ضد إسرائيل، أخذ يتحوّل إلى مشكلة داخلية لا مهرب لهم من التصدّي لها!
ٍوأحسب أنّ بقاء الصلاحيات الأمنية في يد الرئيس عرفات أو تنازله عنها أو عن بعضها لرئيس الحكومة أو لوزير الداخلية ليس هو القضية التي يجب أنْ تستأثر باهتمام الفلسطينيين. ما يجب أنْ يظل في بؤرة اهتمامهم إنّما هو التحكّم في النتائج السياسية ـ الاستراتيجية التي قد يتمخض عنها هذا الحل لما يسمّى مشكلة الصلاحيات الأمنية، فوزير الداخلية القوي يجب أنْ يُظهِر قوته في مواجهة ما سيتعرَّض له من ضغوط خارجية، هدفها حمله على استخدام الصلاحيات ألأمنية في طريقة تؤدي إلى ظهور المفاوض القوي، أي المفاوض الذي يملك من الصلاحيات السياسية (أو يُنقل إليه منها) ما يقوِّض الوقفة التاريخية التي وقفها الرئيس عرفات في منتجع كامب ديفيد، والتي جلبت عليه الحصار والعزل وضغوط الإصلاح ووسطاء الإصلاح..
هذا الحل، الذي تتوفر عليه قوى الضغط الخارجي (النظامية والاحتياطية) يجب ألا يسمح لجدار شارون الأمني بأنْ يُبنى، سياسيا، في عمق قطاع غزة، فيتحوّل الانسحاب الإسرائيلي من القطاع إلى انسحاب سياسي ـ استراتيجي فلسطيني؛ كما يجب ألا يُسمح له بتقويض الأمن التفاوضي للفلسطينيين، فنقل الصلاحيات الأمنية واستخدامها يجب أنْ يخضعا لرقابة فلسطينية سياسية مشددة، تمارسها كل قوى ومنظّمات المجتمع المدني الفلسطيني حتى لا تنتقل حملة الإصلاح إلى مرحلتها الثانية، التي يتصّدرها مطلب وزير خارجية قوي، تُنقل إليه الصلاحيات السياسية التفاوضية، فهذه الصلاحيات، وهي بيت القصيد، يجب أنْ تظل من اختصاص الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني.
الأسماء لا تهم؛ فما يحتاج إليه الفلسطينيون، الآن، إنّما هو التدقيق في الصفة التمثيلية لصاحب الاسم، وامتلاكهم القدرة السياسية والتنظيمية على حماية الصفة التمثيلية من الضغوط والمخاطر الخارجية.
المشكلة والحل في تصوّر باول!
لو أنّ ياسر عرفات أعطى رئيس وزرائه سلطة حقيقية..
هنا، في رأي باول، يكمن جذر المشكلة برمّتها. هنا يكمن الحل، وهنا تكمن الكارثة الكبرى التي ستحلّ بالفلسطينيين لو ظل عرفات متشبّثا بما يسمّيه باول السلطة التنفيذية، التي هي بعض من سلطاته.
باول يفهم جيدا كل أبعاد وجوانب المشكلة؛ ولكنّه يدعونا إلى أنْ نفهمها فهما مختلفا عن فهمه غير المعلَن، فوزير خارجية الولايات المتحدة دعا عرفات إلى أنْ يعطي رئيس وزرائه سلطة حقيقية حتى يتمكن من احراز تقدّم في الجهود المبذولة لتنفيذ خارطة الطريق، قائلا: نعتقد أنّ تخلّي عرفات عن بعض سلطاته هو الطريق القويم إلى إحراز تقدّم كهذا. يجب أنْ يعود أمر السلطة التنفيذية إلى رئيس الوزراء كي يتمكن من القيام بما يجب القيام به من أجل الفلسطينيين. عندما يتحقق ذلك يصبح في مقدورنا إجراء مفاوضات ليس في شأن المسائل الأمنية فحسب؛ وإنّما في شأن المسائل الاقتصادية التي تؤثِّر سلبا على الفلسطينيين. وعن استقالة قريع، قال باول إنّ هذه الاستقالة تعني أنّ رئيس الوزراء في حاجة إلى مزيد من السلطة كي يتحمّل مسؤولياته.
إذا كان الحل (الذي في مصلحة الفلسطينيين) يكمن في تنفيذ خارطة الطريق فإنّ العقبة الكبرى التي تعترض طريق هذا الحل ولم تُذلّل بعد تكمن، بحسب تصور باول، في إمساك عرفات عن إعطاء رئيس وزرائه سلطة حقيقية (سلطة تنفيذية، وفي مجال الأمن على وجه الخصوص). هذا الإمساك يمنع الحل الذي جاءت به خارطة الطريق؛ ولسوف يتحوّل إلى السبب الأوّل (وربما الوحيد) لكارثة تحلّ بالفلسطينيين!
