تنظر المصادر الحكومية العراقية إلى نتائج الجولة العربية لرئيس الحكومة العراقي والوزراء المصاحبين له نظرة ارتياح. وعزت هذه المصادر الارتياح إلى التطمينات الأمنية التي تلقاها الوفد العراقي من حكومات دول الجوار العربي. فهذه الحكومات، بما في ذلك الحكومة السورية، أبدت استعدادها للتعاون الوثيق مع بغداد من أجل ضبط الحدود المشتركة ومنع “تسلل العناصر المسلحة” إلى الحدود العراقية. ولما كانت السلطات العراقية تعتبر أن العناصر القادمة من الخارج هي السبب الرئيسي في الاضطراب الأمني الذي تشهده البلاد، وحيث انها تحمل “الأجانب” مسؤولية أعمال العنف الموجهة ضد قوات الاحتلال وضد رموز الوضع القائم، فإن هذه السلطات تأمل ان تسفر الجولة التي قام بها الوفد العراقي على دول الجوار عن نتائج ملموسة ولمصلحتها في المستقبل القريب. فهل تكون الاعتبارات الأمنية في علاقات العراق بالجوار هي سبب الارتياح العراقي؟

لا ريب ان الهاجس الأمني هو الذي يشغل المسؤولين العراقيين ومعهم المسؤولون في ادارة جورج بوش. فالهم الرئيسي في العراق اليوم هو تهدئة الساحة العراقية وايقاف أعمال المقاومة المسلحة. في هذا السياق ركز العديد من المسؤولين العراقيين والأمريكيين علي دور “الأجانب” و”الإرهابيين القادمين من الخارج” في اذكاء الصراع المسلح في العراق. ولكن هذه التفسيرات والتأكيدات حول الدور “الأجنبي” في تدهور الوضع العراقي تنطوي على اقرار من قبل المسؤولين عن الوضع الجديد في العراق بصحة التنبؤات التي صدرت عن الجهات التي كانت تحذر من الحرب على العراق. فمعارضو الحرب كانوا يحذرون من امكانية تحول العراق، عند احتلال القوات الأمريكية أراضيه، إلى جاذب لأنواع شتى من الحركات الإرهابية والمتطرفة والمسلحة. وكان مؤيدو الحرب، وعلى رأسهم الادارة الأمريكية يقللون من أهمية هذه التحذيرات ويؤكدون على ان الوضع العراقي الجديد سوف يكون آمناً ومستقراً، وأن التأييد الكبير الذي سوف يحظى به هذا الوضع المتغير سوف يلعب دوراً رئيسياً في سد أبواب العراق أمام تسلل الجماعات المسلحة وأمام كل من يلج الأراضي العراقية بغرض منازلة القوات الأمريكية أو تحقيق أهدافه العقائدية والسياسية.

التأكيد على دور “الأجانب” والمتسللين عبر الحدود وتعظيم هذا الدور إلى درجة اعتباره عاملاً حاسماً في استمرار وتصاعد الصراع المسلح في العراق يصب المياه في طواحين نقاد الحرب ونقاد الوضع العراقي القائم. ولكن الأهم من ذلك هو دلالات الجولة العراقية في دول الجوار العربي من زاوية تقويم الأسس العامة التي يستند إليها الوضع العراقي. فهذا الوضع هو وليد نظرة محددة وقاطعة تجاه علاقات العراق الجوارية وتجاه هويته الوطنية. ولقد أسهم “المحافظون الجدد” في واشنطن وبغداد في بلورة هذه النظرة وفي تعميمها وتقوم هذه النظرة على محاربة الفكرة العربية والتقليل من جديتها وفاعليتها إلا في حدود اعتبارها مشرعنة للقمع والظلم وانتهاك حقوق الانسان.

أما في العراق فلقد دأب المحافظون الجدد على انكار صفة العراق العربية وعلى مساواة اسقاط هذه الصفة بتحريره من القمع والاستبداد. وكانت هذه النظرة قاطعة وحاسمة إلى حد انها لم تقتصر على نظام البعث وعلى حكم صدام حسين فحسب، ولكنها اتسعت لكي تشمل كافة اطياف النخبة العراقية الحاكمة التي تولت المهام السياسية منذ ولادة الدولة العراقية المعاصرة. فهؤلاء اشتركوا جميعاً في “تزوير هوية العراق”، وفي الباسه بالزي العربي الذي تخفت فيه كافة المظالم التي ينتقدها المحافظون الجدد.

من هذه الزاوية فإنه من الممكن اعتبار الجولة التي قام بها الوفد العراقي الرسمية على الدور العربية وتأكيداته حول نجاح هذه الجولة يعتبر مؤشراً جديداً على هشاشة نظرة المحافظين الجدد، الأمريكيين والعراقيين إلى المنطقة العربية وإلى العراق. فالحافز الرئيسي إلى قيام بهذه الجولة لم يكن، كما تؤكد بعض المصادر الحكومية في بغداد، التأكد من تعاون دول الجوار العربي في وضع حد لعمليات التسلل من الخارج إلى داخل العراق. ذلك ان العراقيين ليسوا في حاجة إلى وافدين من الخارج لكي يتولى نيابة عنهم مقاتلة المحتلين. العراقيون كانوا دوماً يقومون هم بالانتقال إلى الدول العربية المجاورة لكي يقاتلوا مع أبنائها ضد قوات الاحتلال. هذا لا ينفي قدوم “الأجانب” إلى العراق للاشتراك في العمليات المسلحة ضد هذه القوات. ولكنه يعني انه ليس “للأجانب” ذلك الدور الحاسم الذي تنسبه إليهم بعض المصادر الأمريكية والعراقية. بتعبير آخر ان احكام اغلاق الحدود لا يضع، بالضرورة حداً لأعمال المقاومة المسلحة. هذا ما يعرفه، بالتأكيد، المسؤولون العراقيون ومن ثم فإنه من الصعب الاعتقاد بأن حافزهم الرئيسي إلى القيام بجولتهم العربية هو التوصل إلى ضمانات أكيدة بصدد ذلك الاغلاق.

الأرجح ان هذه الجولة قامت على خلفية قاعدة رئيسية من القواعد التي يدركها كل من يعرف المنطقة العربية معرفة حقيقية. تتلخص تلك القاعدة في ان الحاكم العربي لا يكتسب مشروعيته، عادة، من التأييد الداخلي وحده. ان هذا التأييد ضروري ولا غنى عنه وإلا اضطر الحاكم إلى ممارسة أشد أنواع القسوة والعنف ضد شعبه حتى يبقى في الحكم.

ولكن الحاكم العربي يحتاج عادة حتى يستكمل مشروعيته حتى في الداخل، إلى الحصول على مشروعية عربية. وتلك المشروعية العربية ليست رسمية بحتة ولا أهلية بحتة. إنها مزيج من الاثنين معاً. ومهما كان الرأي في هذه المشروعية، أي سواء كانت في محلها أو لا، أو سواء استخدمها الحاكم العربي استخداماً صحيحاً أو خاطئاً، لمصلحة شعبه أو ضد هذه المصلحة، فإنها تستند، في نهاية المطاف، إلى الترابط الذي يحكم المنطقة العربية والذي أمل المحافظون الجدد اسقاطه عندما تدخل القوات الأمريكية العراق فبقي عنصراً ثابتاً من عناصر السياسة العراقية والعربية.