باول يعلم أنّ شارون قد أنجز مهمة تدمير أجهزة الأمن الفلسطينية، وأنّ الدور الأمني لا يمكن أنْ تقوم له قائمة قبل إعادة بناء هذه الأجهزة؛ ولكنه ينظر إلى إعادة بنائها على أنّها مهمة يمكن البدء بتنفيذها ليس الآن؛ وإنّما بعد نقل السلطة التنفيذية من الرئيس إلى رئيس وزرائه، الذي ما أنْ تُنقل إليه حتى يقوم بتوحيدها تحت قيادته أو تحت قيادة وزير داخليته حتى إذا أُنجز ذلك تلّقت هذه الأجهزة من الدعم الخارجي ما يسمح لها بتأدية دورها الأمني على خير وجه.
وينظر باول إلى بقاء الصلاحيات والسلطات الأمنية أو السلطة التنفيذية في يد الرئيس عرفات على أنّه السبب الذي يمنع الفلسطينيين من تلبية الشرط الأوّلي لبدء مفاوضات مع إسرائيل تفضي إلى تنفيذ خارطة الطريق. وهذا الشرط الأوّلي هو إنهاء ظاهرة الإرهاب الفلسطيني، التي، بحسب تفسير باول، ما كان ممكنا أنْ تستمر لو أنّ عرفات أعطى رئيس وزرائه سلطة حقيقية!
وإلى أنْ يلبّي الرئيس عرفات دعوة باول في الطريقة التي يريدها وزير خارجية الولايات المتحدة يظل الفلسطينيون معدومي القيادة، لا يملكون شيئا من صفة الشريك في مفاوضات السلام، فعرفات ما عاد برجل دولة، يحارب الإرهاب ويسعى في السلام؛ أمّا قريع فلم يملك بعد من السلطة الحقيقية ما يجعله قادرا على تحمّل مسؤولياته!
هذا الخلل الكبير في القيادة الفلسطينية أدّى، أوّلا، إلى هذا التأخير في تنفيذ خارطة الطريق؛ ثمّ أدّى إلى انحياز إدارة الرئيس بوش إلى خطة شارون، التي فسّرتها هذه الإدارة على أنّها ثمرة غياب الشريك الفلسطيني، الذي لو كان موجودا لنُفِّذت الخريطة، ولانتفت الحاجة إلى اتخاذ خطة شارون مدخلا إلى تنفيذ خارطة الطريق!
إدارة الرئيس بوش، وبدعوى الحرص على تنفيذ خارطة الطريق عبر تنفيذ خطة شارون جلبت لهذه الخطة كل ما تحتاج إليه من دعم دولي وإقليمي؛ أمّا الدعم الداخلي لها، أي الإسرائيلي، فجلبته إذ سلّمت شارون رسالة الضمانات، التي فيها مسخت الحقائق الإسرائيلية الحقوق الفلسطينية!
ولكن، لنفترض أنّ الرئيس عرفات قد لبّى، تماما، دعوة باول، معطيا رئيس وزرائه كل السلطة الحقيقية، فما هو المشهد الذي سنراه في اليوم التالي؟
أوّلا، سيرحِّب باول بهذا الإنجاز العظيم؛ ثمّ سيدعو رئيس الوزراء إلى تحمّل مسؤولياته؛ ذلك لأنّه بات يملك من السلطة الحقيقية ما يجعله قادرا على تحمّل مسؤولياته. سيقول له: إبدأ بحرب شاملة لا هوادة فيها على الإرهاب ولك منّا كل الدعم!
والحرب على الإرهاب سيتسع مفهومها حتى تتأكد الولايات المتحدة وإسرائيل أنّ الفلسطينيين قد وقعوا في حرب أهلية لا نهاية لها إلا بعد أنْ تصل بأثرها التدميري إلى إرادتهم السياسية، أي عندما يصبح حل شارون الذي أمعن شارون (أو إسرائيل) في مسخه خشبة الخلاص للفلسطينيين!
أمّا إذا أحجم رئيس الوزراء عن استخدام السلطة الحقيقية المنقولة إليه من الرئيس فلا بد من أنْ تُنقل منه إلى غيره..!
الحل الذي ترفضه إدارة بوش!
إنّ إدارة الرئيس بوش ما زالت تنظر إلى خارطة الطريق، التي لم يُنفَّذ منها حرف واحد حتى الآن، على أنّها الخطة المثالية للتوصّل، عبر المفاوضات، إلى حل نهائي للنزاع التاريخي بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وإنْ تحدّثت، غير مرّة، عن تلك الأسباب الفلسطينية التي منعت، وما زالت تمنع، بلوغ الهدف النهائي للخطة وهو قيام دولة فلسطين في جوار دولة إسرائيل.
وتراقب إدارة الرئيس بوش عن كثب كل قول أو فعل فلسطيني لعلّها تكتشف فيه مزيدا من العوائق والعراقيل الفلسطينية؛ ولكنّها لم ترَ ما يمكن أنْ يعدّ عقبة إسرائيلية، فالطريق إلى السلام، عبر تنفيذ خارطة الطريق، سالكة في جانبها الإسرائيلي؛ وكل الجهود الدولية والإقليمية والعربية يجب أنْ تبذل من أجل جعلها سالكة في جانبها الفلسطيني!
أمّا إذا قررت محكمة العدل الدولية في لاهاي؛ ثم الجمعية العمومية للأمم المتحدة، أنّ جدار شارون غير شرعي بموجب القانون الدولي، وينبغي لإسرائيل التوقّف عن بنائه وإزالة ما بُني منه حتى الآن، فإنّ إدارة الرئيس بوش لا تجد غضاضة في أنْ تعلن أنّ القرارين الدوليين يسيئان إلى الجهود المبذولة لتنفيذ خارطة الطريق، أي أنّ الفلسطينيين والمجتمع الدولي هما اللذان يتحملان مسؤولية إحباط تلك الجهود، ويمكن أنْ يمنعا شارون من تنفيذ خطته، التي صار يُنظر إليها على أنّها الطريق إلى تنفيذ خارطة الطريق، فليس الجدار؛ وإنّما الدعوة الفلسطينية والدولية إلى إزالته هي العقبة، وليست رسالة الضمانات؛ وإنّما الدعوة إلى التراجع عنها وعمّا تضمّنته من انتهاك للقانون الدولي هي التي تسيء إلى جهود ومساعي السلام، التي لا يحرص على نجاحها سوى إسرائيل والولايات المتحدة!
ولكن، متى يمكن القول، بحسب وجهة نظر ومنطق إدارة الرئيس بوش، أنّ الفلسطينيين قد تهيأوا تماما للتعاون مع إسرائيل في صنع السلام؟
جوابها الدائم هو: عندما ينجزون إصلاحا يسمح بقيام حكومة فلسطينية تذلل عقبة الإرهاب الفلسطيني من طريق السلام!
غير أنّ الفلسطينيين، بحسب وجهة نظر إدارة الرئيس بوش، قد فشلوا، لأسباب كثيرة، في تذليل العقبات من الطريق المؤدية إلى إصلاح يذلل العقبة الإرهابية الفلسطينية من الطريق المؤدية إلى تنفيذ خارطة الطريق عبر تنفيذ خطة شارون!
فما الحل إذاً؟
الحل، لو كانت إدارة الرئيس بوش صادقة في بحثها عن حل، هو أنْ تذهب الولايات المتحدة إلى مجلس الأمن لاستصدار قرار دولي، تُقام بموجبه سلطة دولية مؤقتة في المناطق والمدن التي كانت خاضعة للسلطة الفلسطينية، تخضع لإمرتها قوة دولية في مقدورها إحلال هدوء أمني متبادل طويل الأجل.
وحلا لمشكلة الإصلاح، ولمشكلة افتقاد الفلسطينيين للقيادة السياسية التي يستحقون، تتولى السلطة الدولية المؤقتة تنظيم انتخابات فلسطينية حرّة، تنبثق منها تلك القيادة، التي بعد قيامها لا يعود هناك من مبرر لتأخير بدء المفاوضات، توصّلا إلى تنفيذ خارطة الطريق.
إنّ قرارا أو حلا دوليا كهذا لا يمكن النظر إليه على أنّه بديل من مفاوضات سلام ثنائية مباشرة، تُحلّ عبرها، فحسب، المسائل الخلافية الكبرى، وتُنفَّذ خارطة الطريق.
ومع ذلك لا تُظْهِر إدارة الرئيس بوش أدنى استعداد للمحاولة، فحديثها عن الإصلاح الفلسطيني ليس سوى تمويه للجهود التي تبذلها لإيقاع الفلسطينيين في فخ الاقتتال والحرب الأهلية، ففي الوقوع في هذا الفخ، فحسب، ترى طريقا فلسطينية إلى السلام مع إسرائيل!